استهداف مزارعي الأغوار... حرائق إسرائيلية موسمية تلتهم سلة غذاء المملكة
تحترق مزارع الأغوار الأردنية عاماً وراء عام بسبب حرائق تبدأ من الجانب الإسرائيلي في كل مرة وتمتد لتستهدف سلة غذاء المملكة، بينما لم يتلق الفلاحون تعويضاً من السلطات المختصة والتي يحملونها مسؤولية عدم وقف الانتهاكات.
- أعاد الفلاح الأردني محمود أبو حليحل غرس شتلات الحمضيات في مزرعته الواقعة في قرية المشارع بلواء الأغوار الشمالية في محافظة إربد بالقرب من المعبر الشمالي باتجاه فلسطين، بعد ما أتى حريق امتد من الجانب "الإسرائيلي" في 31 مايو/أيارعام 2021 على الأشجار المثمرة.
في كل مرة تحترق مزرعة أبو حليحل يعيد غراسها من دون كلل، إذ احترقت 4 مرات، الأولى في عام 1996 ثم في عامي 2004 و2005، وصولا إلى حريق العام الماضي والذي كان الأكثر خسارة بسبب تضرر 150 دونما (الدونم يعادل 1000 متر مربع) من أصل 250 دونما، بينها 120 دونما مزروعة بأشجار الحمضيات التي تجاوز عمر بعضها 30 عاما، بالإضافة إلى 30 دونما مزروعا بالقمح، ما أسفر عن خسارة تقدر بـ 20 ألف دينار أردني (28.209 دولارات أميركية).
وبالإضافة إلى أبو حليحل، يعانى 25 مزارعا آخرون وثقت "العربي الجديد" خسائرهم المتتالية من الحرائق الإسرائيلية التي تدمر مزارعهم في منطقة الأغوار المحاذية للشريط الحدودي، وهو ما تؤكده بيانات مديرية الأغوار الشمالية بشأن الحرائق التي وثقتها منذ عام 1996، ومن بينها ما جرى في بلدة المنشية بتاريخ 26 يونيو/حزيران، إذ تعرضت لحريق طال المزارع الحدودية وقُدرت أضراره بقيمة 3000 دينار أردني (4231 دولارا)، كما تَلفت شبكة ري بالتنقيط وتعادل كلفتها 15.530 دينارا (21.904 دولارات)، وتكررت الوقائع وصولا إلى العاشر من مايو 2004، إذ نشب حريق غرب قرية وقاص وكانت تكلفة الأضرار التي خلفها 1365 دينارا (1925 دولارا).
وتسبب الحريق الذي امتد لمنطقة الزور بين منطقتي المشارع ووادي الريان، في 13 تموز/يوليو 2005، في أضرار بقيمة 17.792 دينارا (25,095 دولارا)، كما شب حريق في منطقة الباقورة عام 2009 لم يوضح التقرير قيمة ما تسبب به من خسائر.
ويكشف تقرير فني آخر، صادر عن مديرية الأغوار الشمالية في 20 حزيران 2018، حصلت عليه "العربي الجديد"، أن حريقا نتج عن انتقال النيران من الطرف الإسرائيلي امتد إلى 8 وحدات زراعية في المشارع شرق النهر، وتسبب بحرق كلي وجزئي لمساحات مزروعة بأشجار الحمضيات، ولأنابيب الري والمناحل.
يعتبر حريق مايو 2021 الأعنف من حيث الأضرار
أما الحريق الأكبر من حيث الأضرار، فكان في العام الماضي بمنطقة الباقورة، وأتى على 500 دونم زراعي بحسب بيانات الجمعية العربية لحماية الطبيعة (منظمة مجتمع مدني تعنى بحماية الموارد الطبيعية)، بينما أشارت وزارة الزراعة الأردنية في ردها على "العربي الجديد" إلى أن 150 دونما تضررت بفعل الحريق الذي أتى على 195 شجرة حمضيات، و100 شجرة حرجية، و40 شجرة زيتون و10 أشجار رمان، وأتلف 50 خلية نحل ومواد زراعية، إضافة إلى تلف محصول شعير مزروع على مساحة خمسة دونمات.
ذرائع أمنية
احترقت مزرعة محمود عوض الواقعة في بلدة المشارع مرتين، كانت آخرهما في مايو الماضي، إذ قضى الحريق على 10 دونمات من أشجار الحمضيات المنتجة بخسارة قدرها 15 ألف دينار (21.156 دولارا)، كما يقول مؤكدا أن الحريقين مفتعلين ومتعمدين، لأنه وبالتزامن مع اشتعال النيران، كانت طائرات الإطفاء في الجانب الآخر حاضرة وسرعان ما سيطرت عليها، بينما ظل المزارعون في الجانب الأردني ينتظرون وصول الأجهزة الأمنية وسيارات الإطفاء مدة ساعتين.
وتطابق رواية عوض إفادة مدير المشاريع التأهيلية في الجمعية العربية لحماية الطبيعة محمد قطيشات، إذ كانت طواقم الجمعية موجودة وشهدت اندلاع أكثر من حريق، ورصدت مؤشرات تدل على أنها مفتعلة، أبرزها جاهزية سيارات الإطفاء لدى اشتعال الحريق في الجانب الآخر وسرعة السيطرة عليه في وقت كان الحريق يلتهم المزارع في الجانب الأردني.
ويؤكد عدنان خدام، رئيس اتحاد مزارعي وادي الأردن (نقابة للمزارعين)، ما ذهب إليه قطيشات بقوله إن "إسرائيل تتعمد وتفتعل الحرائق لعدة أسباب، أهمها سياسة الاحتلال التهجيرية التي تستهدف مزارعي الأغوار، كما تشعلها لدواع أمنية حتى تكون منطقة الأغوار مكشوفة بالنسبة لهم، لذلك يستخدمون قنابل الإنارة (تضيء المكان عبر مادة متوهجة) بالقرب من الحدود ليلا والتي تتسبب في اندلاع الحرائق، كما أنهم يشعلون الحرائق في الأعشاب الجافة عند الشريط الحدودي لإنارة المنطقة ومراقبة الحدود ومنع التسلل إلى جانبهم.
ويؤكد المزراعون الذين قابلتهم معدة التحقيق أن الحرائق لا تقع ليلا فقط، بل إن العديد منها وقع نهارا، والاحتلال يعمد إلى إشعالها في بداية موسم الصيف عندما تجف الأعشاب وينخفض منسوب المياه في نهر الأردن الفاصل بين الجانبين، ما يسهم في تمددها بسرعة والتهام أكبر عدد من الأشجار على امتداد المزارع الأردنية ويفقد المزارعون الموسم بأكمله، بحسب توضيح رئيس نقابة المهندسين الزراعيين في إربد المهندس ماجد عبندة، مؤكدا أن الخطر الأكبر يكمن في اعتداء الاحتلال المتكرر على سيادة الأراضي الأردنية.
خسائر كبيرة بلا تعويضات
زارت فرق كشفية من وزارة الزراعة الأردنية المزارع المتضررة عقب الحريق الأخير لحصر الأضرار وتعويضها، وفق تأكيدات المزارعين لـ"العربي الجديد"، لكنهم يقولون إنهم لم يتلقوا أي تعويضات عن خسارتهم حتى بداية أغسطس/آب الجاري، كما أجمع المزارعون على عدم تلقيهم سابقا أي تعويضات أيضا.
ويفترض تعويض المزارعين من صندوق المخاطر الزراعي التابع للوزارة مع الأخذ بعين الاعتبار مساحة الأراضي التي طاولها الحريق وأنواع الأشجار المثمرة المتضررة، إضافة إلى محاصيل الحبوب والمزروعات الخضرية إن وجدت، والعمر الإنتاجي لكل محصول، وكم تضرر من الأشجار الحرجية ومستلزمات الإنتاج، بحسب الناطق الإعلامي باسم الوزارة لورنس المجالي، الذي لفت إلى أن الجانب الإسرائيلي لم يتكفل بأي تعويض وفق رده.
لكن أبو حليحل، وهو المتضرر الأكبر من آخر حريق، يقول إنه مهما كانت قيمة التعويضات فإنها لن تغطي الأضرار التي لحقت بمزرعته، إذ تبلغ أرباحه سنويا من أشجار الحمضيات التي احترقت بين 15 و20 ألف دينار أردني (21 ألف دولار و28 ألف دولار)، وما يضاعف الخسارة أن الأشجار مثمرة ومنتجة، وليست شتلات صغيرة، لكنه يحاول بشكل ذاتي إحياء أرضه، إذ زرع ما يقارب 40 دونما بـ2000 شتلة حمضيات، منحته إياها مؤسسة مجتمع مدني، معتبرا أنه من الأولى اتخاذ إجراءات صارمة وموقف حكومي واضح للحيلولة دون تكرار هذه الحرائق.
لم يتلق المزارعون الأردنيون تعويضات عن خسائرهم المتتالية
ولا يملك المزارع إبراهيم الغزاوي القدرة المالية على إعادة زراعة أرضه التي حُرقت، والتي كانت توفر له دخلا سنويا يتراوح بين 20 ألف دينار و25 ألف دينار (35.261 دولارا)، وما زال لديه أمل في الحصول على تعويض ليعاود زراعتها، وهو ما يأمله المزارع يحيى الغزاوي الذي أرهقته المراجعات المستمرة لوزارة الزراعة لمتابعة التعويضات، إذ تقدر خسارته في الحريق الأخير بـ30 ألف دينار (42.313 دولارا) نتيجة احتراق 15 دونما مزروعة بأشجار الحمضيات، إذ كان الدونم الواحد يعود عليه بأرباح سنوية تتراوح بين 1000 دينار و1500 دينار (1410و2116 دولارا).
ولم يقتصر ضرر الحرائق على الأشجار المثمرة، بل شملت الثروة الحيوانية، وصهاريج المياه والأعلاف وشبكات الري وخلايا النحل، إذ خسر النحال عبد الله أبو مور الذي كان يضع خلايا نحله في مزارع الحمضيات، 186 خلية نحل في حريق نشب في المشارع بتاريخ 20 يونيو 2018، وبدأ من الجانب الإسرائيلي وامتد إلى الجانب الأردني وفقا لتقرير لجنة الكشف الفني التابعة لمديرية الأغوار الشمالية والذي حصل عليه "العربي الجديد"، ويبين أبو مور أن المنحل احترق بنسبة 100%، وشملت الخسارة أدوات وعسلا يقدر بـ 425 كيلو غراما، إذ وقع الحريق قبل قطف العسل بأربعة أيام، مقدرا خسارته بـ 45 ألف دينار (63.470 دولارا)، وبالرغم من مراجعته الوزارة منذ عام 2018 إلا أنه لم يحصل على أي تعويض وفقا لروايته، ما حدا به إلى بناء قواعد جديدة للمنحل وشراء النحل والأدوات اللازمة لمباشرة عمله مرة ثانية واضطرإلى دفع مبلغ 25 ألف دينار (35.261 دولارا) في مقابلها.
استهداف سلة غذاء المملكة
يعتبر غور الأردن من المصادر الرئيسية لرفد السوق الأردنية بالحمضيات، إذ يحتوي على 63.000 ألف دونم مزروعة بمختلف أصنافها، بإنتاج سنوي ما بين 150 ألف طن و170 ألف طن، بالإضافة إلى ما يتراوح بين 10 آلاف دونم و14 ألف دونم تزرع بالخضروات في أراض مكشوفة، وما يتراوح بين 10 آلاف و13 ألف بيت بلاستيكي (زراعة محمية) ترفد السوق الأردنية بالخضروات عبر مساحة تتراوح بين 5 آلاف دونم و6500 دونم، بحسب بيانات وزارة الزراعة التي وصلت إلى "العربي الجديد".
وتسببت الحرائق الإسرائيلية في تراجع إنتاج المزارع الأردنية، إذ بلغ مجمل إنتاج الشونة الشمالية التي تضم لواء الأغوار الشمالية 104.285 أطنان في صيف عام 2018، بينما بلغ في الشتاء 91.052 طنا، لكن اندلاع الحريق في هذا العام وتدمير مزارع الحمضيات المثمرة، أدى في العام التالي إلى انخفاض كبير في إنتاج الموسم الصيفي الذي بلغ 56.512 طنا، بينما كان 110.359 طنا في الشتاء، وتزايد حجم انخفاض الإنتاج الصيفي ليصل إلى 34.439 طنا في عام 2020، وفي الشتاء عاد إلى مستوى 91.661 طنا، بحسب ما تكشفه قراءة في البيانات المنشورة عبر دائرة الإحصاءات العامة.
ويفسر المتخصص في إدارة الموارد الطبيعية والبيئة ورئيس نقابة النحالين الأردنيين الدكتور محمد الربابعة هذا الانخفاض بخسارة الكثير من الأشجار المثمرة التي تنتج في مواسم محددة، كما يسفر تعرض الأشجار إلى درجات حرارة عالية بشكل مباشر عن القضاء على النواة الجديدة التي تحمل الثمر في السنة التالية، كما أن تكرار الحرائق يؤدي إلى موت الغطاء النباتي سواء من الأشجار الحمضية أو النحل وما تنتجه من عسل، مشيرا إلى أن الاحتلال يختار إشعال الحرائق في ظروف تساعد على امتداده وعدم السيطرة عليه حينما تكون الأشجار جافة تماما والحرارة مرتفعة، وهو ما يجعل قطيشات يصف ما يجري بـ"استهداف لسلة الغذاء الأردنية" من أجل إجبار المزارعين على ترك أراضيهم وتفريغ الغور حتى تصبح المنطقة الحدودية مكشوفة للإسرائيليين، ويؤيد ذلك مازن ارشيد، الباحث الاقتصادي المتخصص في تحليل أسواق المال والطاقة العالمية، ويعمل رئيساً للأبحاث الاقتصادية في الشركة المتحدة للاستثمارات المالية في عمّان، قائلا :"في الوقت الذي يخطط فيه الأردن لتخفيف الاستيراد من الخارج، تأتي الحرائق وتقضي على الأشجار المنتجة، مثلا حريق مايو 2021 الذي وقع في موسم قطاف الحمضيات أثر بصورة سلبية على الموسم وعلى إمداد السوق المحلي بالحمضيات".
ويستورد الأردن 80% من احتياجاته الغذائية، وتأتي الحرائق في كل مرة لتفاقم من احتياجات المملكة، بحسب ارشيد.
تقصير حكومي
تقتصر إجراءات وزارة الزراعة على رصد المزارع التي يطالها الحريق، وتقديم وعود متكررة بالتعويض وإعداد تقارير فنية ترفض مشاركتها مع مؤسسات المجتمع المدني أو نشرها في وسائل الإعلام، بحسب قطيشات الذي توثق جمعيته كل ما يتعلق بقضية الحرائق الإسرائيلية.
وترد وزارة الزراعة بأن إجراءاتها تقوم على حصر الأضرار التي لحقت بالمزارعين على إثر الحرائق المتكررة التي تكون بفعل الرياح أو لأسباب أمنية، وإحالة الملف إلى مجلس الوزراء الذي يتعامل مع هذه الأزمة ضمن الأطر الدبلوماسية الخاصة.
ووجه النائب في البرلمان الأردني خليل عطية استجوابا للحكومة بتاريخ 8 يونيو 2021 للسؤال حول الإجراءات الحكومية المتخذة اتجاه هذه الحرائق التي لا تتوقف، وجاء الرد الذي اطلع عليه "العربي الجديد" من قبل وزارات الشؤون السياسية والبرلمانية، والخارجية والزراعة، مبينا أن دور وزارة الزراعة تمثل بحصر الأضرار التي لحقت بالمزارعين ومخاطبة وزارة الخارجية للتواصل مع الجانب المحتل عبر الطرق الرسمية وإعداد كشوفات الأضرار التي لحقت بالمزارعين لتعويضهم.
وتوجهت معدة التحقيق بالسؤال إلى كل من وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء حول الإجراءات المتخذة، واقتصر رد الخارجية بالقول أنها تتابع الموضوع من خلال الطرق الرسمية، أما رئاسة الوزراء فلم يتلق "العربي الجديد" ردا رغم تأكيد استلام طلب الحصول على المعلومات منذ 3 مارس/آذار 2022.
ويصف خدام الإجراءات الحكومية تجاه حرائق الاحتلال بأنها "خجولة ومتواضعة"، مشيرا إلى مطالبات اتحاد مزارعي وادي غور الأردن المستمرة برفع قضية دولية، لكن لم يتضح أن هناك نية لذلك.
وحتى على صعيد اتخاذ إجراءات للحدّ من آثار تلك الحرائق لم تبادر وزارة الزراعة بذلك الأمر كما يُجمع المزارعون، ويوضح الربابعة أنه في حال لم يكن لدى الدولة الأردنية القدرة على منع الحرائق يمكنها القيام بمجموعة حلول لمنع وصولها إلى الجانب الأردني، مثل السواتر الترابية، أو خطوط النار (تشكل فجوة في الغطاء النباتي أو غيرها من المواد القابلة للاحتراق لإبطاء أو وقف تقدم الحرائق) في المنطقة المحاذية لنهر الأردن من الجانب الأردني، بالإضافة إلى ضرورة التخلص من الأعشاب التي تسرّع انتشار الحرائق التي يشعلها الاحتلال الإسرائيلي، ويمكن أن تكون هناك منطقة عازلة بين الجانبين.