مكبّات النفايات المغربية... فوضى الإدارة تخلق أزمات صحية وبيئية
كوثر كمار
خلقت فوضى إدارة مكبات النفايات في المغرب تلوثاً بيئياً وأزمات صحية للقاطنين في جوارها، إذ تتسرب العصارة السامة الملوثة بالمعادن الثقيلة، على الرغم من تعاقدات بملايين الدولارات مع شركات أجنبية مكلفة بمعالجتها.
- خسر المزارع المغربي عبد النبي سجيد نصف محصول القمح الذي كان ينتظر حصاده هذا العام من أرضه، الواقعة بجوار مركز فرز وتثمين النفايات المنزلية في جماعة المنابهة، شمال مراكش، بسبب تسرب عصارة النفايات السامة "ليكسيفيا" في قناة طولها 8 كيلومترات اخترقت أرضه في 3 مارس/ آذار 2021. ويقول: "تكرر الأمر للمرة الثانية، تضررت أرضي كثيرا بعدما كانت تنتج 40 قنطارا".
ولم يقتصر الأمر على الخسائر المالية، إذ يعاني السكان في دوار سيدي نزالة أحمد لفضيل المجاورة للمكب (مطرح النفايات)، من أمراض جلدية وتنفسية، ومن بينهم الخمسيني أحمد الزاهري، الذي أصيب بفيروس أضر بقرنية عينه اليمنى ما أدى إلى فقدان بصره.
وتتكرر مشاكل سوء إدارة مكبات النفايات ومعالجة مخلفاتها، كما يوثق "العربي الجديد" في 5 مطارح منتشرة في أرجاء المغرب، وهو ما يرجعه أحمد حضراني، الأستاذ بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس ورئيس مركز الدراسات في الحكامة والتنمية الترابية (غير حكومي)، إلى الخلافات التي تقع بين الجماعات المحلية (مجالس محلية منتخبة تابعة لوزارة الداخلية)، وشركات تدبير مكبات النفايات العالمية، بسبب عدم الاستناد لاستراتيجية منطقية لإدارة المطارح وضبط الميزانية الخاصة بكل جماعة، ويزيد شحّ الموازنة من المشكلة، وبخاصة عندما تتأخر الجماعات في تأدية مستحقات الشركات.
وينتج المغرب 5.4 ملاييـن طــن مــن النفايــات المنزليــة ســنويا، بحسب تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول "إنجاح الانتقال نحو المدن المستدامة"، صادر في 2017، ويتـم إيـداع 37% منها فـي مكبات خاضعـة للمراقبـة وعددها 26، كما أن 24 مشروعا جديدا لطمر النفايات من المقرر إنجازها في2021، بحسب خطة البرنامج الوطني للنفايات المنزلية المنشورة على موقع وزارة البيئة والطاقة والمعادن.
الهشاشة المالية
ينعكس تراكم مستحقات الشركات على تدبير المكبات، وعلى عقود التدبير لمرفقي جمع النفايات المنزلية وما يماثلها. وعلى مستوى جهة الرباط سلا القنيطرة، بلغ مجموع المبالغ المتراكمة 92 مليون درهم (10.145 ملايين دولار أميركي)، في نهاية 2018، نتيجة الهشاشة المالية التي تعاني منها الجماعة، وفق ما يؤكده تقرير للمجلس الأعلى للحسابات حول تنفيذ عقود التدبير لمرفقي جمع النفايات المنزلية وما يماثلها بجهة الرباط، سلا، القنيطرة، والصادر عام 2020.
وتطابق ذلك مع 5 مكبات أخرى، ومنها مكب نفايات مولاي عبد الله أمغار في إقليم الجديدة، جنوب الدار البيضاء، الذي تفاقمت أزمته حين أخلت شركة سوجي ديما "Segedema" التابعة لمجموعة بيزورنو "Pizzorno" الفرنسية ببنود دفتر التحملات، ولم تؤد عملها بما يتعلق باستعمال مداخن لفلترة الغازات الناجمة عن العصارة ومنع خروج الروائح الكريهة، بحسب المهندس عبد الله بشيكر، المستشار السابق بجماعة مولاي عبد الله.
ويضيف الناشط المجتمعي عبد الله المديري أن سبب انتشار الروائح الكريهة بالمكب يعود إلى عدم استخدام الشركة مواد كميائية للمعالجة منذ عام 2010، بسبب كلفتها الكبيرة، وتأخير صرف مستحقاتها من قبل الجماعات المشتركة في المطرح حتى بلغت 18.7 مليون درهم (قرابة مليوني دولار)، حتى 31 مايو/ أيار 2021، بحسب إفادة عبد الله بياضرة، رئيس الهيئة المغربية لحماية المواطنة والمال العام فرع مولاي عبد الله (غير حكومية)، موضحا أن دفتر التحملات ينص على أن الجماعات التي تصب نفاياتها في المكب عليها أن تدفع لجماعة مولاي عبد الله لتأدية مستحقات الشركة في نهاية كل شهر.
ينتج المغرب 5.4 ملايين طن سنوياً من النفايات المنزلية
لكن عبد الحق الرهني، نائب الرئيس المشرف على مصلحة النظافة بالمجلس الجماعي بالجديدة سابقا والمشترك في المطرح، يؤكد أن مجلس جماعته يدفع 6 ملايين درهم (661.667 دولارا)، سنويا لجماعة مولاي عبد الله، وتسعى الجماعات حاليا إلى تكليف شركة عالمية جديدة لتدبير المطرح، لأن الشركة الفرنسية لا تعتمد على تقنيات جيدة لمعالجة عصارة النفايات السامة.
وتنفي الشركة، في ردها المكتوب على "العربي الجديد"، وقوع أي تلوث بيئي، موضحة أن مركز مولاي عبد الله لطمر النفايات يستقبل 40 ألف طن سنويا من 12 بلدية مجاورة، ويتم تخزين النفايات في أحواض مانعة لتسرب العصارة بواسطة حاجز طيني واقٍ، وتجري معالجة النفايات السائلة والغازية وفقا للمواصفات المغربية وعبر جدول زمني محدد مع السلطة المفوضة، ويتم تجميع الغاز الحيوي بواسطة نظام مكون من 10 آبار تجميع، لكنها تقرّ بأنها لم تجر أي معالجة كيميائية للتخلص من الروائح الكريهة.
أزمة تراكم المستحقات هي ذاتها التي أعاقت عمل مركز فرز وتثمين النفايات المنزلية والمماثلة لها في مراكش، إذ بلغت مستحقات شركة إيكوميد "Icomed" الأميركية 20 مليون درهم (مليون و205 آلاف دولار)، حتى 1 يونيو/ حزيران 2020، ويفترض أن تؤديها 15 جماعة تابعة لعمالة مراكش، ما تسبب في تأخر إنشاء وحدات التثمين المختصة بتحويل النفايات إلى طاقة أو سماد، وفق أحلوش عبد الرزاق، رئيس مؤسسة التعاون بين الجماعات بمراكش.
ويكشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات ذاته أن المبالغ المستحقة تجاوزت 100% من قيمة العقد السنوي للتدبير المفوض في جماعات الصخيرات ومشرع بلقصيري في جماعات الصخيرات التابعة لجهة الرباط، ومشروع بلقصيري غرب البلاد وتيفلت وسط شمالها، وتراوحت بين 40 و70% في جماعات سيدي يحيى الغرب غرب المغرب، والرماني في جهة الرباط، والهرهورة جهة الرباط، ما يؤكد امتداد أزمة إدارة النفايات في المغرب لعقود التدبير المفوض لجمع النفايات المنزلية وما يماثلها، ويؤثر على جودة الخدمة المقدمة ومواعيد أداء أجور العمال وعمل لجان التتبع والمراقبة، وقد يفضي إلى نشوء منازعات قضائية عند انتهاء العقد.
عقود تخلق المشاكل
تعتمد الجماعات على عقود نموذجية معدة سلفا من قبل وزارة الداخلية دون تعديل أو مراعاة لخصوصية كل منها، ما يؤدي إلى نشوء خلافات بين الأطراف المتعاقدة أو التأثير على تنفيذ عقد التدبير، وفق ما جاء في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، الذي يؤكد أنها لا تجري أي دراسات قبلية لتحديد كلفة الخدمة، ولا تولي العديد منها الاهتمام الكافي بمرحلة إعداد الوثائق التعاقدية.
في حين يرى الحضراني أن الاعتماد على عقود نمطية ودفاتر تحملات لا تراعي خصوصية الجماعة ولا تتضمن حقوق وواجبات الطرفين، يؤدي إلى الإخلال بدفتر التحملات وينجم عنه تلوث البيئة، مثل ما حدث في مطرح النفايات بإقليم مديونة في الدار البيضاء، حيث تسربت عصارة النفايات إلى التربة.
وكذلك يوثق "العربي الجديد" ما حدث في مركز تثمين نفايات أم عزة في الرباط، حيث فسخت مؤسسة التعاون بين 13 جماعة بالرباط عقدها المبرم مع شركة تيدويم التابعة لمجموعة بيزورنو الفرنسية المكلفة بإدارة المكب وديّا في 1 يوليو/ تموز2020، علما بأن التعاقد ينتهي عام 2027، بسبب خلافات تتعلق بارتفاع كمية النفايات المطلوب معالجتها بما يفوق الكمية المتفق عليها في العقد، ما دفعها إلى المطالبة برفع ميزانيتها، لكن مؤسسة التعاون بين الجماعات في الرباط وسلا رفضت الطلب، وفق عمر الحياني، المستشار في المجلس الجماعي بمدينة الرباط عن فيدرالية اليسار، والذي قال إن دفتر التحملات لم يكن دقيقا، ولم يأخد بعين الاعتبار التغيرات التي يمكن أن تطرأ مع مرور السنوات، كالزيادة في كمية النفايات ونسبة العصارة، وبالتالي من الطبيعي أن تطالب الشركة المفوضة بمقابل مادي أكبر.
تسرب العصارة السامة ناجم عن الإخلال بمعالجة النفايات
وكانت النتيجة تسرب عصارة النفايات خلال مارس/ آذار 2021، وفقا لما وثقه الناشط في جماعة أم عزة محمد العميري بمقطع مصور يظهر لحظة تدفق العصارة السوداء من المطرح وانسيابها إلى نهر أبي رقراق، الذي يصب في المحيط الأطلسي على مستوى مدينتي الرباط وسلا.
ولم يتم الكشف عن الكمية المسربة حينها، إلا أن حجم العصارة المخزنة في الأحواض بلغ 400 ألف متر مكعب لم تتم معالجتها من قبل الشركة منذ سنوات، حسب ما قاله جامع معتصم، رئيس مجلس التعاون بين الجماعات، في تصريحات إعلامية عقب التسرب.
وأثار النائب السابق عن فيدرالية اليسار الديمقراطي عمر بلافريج قضية تسرب عصارة المكب إلى النهر في سؤال برلماني وجهه للحكومة في 14 مارس 2021، ورد وزير الطاقة والمعادن والبيئة سابقا عزيز الرباح على سؤاله في 26 إبريل/ نيسان 2021، موضحا أن الأمطار حملت معها مختلف أنواع التلوث، كالمياه العادمة لمدينة سلا الجديدة ومقذوفات محطة المياه العادمة لعين عودة وعصارة المطرح المراقب عبر الروافد المتعددة لوادي أبو رقراق، لكن اللجنة المشكلة لمتابعة القضية أوصت بشكل مباشر بضرورة تدعيم المكب بالعديد من الأحواض لتجميع العصارة قصد معالجتها في المكان لتفادي تسربها.
وتبدو خطورة التسرب عبر نتائج دراسة حول تأثير مكب نفايات أم عزة على نوعية المياه الجوفية بضواحي الرباط، نشرت في إبريل/ نيسان 2019 على موقع جامعة غرناطة بإسبانبا، تثبت تدهور جودة المياه الجوفية في الأماكن المحاذية للمكب نتيجة تسرب العصارة، إذ عمل الخبراء على تحليل 22 بئراً بالقرب منه، من خلال عينات جُمعت على مدار الأعوام من 2012 وحتى 2016، وثبتَ وجود نسب عالية من المعادن الثقيلة السامة، إذ تقع النقاط الأكثر تلوثاً بجانب المكب من الجهة الغربية، وكانت كمية البيكربونات أعلى من 508 ملغم لكل لتر، وكانت محتويات الكلوريدات أعلى من 850 ملغم لكل لتر، والكبريتات أعلى من 200 ملغم لكل لتر، والنترات أعلى من 1 ملغم لكل لتر. بالإضافة إلى ذلك وجدت محتويات عالية من الكادميوم تراوحت بين 50 إلى 100 ميكروغرام لكل لتر.
تلوث خطير في المناطق المحيطة
يثبت تحليل مخبري أجرته جمعية التنمية المستدامة في جماعة المنابهة بمراكش بالتعاون مع جمعية الرحمة (توعوية)، في 4 مارس 2021، وجود تلوث عال في المناطق المحيطة بالمكب التابع للجماعة.
ويوضح أيوب كرير، الباحث في علوم المجال والتنمية المستدامة، بعد اطلاعه على نتائج التحاليل المخبرية، أن العينات التي جرى أخذها من محيط المكب تشهد وجودا ملحوظا للبكتيريا القولونية والجراثيم. ويكشف التحليل أن نسبة الأوكسجين تصل إلى 0.013 ملغم لكل لتر، وفاقت نسب المعادن الثقيلة حدود المواصفات المغربية، وأبرزها النيتريت (NFT 90-013)، ووصلت إلى 0.6 أجزاء في المليون، بينما تكون حدوده الطبيعية عند 0.1 جزء في المليون، وبلغت نسبة السلفات 107.5 أجزاء في المليون، ويجب أن يكون أقل من 20، أما الأمونيوم الذي يعد مؤشرا هاما على التلوث فبلغت نسبته 1.2 جزء في المليون، ويجب أن لا يزيد على 0.01، وفي ما يتعلق بنسبة المكونات القابلة لتمرير الكهرباء بالمياه (Conductivity)، فقد بلغت us/cm 2490، متجاوزة النسبة الطبيعية البالغة us/cm 2000.
ويوضح كرير أن هذه المواد تلوث التربة وتسمم المحصول الزراعي، وفي حال أُهملت معالجتها سريعا، فإن ذلك يساهم في عقم التربة، ولا يمكن إحياؤها إلا بعد مئات السنين، مع خطر تسربها إلى الفرشة المائية وتلويثها.
ورغم ما أظهرته نتائج التحاليل، يرفض ريفقي رضوان، مدير استغلال مركز الفرز والطمر في مراكش الاعتراف بحدوث تسرب لعصارة النفايات، قائلا إنها مجرد مياه للأمطار الغزيرة التي تساقطت، وأن عصارة النفايات يتم تجميعها في أحواض محمية تمنع تسربها.
فوضى إدارة ملف مطارح النفايات، أقرّ بها الرباح خلال جلسة في مجلس المستشارين بالبرلمان في 11 من مايو/ أيار 2021، قائلا "أنّ مكبات النفايات في المغرب تحتاج إلى حكامة جيدة، لا سيما أن الجماعات المحلية لا تمتلك إمكانيات مالية لتدبيرها بشكل كامل بمفردها، لذا خصصت وزارة الطاقة والمعادن والبيئة لبرنامج تأهيل مطارح النفايات بالمغرب 21 مليار درهم (2.306 مليار دولار)، إضافة إلى تخصيص استثمارات بقيمة 6 مليارات درهم (658.902 مليون دولار) بين أعوام 2021 و2024، لتأهيل 20 مركزاً جديداً، بالإضافة إلى تأهيل 47 مطرحاً عشوائياً.
الإخلال بالشروط
يعزو هاشم رفيق أمين رئيس جماعة المجاطية أولاد الطالب في جهة الدار البيضاء رفضه منح شهادة المطابقة لاستغلال المطرح الجديد الواقع في عمالة مديونة والذي تم الانتهاء من تشييده في مارس 2021 إلى مخالفته الشروط البيئية. موضحا أن شركة التنمية المحلية "كازا بلانكا بيئة" المشرفة على المشروع لم تحترم بعض بنود دفتر التحملات، ومن بينها استحداث آليات معالجة عصارة النفايات، واكتفت ببناء سور إسمنتي محيط بالمطرح وحفرت أحواضا لتجميع العصارة، لكن الشركة تسعى فقط للقيام بعملية الطمر أي دفن النفايات وتغطيتها بالتراب وفق قوله.
ووسط إصرار الشركة المكلفة على أن المطرح الجديد جاهز للاستخدام ويحترم جميع المعايير البيئية، كما جاء في ردّ رشيد بوآسة، مسؤول قسم التواصل في الشركة على "العربي الجديد"، فإن المطرح القديم بإقليم مديونة الذي يعمل منذ 30 عاما وصل علو النفايات المتراكمة فيه إلى 65 مترا وتتسرب منه العصارة مسببة تلوث الفرشة المائية. بحسب أمين.
ورغم ضرورة مراعاة شروط أساسية قبل إنشاء مكبات النفايات، وأهمها اختيار أرض تحتوي على تربة لا تمتص عصارة النفايات بسهولة وبعيدة عن الفرشة المائية، وتفادي المناطق التي تشهد تقلبات هوائية كي لا تسهم في انتشار الروائح في فصل الصيف، وفق توضيح محمد بهناسي مدير مركز الأبحاث والدراسات حول البيئة والأمن الإنساني والحكامة (منظمة غير حكومية)، إلا أن مشكلة الإخلال بتطبيق الشروط قائمة في مكبات مختلفة، وفق الباحث كرير الذي يشير إلى أن مكب أولاد برجال بضواحي القنيطرة شمال الرباط، تنبعث منه روائح كريهة لأنه واقع في مواجهة الرياح، كما عاينت أيضا معدة التحقيق موقع مكب النفايات بجماعة مولاي عبد الله حيث تتجه الرياح صوب البيوت المجاورة له وتنقل الروائح الكريهة النفاذة.
تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
