ما الذي تبقى من الثورة التونسية؟

16 يوليو 2024
+ الخط -

قفز سؤال العنوان إلى رأسي مباشرة، بعد سماع خبر إيقاف المرشح المحتمل للانتخابات الرئاسية المقبلة محمد لطفي المرايحي، وفتح تحقيق معه من الإدارة الفرعية للأبحاث الاقتصادية والمالية، في توقيت لا بد أن السلطة الحاكمة في قصر قرطاج تراه "عاديا" أو  "مصادفة" شاء القدر أن تزامنت مع إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، عن روزنامة الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها يوم السادس من أكتوبر المقبل.

بالتأكيد "كله بالقانون" الذي استيقظ وتذكر فجأة أن المرايحي متهم بـ "تقديم عطايا نقدية بقصد التأثير على الناخب خلال رئاسيات عام 2019" وغيرها من التهم التي لن تراها وسيلة إخلاء الساحة لمرشح "وحيد سعيد"، في حال كنت جالسا على مقاعد السلطة أو قريبا منها، فنحن لسنا في زمن "بن علي الذي هرب ويا توانسة معدش خوف" بينما قليل من التمعن يقول إن البدايات تصنع النهايات، والوضع في طريقه للأسوأ منذ انقلاب 25 يوليو 2021، وما جرى يعلن عن نهاية كل ما صرخ من أجله التونسيون في زمن الثورة، وهو ما اختصره المحامي اليساري والحقوقي التونسي عبد الناصر العويني في المقطع الشهير الذي تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي وأعادته مرارا وتكرارا قنوات التلفزة قبل 13 عاما حتى صدقناه وصار من المسلمات، بكل ما يحمله من معان ابتلعتها أخطاء الثوار ومؤامرات الثورات المضادة واحدا تلو الآخر.

وربما كان بإمكان "القانون" أن ينسى المرايحي ومخالفاته "المفترضة" فالرجل دعم سابقا الرئيس قيس سعيد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 ضد منافسه نبيل القروي، وعقب الفوز استقبله وعبر المرايحي في اللقاء عن مساندة حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري الذي أسسه بعد ثورة 2011 "لكل القرارات الرئاسية والحكومية الرامية إلى تحقيق تطلعات التونسيين"، كما ساند انقلابه مباشرة عقب وقوعه، بل دعا سعيد إلى عدم التنازل ومواصلة العمل بالتدابير الاستثنائية مع إعادة بعض مؤسسات دستور 2014 كما نقل موقع المفكرة القانونية.

لكن خطأ واحدا ارتكبه الطبيب والمرشح الرئاسي السابق، لم يكن لأي سلطة ابتلعت الديمقراطية أن تغفره، وهو أسلوب عمل كلاسيكي للانقلابات التي تفقد صبرها سريعا ولا تتسامح مع مبادرات مثل "ارحل" التي أطلقها المرايحي ضد النظام في 16 نوفمبر 2022، وهذه طبيعة الأشياء، لكن المثير للدهشة هو نسيان من يحترفون العمل السياسي، لدليل المستخدم هذا والاندفاع في حماس ومنح شيكات الشرعية المفتوحة للسلطات الجديدة، حتى يحققون لها كل ما تطلبه في التو واللحظة، وما إن تطمئن إلى دق أوتاد الكرسي في قصر الحكم بعد التنكيل بخصومهم وإزاحتهم من طريقها وطريقهم، حتى تتصرف بموجب هذا الرصيد، وهنا يبدأ الصدام بين الطرفين، والنتيجة معروفة ومكرورة، يبقى كل في مكانه، السلطة في القصر والمعارض إلى السجن، وحتى اليوم لم يتعلم أحد من درس"قُمعت يوم أن رضيت أو حتى صمتّ عن الانقلاب على خصومي"، بالرغم من تكراره على مدار الأزمان وفي مختلف التجارب والدول.

غير أن أخطر ما تؤكده قضية المرايحي ومن تلاه وسبقه من معتقلين رافضين للانقلاب وتبعاته أو من مؤيديه التائبين، هو نهاية أكبر مكاسب الثورة التونسية، وهو القدرة على أن تعارض النظام وتخالف روايته ثم تعود إلى بيتك آمناً في سربك، معافى في جسدك، لا يقاضيك أحد بسبب رأيك، وأن الصندوق موجود لندير خلافاتنا واختلافاتنا، وما يزال في الأفق مسار لم نخضه. وهي خسارة عظيمة لأن الحرية التي دفع الشعب التونسي ثمنها من دمائه، كان يفترض أن توفر له الأمن والعدل المرتبطين قطعا مع الخبز الذي شهد أزمات في عهد السلطة القائمة أكثر من قبلها، وبدلا من إشراك المجتمع في حلها أو منح الشعب حرية اختيار من يواجهها في ظل بدائل متنوعة المشارب والأفكار كما تتشدق بالفصحى دائما، يتم استخدام أدوات الدولة لإزاحة المنافسين المحتملين من طريق المرشح الذي تعثرت عملية النمو في عهده بعد تجاهل الاختلالات المالية الداخلية والخارجية التي تعانيها البلاد، وهو ما يؤكده تحليل لمركز مالكوم – كارنيغي، حذر من الإبقاء على الوضع القائم حتى لا يؤدّي، عاجلًا أم آجلًا، إلى "وقوع أزمة مالية"، بينما الأخطر هو ما قد تؤدي إليه من أزمة اجتماعية تعيد البلاد إلى نقطة الصفر على كل المستويات، بعد أن قطعت شوطا سريعا داخل نفق أزمة سياسية قضت السلطات من خلالها على كل ما تبقى من مكاسب الثورة التونسية.