مسلسل "حارة اليهود".. أخطاء تاريخية بالجملة

24 يونيو 2015
ملصق دعاية مسلسل حارة اليهود
+ الخط -

في مقال سابق، ذكرت أن ثمة فارقاً كبيراً بين العمل الدرامي والكتاب التاريخي، وأن تجاوز صُناع العمل الدرامي التاريخ لصالح الدراما لا يُقِل من قيمته، مستشهدًا بمقولة للكاتب ألكساندر دوماس "لا بأس أن تعتدي على التاريخ بشرط أن ينجب منك طفلًا جميلًا".

ولكن، رغم ذلك ثمة هامش من الالتزام التاريخي على صانع العمل الدرامي أو الأدبي مراعاته لا لصالح التاريخ ولكن لصالح العمل نفسه، فلا يمكن مثلًا أن تدور أحداث فيلم في بداية القرن العشرين والبطل يرتدي ملابس صيحة السبعينات، أو أن نشاهد معركة في القرون الوسطى تدور بالطائرات والدبابات، يوجد هامش من المنطقية علينا التزامه، أو كما يقول أستاذنا الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "بين الأدب والتاريخ": "يمكن للفنان أن يتحرر قليلًا من قيود الزمان والمكان، ولكنه لا يستطيع أن يقيم عمله خارج حدودهما أو دون الإنسان".

بلى، فإن صانع العمل لو حاول أن يقيم عمله خارجهما فهو يزيد من هامش المخاطرة بمستوى هذا العمل، وربما يقول البعض: "ماذا في ذلك؟ ألم يفاجئ المخرج كوينتن تارنتينو محبيه بأنه في فيلم inglourious basterds قد أظهر نجاح الخطة الانتحارية لاغتيال هتلر وأن الأبطال قد قتلوه هو وهملر بخلاف ما جرى بالحقيقة، ورغم ذلك فقد نجح الفيلم؟".

عفوًا ولكن مع كامل احترامي لكل الآراء ولصُناع الدراما العربية والمصرية، حالة تارنتينو في الفيلم المذكور هي استثناء خاص كما أنه أخرج الفيلم من منطقة "التاريخي" لمنطقة "الفانتازيا".. ثم بحق الله، نحن نتحدث هنا عن تارنتينو!.

أما مقالنا فيتحدث عن مسلسل "حارة اليهود"

***

بدايةً، وللإنصاف، وقبل الحديث عن السلبيات التاريخية في المسلسل، أحيي بشدة فكرة تقديم مسلسل يخرج بشخصية "اليهودي" عن الصورة النمطية المعتادة والموروثة لأجيال جاءت بعد رحيل معظم المصريين اليهود عن أرض أجدادهم منذ عقود، فللأسف توارث جيلنا صورة مشوهة عن اليهودي أنه شخص منغلق على "بنو دينه"، بخيل، حريص على جمع المال، مصاب بعقدة الاضطهاد، متآمر غالبًا ولا ولاء له، إلى آخر هذا الهراء، بينما قدّم المسلسل عدة نماذج لليهودي، بين مزراحي التاجر، هارون ابن البلد، موسى المتعصب، ليلى الجريئة العاطفية، صفوت الأرستقراطي المرفّه، وغيرهم، أي أنه ببساطة قد قدم اليهود كمجرد بشر بهم ما بكل البشر من مميزات وعيوب وصفات وخصائص يتأثر فيها المرء بمحيطه وبيئته ونشأته، والقاريئ لكتابات دكتور عبدالوهاب المسيري في شأن ما يسمى "الشخصية اليهودية" يتأكد من ذلك.

كذلك أبدي إعجابي بمستوى الأداء التمثيلي الرائع، بالذات الفنانين سيد رجب (الفتوة العسال)، منة شلبي (ليلى هارون)، أحمد حاتم (موسى هارون) وهالة صدقي (معلمة بيت الدعارة).. وإعجابي أيضًا بالموسيقى التصويرية الرائعة للعمل-للفنان أمين بوحافة-والتي جاءت متناسقة جدًا مع مشاهده.

هذا عن الإيجابيات، فماذا عن السلبيات التاريخية سالفة الذكر؟

***

لن أركز كثيرًا على بعض الأخطاء العابرة، كمشهد رقص ابتهال ابنة الفتوة سنة 1948 على أغنية "سمرا يا سمرا" للفنان كارم محمود والتي ظهرت في الخمسينات! أو مشهد أغنية "هافا ناجيلا هافا" بتوزيع تسعيناتي، ولنركز على الأمور الأكثر تأثيرًا في العمل الدرامي.

-اليهود:

حتى الحلقة السادسة لم يوضح المسلسل طائفة أبطاله من اليهود، وإن جاء تلميح بسيط في الحلقة الأولى أن عائلة "هارون" من طائفة متشددة لا تقبل التزويج خارجها حتى لو ليهودي، وإن صح ظني بناء على هذه العبارة فإن عائلة هارون تنتمي لليهود القرائين، وبالفعل كان حاخام هذه الطائفة قد أمر أبناءها بعدم الزواج خارجها، إلا أن بعض مثقفيها الحريصين على التقارب مع الطائفة الربانية قد نصح بالزواج المختلط تشجيعًا على التقارب.

هذه ليست المشكلة، المشكلة أننا نرى الأم اليهودية المتدينة المتزمتة تخرج في صباح السبت (شاباط) وتشتري الحمام وتطلب من الذابح الشرعي (شوحيط) أن يذبح الطائر، وتراقب عملية الذبح الشرعي (شوحيطاه)-والذي جاء بالفعل مطابقًا للحقيقة-ثم تقدم الطعام في المساء لأسرتها مطهوًا.

كم من المخالفات نلاحظ؟ شراء-من المحرم حمل النقود والتعامل بها يوم السبت -والطامة الكُبرى:الطهو، أي إيقاد النار، حيث يتجنب المتدينون ذلك ويحلون مشكلة التحريم بأن يضعوا قدور الطهو على النار الهادئة قبل مغرب الجمعة (الشباط يبدأ من مغرب الجمعة لمغرب السبت) ويتركونه ينضج ببطء ثم يعدون المائدة في نهاية الشاباط.

أما عن المعبد، فلو عدنا لافتراض أن عائلة هارون قرائية، فسنكون أمام خطأ فادح هنا، حيث إننا نراهم في المسلسل يدخلون إلى المعبد بأحذيتهم، بينما يتعامل القراءون مع معابدهم كما يفعل المسلمون، فيخلعون الأحذية قبل دخولها أسوة بالنبي موسى حين خلع نعليه عند مخاطبة الله له، أما لو كانوا ينتمون للطائفة الربانية فالأمر سيختلف بالتأكيد.

كذلك في الصلاة، صحيح أن المشهد جاء مقاربًا للواقع حيث إن النساء كن يصلين في مقصورة عليا، منفصلات عن الرجال، ولكن المعروف عن المتدينين الشرقيين-أيًا كانت دياناتهم-أنهم يحرصون في ملبسهم ليوم الصلاة على التزام الوقار المناسب للموقف (ومن يرى المسيحيات الأرثوذكسيات يوم الأحد يلاحظ ذلك)، في المشهد رأينا المصليات يرتدين أوشحة للرأس لتغطية الشعر ولكن ماذا عن الأذرع العارية؟ وهل كانت أغطية الرأس بهذا الشكل البسيط؟ واقع الأمر أن المرأة اليهودية المتدينة-المصرية على الأقل-كانت تحرص على ارتداء ما يشبه الحجاب الإسلامي على رأسها وهي في المعبد.. بل أن بعض اليهود كانوا يتحرّجون من سجود المرأة عند الصلاة كيلا ينكشف أي جزء من جسمها.

ثمة مسألة أخرى، وهي مما يتكرر في الدراما المصرية عند ظهور شخصية لغير مسلم، كلمة "الرب"، فكثيرًا ما يقول الممثل "الرب يفعل كذا.. بسم الرب.. يرحمه الرب"، مع أن الواقع أن المصريين جميعًا بمختلف أديانهم يقولون "الله" بشكل طبيعي وتلقائي، أنا شخصيًا قضيت 13 سنة من عمري في مدرسة مسيحية وبين أصدقائي عدد كبير من المسيحيين-بل وكان أحد أقربهم إليّ يهوديًا، ولم أسمع أيا منهم يتحدث كما يحدث في الدراما المصرية وكأنما يريد كل من المخرج وكاتب الحوار أن يقولا "هييه.. أنت.. هذه شخصية غير مسلم فلا تنس".

للأسف حدث هذا في موقفين: عندما كانت الأم اليهودية تتحدث لابنتها فجاء ذكر النبي موسى فلم تقل "موسى" بل قالت "الكليم"، وعندما كانت الابنة تصلي في المعبد وخاطبها الحاخام بـ "الرب يفعل كذا والرب سيقول كذا..إلخ" مع أن المعروف أن أسلوب حديث أي شخص لا يتأثر بدينه بقدر ما يتأثر بمحيطه البشري، فلا يوجد أي مبرر لإظهار غير المسلم وهو يتحدث بطريقة تختلف عن تلك التي للمسلمين.

-الشاب الذي أقنعه الشيوعيون بالصهيونية!

في مشهد من العمل، نرى الشاب المتحمس موسى يتحدث عن حلم "إسرائيل" وعن فكرة العودة لأرض الميعاد..إلخ.. وحين تسأل الأم بدهشة عن الذي اعترى ابنها تقول الابنة ليلى بثقة إنه "ملموم على عيال شيوعيين مجننينه".

حسنًا، دعونا نتعامل مع هذا القول الصادم بهدوء، في تلك الفترة كان لدى البعض خلط بين الشيوعية والفكر الاستيطاني، ربما لأن المستوطنات كانت تدار بشكل أقرب للاشتراكية، كذلك فإن الأفكار الاشتراكية والشيوعية كانت منتشرة بين كثير من الشباب اليهودي في الطبقتين الأرستقراطية والوسطى.

والنشطاء الشيوعيون في مصر كانت بينهم أسماء يهودية بارزة مثل يوسف درويش وهنري كورييل بل وكان مؤسس أول حزب شيوعي مصري يهوديًا هو جوزيف روزنتال، وللأسف فإن فئة لا بأس بها من المصريين-بالذات ضعاف الثقافة والتعليم-كانت تخلط بين "يهودي" و"صهيوني".

إضافة لذلك فإن العام 1948 قد شهد موجة اعتقالات جزافية بين المعارضين، ضمت عددًا من اليهود لم تفرق في شأنهم بين الصهيوني أو الشيوعي أو من ليس هذا ولا ذاك.

بل وتقول الدكتورة لطيفة سالم في كتابها "فاروق من الميلاد إلى الرحيل"، إن الملك فاروق كان يحاول إقناع بريطانيا بخطر دعمها لإسرائيل من منطلق أنها ستكون "دولة شيوعية"، (هذا رغم العداء الطبيعي من الشيوعيين لفكرة إسرائيل)، لذا فمن الطبيعي جدًا أن يقع البعض في خلط بين الدعاوى الصهيونية وتلك الشيوعية.

ولكن..

هل من الطبيعي أن تقع في هذا الخلط فتاة متعلمة مثقفة عقلانية مرتبطة بشخص مثقف يحرص على القراءة وحضور الندوات؟ ثم إن شخصية "ليلى" يبدو من حديثها أنها مُطَّلِعة بشكل جيد على ما يحدث حولها بل وخارج محيطها، فكيف لا تستطيع أن تميز بين الصهيوني والشيوعي؟

ثم أين هؤلاء الأصدقاء الشيوعيون؟ إننا لم نر له صديقًا يسلم له أذنيه سوى "صفوت" الشاب الأرستقراطي المرفّه والذي لم نر له أية توجهات شيوعية في المسلسل.

-أميركا تدعم إسرائيل:

في أحد المشاهد يقول والد الضابط علي (قام بدور الأب الفنان سامي العدل): "وهل ستترك أميركا وبريطانيا وفرنسا اليهود يخسرون الحرب؟".

وفي مشهد الهجوم الصهيوني على المعسكر المصري في فلسطين نرى طائرة تحمل على ذيلها علم أميركا (بالمناسبة.. الطائرات ظهرت ومستوى ارتفاعها عن الأرض منخفض بشكل مريع لا يتأتى لأكثر الطيارين جنونًا مما أفقد المشهد منطقيته).

ثمة مشكلة هنا أن عدداً ضخماً من الناس يؤمن أن إسرائيل هي صناعة أميركا من البداية، مع أن الواقع أن إسرائيل هي جنين حملته رَحِم بريطانيا ثم ساهمت فرنسا في إرضاعه، وأخيرًا عندما وصل لسن البلوغ انتقل لرعاية أميركا.

بلى، فالقارئ مثلًا لكتاب مثل "ملفات السويس" للأستاذ المؤرخ محمد حسنين هيكل، يلاحظ أن أميركا لم تظهر في الصورة كداعم لإسرائيل إلا فيما بعد حرب 1956 بفترة لا بأس بها، أما قبل ذلك فقد كان واضحًا أن صناع السياسة البريطانيين هم الذين يرعون إسرائيل.

هذه سقطة فادحة لم أتصور قط أن من الممكن لصناع مسلسل تاريخي في مرحلة تمتلئ فيها مكتبتنا التاريخية بمراجعها أن يقعوا فيها!.

-جماعة الإخوان المسلمين.. بين التقاعس عن فلسطين ومهاجمة اليهود:

تضمن المسلسل مشاهد تظهِر الإخوان مظهر المتقاعسين عن السفر للمشاركة في الحرب ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، بالتوازي مع مشاهد لشخصية حسن البنا وهو يحرض بشكل مبطن خبيث -كما يعرض المسلسل- على مهاجمة المصالح اليهودية في مصر.

أي قارئ لتاريخ حرب 1948 يعرف أن جماعة الإخوان المسلمين لم تتقاعس عن إرسال بعض رجالها-من جنسيات عربية مختلفة-لـ"الجهاد" في فلسطين، بل ومن المعروف أن هذه المسألة التاريخية تعتبر من الركائز التي تقوم عليها الدعاية السياسية الإخوانية فيما بعد ذلك، وأن قضايا مثل "فسلطين-القدس-الأقصى..إلخ" تعتبر من أساسيات الخطاب الدعائي والحماسي الإخواني.

صحيح أن الحديث عن مفعول المشاركة الإخوانية-في رأيي-مبالغ فيه ومضخّم بشكل كبير، ولكن في المقابل لا يمكن الادّعاء بأنهم تقاعسوا عن المشاركة، بغض النظر عن آرائنا، في فاعلية هذه المشاركة أو قيمتها أو الهدف منها.

أما عن مسألة مهاجمة الممتلكات اليهودية، فهنا لابد أن تكون لنا وقفة محايدة، الواقع التاريخي يقول إن القول بأن "هذه الجماعة أو تلك، أو هذا الشخص أو ذاك، لا يمكن أن يفعل كذا وكذا" هو هراء، فهذا الواقع ينطبق عليه قول اسمحوا لي أن أنقله لكم بالعامية كما قرأته يومًا "أي حد ممكن يعمل أي حاجة في أي وقت وتحت أي ظرف"! بالتالي فإن تبرئة الإخوان من هذه التهمة من منطلق أن "لا يمكن أن يفعلوها" هو محض سذاجة وهراء.

في المسلسل أشارت أصابع الاتهام في التفجيرات والاعتداءات إلى ثلاثة تفسيرات: جماعة الإخوان، الصراع بين القرائين والتلموديين، المجموعات الصهيونية الراغبة في إشعار اليهود بالاضطهاد ودفعهم للهجرة لإسرائيل.

في رأيي كمشتغل بالتاريخ أن هذه القضية تقع في نفس منطقة التساؤلات التاريخية من نوعية: من قتل كيندي؟ من وراء مقتل سعاد حسني؟ هل عرف مبارك بخطة اغتيال السادات؟ من قتل عباس حلمي الأول؟ هل انتحر المشير عامر أم قُتِل؟ هل وفاة عبدالناصر طبيعية؟ إلخ.

تعالوا نتناول الفرضيات: هل يمكن أن تكون هذه التفجيرات في إطار الصراع بين القرائين والتلموديين؟ وارد، فالتعصبات الدينية والمذهبية عبر التاريخ ولمختلف الأديان أدت لما هو أكثر من ذلك، ولكن تلك الفترة كانت تشهد تقاربًا بين أهل المذهبين، هل يمكن أن يكون المسؤولون عنها هم بعض الصهاينة ممن يريدون أن يُشعِروا اليهود المتمسكين بالبقاء في مصر بالخطر لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل؟.

هذا كذلك أمر وارد الوقوع، بل وثمة قرائن ودلائل قوية على أن الصهاينة كانوا يقومون به في دول عدة، والقارئ لكتاب مثل "الصهيونية والعنف" للدكتور عبدالوهاب المسيري يجد نماذج لذلك، بل وفي كتابه "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ" نجد حديثًا عن "تواصُل" صهيوني نازي لتشجيع النازيين على مزيد من الاضطهاد لليهود، وكل هذا لدفعهم للانتقال من حالة الشتات (دياسبورا) إلى حالة العودة لأرض الميعاد.

ماذا عن جماعة الإخوان المسلمين؟ هل يمكن أن تكون الاتهامات الموجهة لهم بالضلوع في العنف ضد المصريين اليهود صادقة؟

هذا أيضًا غير مستبعد، فأولًا إن الخطاب الإخواني-وخطاب التيار الديني عامة-لا يحمل تفرقة بين اليهودية والصهيونية (ومن يتذكر شعارات مثل: خيبر خيبر يا يهود واليهود هم اليهود يدرك ذلك).

كذلك فإنه خلال تلك الفترة كانت الشرطة المصرية قد ضبطت 165 قنبلة وصندوقًا للأسلحة في منطقة منعزلة قرب جبل المقطم بالقاهرة، وهذا بعد معركة مع بعض شباب الجماعة والذين قالوا إن الأسلحة كانت في طريقها لفلسطين، فهل كانت كذلك حقًا؟ وفي أكتوبر 1948 عثر الأمن على مخبأ للأسلحة والذخيرة في مزرعة مملوكة لواحد من قيادات المتطوعين الإخوان في فلسطين (المصدر كتاب: الإسلاميون-بشير موسى نافع-مركز الجزيرة للدراسات).

ولكن، هل يمكن لي كباحث تاريخي أن أعتبر هذا دليلًا على مسؤولية الإخوان عن تلك الهجمات؟ الحقيقة أني حتى الآن-مع التشديد على "حتى الآن"-لا أرى ذلك. فعندما تقع جريمة ويتعدد المستفيدون منها، وتتعدد الأطراف المرتبطة بها، فإن من العبث أن نسارع لنسبها لطرف بعينه فقط خاصة مع تساوي الدوافع والفوائد لدى كل الأطراف.

وثمة ملاحظة لي على مشهد حديث حسن البنا وتحريضه على مهاجمة اليهود، فلو افترضنا أنه قام بذلك بالفعل، فهل من المنطقي أن يفعله في مؤتمر مفتوح أمام شباب الجماعة بكل صراحة ومباشرة رغم أنه في تلك الفترة كان قد تم استدعاؤه للاستجواب القضائي والأمني حول علاقة جماعته بالهجمات المذكورة؟.

بالطبع فمؤلف العمل له الحق في الاقتناع بأية اتهامات لهذه الجهة أو تلك بالمسؤولية عن هذا العمل أو ذاك، (وأنا ضد افتراض سوء نوايا صناع العمل من منطلق رفضي مبدأ الوصاية على النوايا بشكل عام) ولكنني دائمًا أقول إنه في ما يتعلق بالوقائع التاريخية الغامضة محل الجدل، فإن الانحياز لموقف بعينه هو مما يُفقِد التاريخ متعته.

-بين الضابط علي والجيش الإسرائيلي والفلسطينيين:

خلال المسلسل نرى الضابط علي (قام بدوره الفنان إياد نصار) يقع في أسر الإسرائيليين، وعند استجوابه نرى كارثتين:

الأولى هي أنه يرفض الإدلاء ببياناته العسكرية، ثم بعدها يحتج بحقوقه كأسير حرب، مع أن اتفاقية جنيف تقرر أن الأسير العسكري عليه الإدلاء لآسره باسمه ورتبته ورقمه المسلسل-فقط-وإلا فإنه يكون مهددًا بالانتقاص من حقوقه كأسير حرب، فهل من المنطقي أن يخالف الرجل ضوابط ثم يحتج بها؟.

الثانية هي المترجم الفلسطيني، فصناع العمل قد بذلوا جهدًا في العثور على ممثلين يجيدون العبرية، ولكنهم عجزوا عن العثور على ممثل يجيد اللهجة الفلسطينية أو حتى مصحح للهجات، بل كان يمكنهم أن يستعينوا بمساعدة الفنان إياد نصار نفسه باعتبار أنه فنان أردني مما يجعل اللهجة الفلسطينية مألوفة له!.

وثمة مسألة أخرى، فعلي يتعرض بعد أسره لوصلة من التعذيب خلال أول أيام وصوله، وهو أمر غير مستبعد الوقوع لما هو معروف عن الإسرائيليين من انتهاك لحقوق الأسرى، ولكن القارئ لمذكرات الأسرى العسكريين لدى الإسرائيليين يلاحظ أنهم في ما يتعلق بالضباط بالذات من كان منهم يؤدي وظائف هامة -(كان يتم استجواب علي لمعرفة الإسرائيليين أنه يقوم بتطوير الأسلحة)- كان آسروه يحرصون على معاملته بشكل جيد في إطار محاولة للسيطرة نفسيًا عليه ودفعه للتعاون من خلال إقناعه بذلك.

-عن الجندي الإنجليزي جوني:

يبدو أن صناع المسلسل قد توقف بهم الزمن عند ما قبل 1936 في ما يتعلق بالوجود البريطاني في القاهرة، ففي بعض الحلقات نرى "النطّاط"-أحد رجال الفتوة العسال-يمرق عن طاعة سيده ويتوجه لمكتب أحد الضباط البريطانيين ليعمل لصالحه جاسوسًا، ومن حديث هذا الضابط نستنتج أن "القائد" قد "قرر" أن يصبح النطاط هو فتوة المنطقة.

هذا مما يحدث سنة 1948، مع أن ثمة حقيقة بسيطة تقول إنه بموجب معاهدة 1936، القوات البريطانية قد تمركزت عند قناة السويس، صحيح أن بموجب نفس الاتفاقية فقد صار للجيش البريطاني استخدام الطرق والموانئ والمواصلات المصرية، وأن الدبابات البريطانية قد حاصرت القصر الملكي سنة 1942 لإجبار الملك فاروق على تعيين النحاس باشا رئيسًا للحكومة، ولكن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت منذ 3 سنوات، والقيادات العسكرية البريطانية لم يعد لها ذلك التداخل مع الحياة المصرية وتلك السلطة التي تسمح لـ"جوني" بأن يختار الفتوات وأن يقرر من يفعل ماذا.

-أسطوانة الأسلحة الفاسدة:

من الأمور التي تثير جنون أي باحث تاريخي التفسيراتُ المعلبة للوقائع والأحداث، من هذه "المعلبات" تفسير خسارة العرب لحرب فلسطين 1948 بمسألة "الأسلحة الفاسدة التي اشتراها القصر"، هذا التفسير تحول إلى أسطوانة مشروخة لأغلب الأعمال الدرامية التي تتحدث عن هذه المسألة، تدور وتدور بلا كلل أو ملل.

مع أن الواقع يقول إن نتائج الحروب والمعارك عادة ما تتعدد تفسيراتها وتنقسم بين أسباب ميدانية، سياسية، تسليحية، تدريبية، أسباب مرتبطة بالخطط، الأداء، الروح المعنوية، الضغوط الخارجية وتلك الداخلية، إلخ.

وإن كان من الطبيعي أن يردد تفسير "الأسلحة الفاسدة" بعض عوام الناس، فهل من المنطقي أن نسمعه من شخصية "علي" وهو الذي تم تقديمه كشخص عقلاني مثقف ليس من المنطقي أن يكرر ما يسمع فحسب؟، وهزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين 1948 بالذات تعددت التحليلات والتفسيرات لها، بين من قال بأن الجيش لم يجد الوقت الكافي للتدريب على الأسلحة المستوردة حديثًا، ومن يتحدث عن الحظر الغربي على توريد السلاح، مما اضطر مصر لشرائه من خلال وكلاء وما ترتب على ذلك من عمليات تلاعب مشبوهة بالسلاح، ومن قائل بأن بريطانيا خشيت من توريد المدرعات لمصر خوفا من استخدامها ضد القوات البريطانية المتمركزة في القنال، إلخ.

ثمة حقيقة بسيطة: هي أن الملك فاروق قد زار بنفسه خطوط القتال الأمامية، إضافة لحرصه الشديد على أن يبدو في مكان القائد المنتصر والحاكم المظفر، فهل يتفق هذا مع اتهامه بعقد صفقات أسلحة فاسدة تترتب عليها هزيمة جيشه الذي كان يعتز جدًا به؟ الأمر كله غير منطقي وسواء اتفقنا مع الاتهام أو اختلفنا فإنه يحتاج إلى مزيد من التأمل والبحث.

***

ما زلتُ على رأيي الفصل بين تقييم الدراما التاريخية كدراما وتقييم العمل التاريخي المتخصص كعمل تاريخي. وما زلتُ كذلك على موقفي من أن من حق صانع العمل الدرامي أو المكتوب أن يخرج عن بعض التفاصيل التاريخية لصالح العمل، ولكن حتى هذا التجاوز له هامش خاص، حتى لا يصبح الخروج عن التاريخ خروجًا عن المنطقية.

ولا أجد ختامًا لتناولي لمسلسل "حارة اليهود" أفضل من عبارة لأستاذنا د.قاسم عبده قاسم في كتابه "بين الأدب والتاريخ" حيث يقول: "يستغل الروائيون حرية الفن وانطلاق الإبداع الأدبي لكي يمزجوا بين حقائق التاريخ وجماليات الإبداع، ويكون عملهم أنجح ما يكون عندما يحققون التوازن بين الصدق التاريخي والصدق الفني. وهو ما يعكس الحقيقة القائلة بأن الإنسان هو الموضوع المشترك لكل من الأدب والتاريخ. وهنا نجد أن الحدود بين الأدب والتاريخ حدود واصلة وليست حدودًا فاصلة".

-المراجع:

-موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: د.عبدالوهاب المسيري

-تاريخ يهود النيل: جاك حاسون

-شتات اليهود المصريين: جوئيل بنين

-بين الأدب والتاريخ: د.قاسم عبده قاسم

-الإسلاميون: بشير نافع موسى

-تاريخ اليهود السياسي: د.علي عبد فتوني

-الصهيونية والعنف: د.عبدالوهاب المسيري

-فاروق من الميلاد إلى الرحيل: د.لطيفة سالم

-الجماعات الوظيفية اليهودية: د.عبدالوهاب المسيري

-الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ: د.عبدالوهاب المسيري

-ملفات السويس: محمد حسنين هيكل

-القانون الدولي الإنساني: د.محمد فهاد الشلالدة

--------
اقرأ أيضا :
الأسرى المرضى في سجون الاحتلال.. حكاية موت معلن
"العربي الجديد" تخترق عصابة صهيونية تستهدف الفلسطينيين
بالوثائق: التطبيع بين المغرب وإسرائيل من البذور للتمور