يولي المقدم جعفر سيد أحمد اهتماماً خاصاً خلال عمله في إدارة مكافحة التهريب بولاية القضارف لوقف عمليات تهريب الدقيق، إلى دولتي إثيوبيا وإريتريا، لما لها من أثر خطير يعاني منه جميع السودانيين، وخاصة المقيمين في منطقتي كسلا والقضارف على الحدود الشرقية للسودان والممتدة بطول 650 كيلومتراً، حسبما قال لـ"العربي الجديد".
ويعمل المهربون في مجموعات منظمة ذات إمكانات كبيرة، إذ تنطلق 150 سيارة يوميا من منطقة سوق ليبيا بأم درمان غرب الخرطوم إلى كسلا والقضارف قبل أن تعبر الحدود الشرقية إلى إثيوبيا وإريتريا، وفي المقابل يأتي المهربون من دول الجوار بالمخدرات بكافة أنواعها، مثل (الشاشمندي)، و(القات)، والأحجار الكريمة، وفق ما رصدته إدارة مكافحة التهريب في القضارف.
ويستخدم مهربو الدقيق سيارات النقل الكبيرة "اللواري" والصغيرة "البكاسي نصف نقل"، بالإضافة إلى الدراجات النارية ذات الصندوق و"التوك توك"، والحمير والإبل بحسب مدير شرطة ولاية كسلا بشرق السودان، اللواء يحيى الهادي.
تسريب قوت السودانيين
ضبطت إدارة شرطة كسلا خلال شهر إبريل/نيسان 2017 تسعة مخازن بمحليات كسلا الشمالية كانت تحوي آلاف الأطنان من السلع المدعومة في طريقها للشحن والتهريب، وهي عبارة عن دقيق وسكر وصابون وجازولين بحسب اللواء الهادي، فيما ضبطت إدارة مكافحة التهريب 1200 جوال من الدقيق كانت مهربة عبر عربات لوري إلى خارج السودان في نفس الفترة، ويبدو تزايد عمليات تهريب الدقيق، في ضبط شرطة مكافحة التهريب 65.497 ألف جوال دقيق خلال عام 2015 والذي شهد إيقاف 12 مهربا، فيما ضبطت 5029 جوال دقيق في عام 2016 وفقا لبيانات موثقة صادرة عن شرطة مكافحة التهريب.
وألقت عمليات التهريب المنظمة للدقيق من السودان بظلالها على أصحاب المخابز والمواطنين السودانيين، ومنهم عبد الحميد عمر صاحب مخبز الخيرات في ضاحية يثرب جنوب الخرطوم والذي يضطر لشراء جوال الدقيق الواحد من السوق السوداء بـ(200جنيه/ما يعادل 31 دولارا أميركيا) حتى يستمر في توفير الخبز لزبائنه، وفق ما قال لـ"العربي الجديد".
ويبلغ سعر جوال الدقيق (50 كيلوغراما) رسميا 158 جنيها ( 24.5 دولارا)، بينما يتراوح بين 210 و240 جنيها ( 32.5 و37 دولارا) في السوق السوداء ويحصل عمر على عشرة جوالات، رغم أن الدقيق المدعوم ينتج خبزا رديئا أشبه بكتلة العجين، بسبب خلطه بطحين الذرة كما يقول.
ويستهلك سكان ولاية الخرطوم 40 مليون رغيف من الخبز يومياً تحتاج إلى 40 ألف جوال دقيق زنة خمسين كيلوغراماً لصناعتها في 2700 مخبز في الولاية، من أجل إطعام 8 ملايين نسمة بحسب المدير العام للاقتصاد بوزارة المالية والاقتصاد وشؤون المستهلك بولاية الخرطوم الدكتور عادل عبد العزيز، والذي أكد لـ"العربي الجديد" إن معظم حصة الخرطوم من الدقيق يتم استهلاكها داخل الولاية نظراً للقوة الشرائية العالية، بينما تنشط في الولايات الحدودية عملية تهريب الدقيق الخام، أو بيع إلى مصانع تنتجه في شكل بسكويت، أو حلويات.
ثمن التهريب
يشتري المهربون جوال الدقيق من السودان بواقع 158 جنيهاً ويبيعونه بـ 350 جنيها (ما يعادل 55 دولارا) بحسب المقدم في إدارة مكافحة التهريب بولاية القضارف، مشيرا إلى أن المحاصيل الزراعية مثل الذرة تهرب أيضا إلى إريتريا بكميات كبيرة حيث تعتبر ولاية القضارف الأضخم إنتاجاً للذرة على مستوى السودان، ويقوم تجار إريتريون بإعادة تعبئتها وتصديرها إلى الصومال وجيبوتي على أنها منتج محلي ما يعود عليهم بالعملة الصعبة.
ويردف: "تجد في أسواق وبقالات المدن الصومالية بضاعتنا المحلية معروضة هناك بنفس أسمائها وعبواتها، وكذلك في جيبوتي. إذ يتم تهريب السمسم والصمغ العربي إلى إثيوبيا".
ولا يتحرج المهرب الثلاثيني صلاح أحمد (اسم مستعار خوفا على أمنه الشخصي) من الإقرار بتهريب 50 جوالاً من الدقيق من منطقة كسلا حيث يمتلك مخزنا من الدقيق، إلى إثيوبيا وإريتريا على عدة مرات، عبر عربته الكارو محققا 9500 جنيه سوداني (1494 دولارا) من وراء عمليات التهريب التي يكفيه دخلها شهرا كاملا، كما يقول.
جدل بين المطالبين برفع الدعم وإبقائه
يحقق مهربو الدقيق المدعوم، أرباحا طائلة نتيجة فارق السعر، ما يؤثر بصورة مباشرة على حاجة المواطن من الخبز كما يؤثر على الاقتصاد الكلي، بحسب المدير العام للاقتصاد بوزارة المالية والاقتصاد وشؤون المستهلك بولاية الخرطوم، والذي يرى ضرورة رفع الدعم عن الدقيق لإيقاف عملية التهريب المستمرة له، وهو ما يرفضه أستاذ الاقتصاد بجامعة إفريقيا محمد الناير، مشيرا إلى أن الحكومة السودانية لجأت إلى رفع الدعم عن بعض السلع لمعالجة التهريب، لكن هذه الخطوة فشلت، لأن ارتفاع أسعار تلك السلع لم يخفف من تهريبها إلى الخارج، ويقول الناير لـ"العربي الجديد": "هذه الخطوة غير ناجحة لأنها ستشكل أعباء جديدة على الشرائح الضعيفة نتيجة لارتفاع الأسعار".
استغلال قانون الجمارك للتصالح
ينص قانون الجمارك لسنة 1986 والمعدل في عام 2010، على معاقبة "كل من تورط في مخالفة أحكام القانون أو اللوائح الصادرة بمقتضاه بغرامة تقدرها المحكمة أو السجن لمدة لا تجاوز سنتين أو بالعقوبتين معا، وتنص المادة 209 الخاصة بسلطة المدير بالصلح في جرائم الجمارك، على أنه "يجوز للمدير إجراء صلح في أي جريمة صنفت على أنها مخالفة للقانون بأن يقبل الشخص المخالف دفع مبلغ من المال لا يقل عن قيمة البضاعة المهربة زائدا الرسوم الجمركية والغرامة التي يجوز توقيعها، مقابل إطلاق سراح الشخص الذي قبل بالصلح، وعدم تحويله للمحكمة".
ويستغل المهربون نص المادة 209، كما يقول اللواء الهادي، إذ لا يتأخرون في التنازل عن البضائع المضبوطة، ويدفعون الرسوم الجمركية والغرامة المقررة"، وبالطبع يتم إطلاق سراحهم ويعودون مرة أخرى إلى التهريب، قائلا لـ"العربي الجديد":"تمرير شحنة واحدة من البضائع عبر الحدود كفيلة بتعويض المهرب عن كل ما فقده من بضاعته".
طائرات بدون طيار لمراقبة الحدود
لكن ما هو الحل الأمثل لمكافحة التهريب؟ يجيب الخبير الناير "علينا محاربة التهريب وتشديد الرقابة على الحدود"، بيد أن مدير شرطة ولاية كسلا اللواء يحيي الهادي يعترف بصعوبة مراقبة الحدود الشرقية الطويلة إذ تخترقها آلاف القرى النائية التي تورط أهالٍ منها في عمليات التهريب.
ويعترف اللواء الهادي أن إجراءات ضبط المهربين ومصادرة بضائعهم لم تحد من نشاط المهربين، ولم توقف التهريب بصورة كاملة، وهو ما يرجعه المقدم جعفر أحمد إلى معرفة المهربين بتحركات الشرطة ومراقبة تلك التحركات ومعرفة خط سيرهم على الحدود السودانية مع دول الجوار، الأمر الذي جعل الشرطة تشرع في إعداد خطة مستقبلية للمراقبة عن طريق طائرات بدون طيار لمراقبة الحدود الطويلة وضبطها أكثر.
وسبق إعداد تلك الخطة كما يقول المقدم أحمد، إنجاز إحصاءات دقيقة للسكان حتى يتم منحهم حصص محددة لتخفيف أعباء التهريب التي تؤثر عليهم بعد أن تم التنسيق بين الشرطة وإدارة الأمن الاقتصادي التابعة لجهاز الأمن الوطني السوداني.
لكن سودانيون يقللون من شأن هذا الإجراء، ومنهم الحاج عبد الرحمن حامد، والذي تخلى عن عن الدقيق، مفضلا الذهاب أسبوعياً إلى المطحنة العتيقة الموجودة في سوق أم درمان الكبير الواقع غرب الخرطوم، حتى يطحن ذرة الدخن (نوع من الحبوب ذات القيمة الغذائية العالية) التي اعتادت أسرته على تناول دقيق طحينها بدلا من دقيق القمح، إذ زاد سعر جوال الدقيق نتيجة لتهريب المدعم منه على 200 جنيه، ما يفوق ميزانيته المتواضعة كما يقول.