ظلت فلسطين محور "إجماع فقهي" فيما يخص العلاقة مع دولة الاحتلال، وعلى الأخصّ في أعوام الحروب وتحديداً حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين.
ولكن ما لبثت بعض الفتاوى أن خرجت عن الإجماع الفقهي إثر توقف الإجماع السياسي على الحرب واتجاه الدول العربية إلى إبرام اتفاقيات المسالمة والهدنة خاصة كامب ديفيد للسلام عام 1979 والتي كانت تحولاً في التنظير الفقهي لـ "السلام" مع كيان الاحتلال ما يوضح تأثير علاقة الفقيه بالحاكم على مضمون الفتوى.
من التحريم إلى الإجازة بشروط
تدرجت الفتاوى بدءاً من عام 1935 إذ أصدر مؤتمر علماء فلسطين وقضاتها ووعاظها وخطباؤها ومدرسوها المنعقد في القدس بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني، فتوى حرّم فيها المجتمعون بيع الأراضي لليهود، وجاء في نص الفتوى أنّ علماء المسلمين في مصر والعراق وسوريا وفلسطين والهند وسائر الأقطار الإسلامية الأخرى قد أصدروا فتاوى "أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود" ما يوضح صورة الإجماع الفقهي على تحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين واتفاق علماء البلاد الإسلامية في ذلك الوقت المبكر جدًا من تاريخ القضية الفلسطينية على موقف موحد من القضية.
وحين صدر قرار تقسيم فلسطين عن هيئة الأمم المتحدة عام 1947 اجتمع علماء الأزهر وأصدروا بيانًا بقيادة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية في حينها، كان مضاداً لقرار الأمم المتحدة، ومما جاء فيه: "إن قرار هيئة الأمم المتحدة من هيئة لا تملكه، وهو قرار باطل جائر ليس له نصيبٌ من الحق ولا العدالة، ففلسطين ملك العرب والمسلمين...وليس لأحدٍ كائنًا من كان أن ينازعهم فيها أو يمزقها" كما وصف البيان الصهاينة بالبغاة. ودعا المسلمين كافة إلى الجهاد: "سدّوا عليهم السبل واقعدوا لهم كل مرصد، وقاطعوهم في تجارتهم ومعاملاتهم، وأعدوا فيما بينكم كتائب الجهاد، وقوموا بفرض الله عليكم واعلموا أن الجهاد الآن قد أصبح فرض عين على كل قادر بنفسه أو ماله.".
وفي عام 1955 ازداد التوتر بين مصر وإسرائيل؛ إذ منعت مصر السفن الإسرائيلية من عبور مضيق تيران، ونفذت إسرائيل هجومًا تضمن اختراق الحدود المصرية في سيناء، وإثر هذه الحادثة نشطت وساطات أمريكية لإقرار هدنة بين الطرفين، وقدمت إسرائيل للأميركيين خطة سلام مع مصر حظيت بشهرة كبيرة فيما بعد. وكان على إثر هذه الخطة صدور فتويين في يناير 1956 إحداهما من دار الإفتاء المصرية بقيادة الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية آنذاك والأخرى من الأزهر الشريف بقيادة الشيخ حسنين محمد مخلوف. وكلا الفتويين تردّان على سؤال جواز الصلح مع إسرائيل من عدمه على إثر خطة السلام المقترحة في ذلك الوقت.
وتعد فتوى الشيخ مأمون الصادرة في يناير 1956 الأولى في طرح خيار الصلح باعتباره ممكنًا. وأكد الشيخ مأمون ابتداءً أن الاعتداء على أيّ بلد إسلامي يوجب على أهل هذا البلد ردّ الاعتداء بالقوة حتى إجلاء المعتدين عن البلاد، أما مسألة الصلح مع المعتدي فأجاب "أن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذى اعتدي عليه إلى أهله كان صلحًا جائزًا، وإذا كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحًا باطلاً لأنه إقرار باعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلاً مثله" ووضّح الحالة المتعينة لفلسطين بقوله: "ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التى سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين، ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين. أما هذه الشروط والقيود فلا نتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا" إذن كانت فتوى الشيخ حسن مأمون أولَ فتوى تطرح الصلح خيارًا ممكنًا وإن كان لم يجزه مادامت البلاد التي سلبها اليهود من الفلسطينيين لا تزال بأيديهم.
أما الأزهر الشريف فاستمر في موقفه الصلب الواصف لليهود بالبغاة والغاصبين والمنكر عليهم الاستيلاء على فلسطين، يقول البيان الذي أصدره الشيخ مخلوف في يناير 1956 ردًا على سؤال الصلح: "الصلح مع إسرائيل كما يريده الداعون إليه لا يجوز شرعًا لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بأحقية يده على ما اغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على دعواه....فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم على أيّ وجهٍ يمكّن اليهود من البقاء كدولة في أرض هذه البلاد الإسلامية المقدسة".
الخروج الأول عن الإجماع
انتهت فترة حروب مصر مع كيان الاحتلال، بموجب اتفاقية كامب ديفيد للسلام والتي كانت نقطة تحول في الفتاوى والتي واكبت التحول السياسي في الموقف المصري عبر الاتفاقية، لتظهر أوّل فتوى وتخرج عن الإجماع الفقهي على رفض الصلح، للشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الذي كان مفتيًا للديار المصرية آنذاك. وصدرت بتاريخ نوفمبر/تشرين الثاني 1979 أي بعد زيارة السادات لكامب ديفيد بثمانية أشهر ويمكن وصفها بأنها كانت تنظيرًا لخيار مصر بالسلام، أكثر من كونها فتوى ردًا على سؤال مستفتٍ. فقد دبّج الشيخ جاد الحق مقدمة طويلة عن السلام باعتباره الحال الأصلي في الإسلام، وباعتبار الحرب حالة ضرورة طارئة يجب ألاّ تستمر. يقول: "كان السلم هو الحالة الأصلية التي تشيع المودة والتعاون الخيّر بين الناس...ولم يجز الإسلام الحرب إلا لعلاج حالة طارئة ضرورية" وفي الفتوى كذلك، تأييدٌ مباشر لرئيس مصر الأسبق أنور السادات، يقول الشيخ جاد الحق: "واستطاع رئيس مصر أن يسترد أجزاءً كبيرة من سيناء سلمًا فوق ما استردّه بالحرب، ثمّ كانت مبادرته ونداؤه بالسلام في القدس." بل ويرضى الشيخ جاد الحق بقبول بعض الظلم دفعًا لظلمٍ أكبر. يقول: إنّ مصالحة العدو ببعض ما فيه من ضيم على المسلمين جائزة للحاجة والضرورة دفعًا لمحظورٍ أعظم منه." بل واعتبر أنّ ما يحصل عليه المسلمون بموجب الصلح أكثر مما يحصلون عليه في حال الحرب، إذ ختم فتواه بقوله: "ونحن وفي صلحنا المعاصر مع إسرائيل نتفاءل ونأمل أن يكون فتحًا نستردّ به الأرض، ونستردّ به العرض، وتعود به القدس مقدّسة عزيزة إلى رحاب الإسلام وفي ظلّ السلام."
كان الشيخ جاد الحق علي جاد الحق متفائلاً جدًا فيما يمكن أن تسفر عنه اتفاقية السلام؛ إذ امتد به العمر ليشهد وقوع الانتفاضة الثانية في 1987 وكان حينها شيخًا للأزهر فوجّه انتقادات إلى إسرائيل وسياستها، بل وعارض إنهاء المقاطعة العربية لإسرائيل طالما لا تزال تحتل أراضي من البلاد العربية، ووصف إسرائيل بالخطر على الأمة العربية والإسلامية. و في حوارٍ له مع جريدة الوفد المصرية عام 1995 قال: "أخلّ اليهود بالتزاماتهم ولم يفوا أبدًا بتعهداتهم" فيما يُعدّ مراجعة عملية عن فتواه في 1979. وفي حين كان الشيخ حسنين محمد مخلوف (ت 1990) لا يزال على قيد الحياة في وقت المعاهدة إلا أنّه لم يصلنا منه فتوى جديدة –بحسب البحث – بخلافه فتوييه عامي 1947 و 1956. وقد عارض اتفاقية كامب ديفيد علماء أمثال الشيخ البوطي، الذي عدّ الاتفاقية صلحًا باطلاً شرعًا وخطأً كبيرًا، وفصّل ذلك في كتابه "الجهاد: كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟".
وبعد اتفاقية أوسلو عام 1993 اشتهرت فتوى الشيخ ابن باز الصادرة في 1994 والتي أجازت الهدنة المطلقة مع إسرائيل، ورأى "أنّ الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكًا أبديًا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكًا مؤقتًا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة." وقد وقع سجال بين الشيخ ابن باز والشيخ القرضاوي في مسألة جواز الصلح مع إسرائيل عام 1995، حيث أيده الشيخ ابن باز وحرّمه الشيخ القرضاوي.
في عهد التطبيع
بعد تراجع العرب في مواجهة دولة الاحتلال، صدرت فتوى بتحريم التنازل عن "حق العودة" لرابطة علماء فلسطين على خلفية مبادرة السلام العربية/ السعودية التي أُيدت في 2002 ثم أيدت في 2007 والتي تهدف إلى إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي؛ ثم جُدّدَت المبادرة مرة ثالثة في العام 2017 ووقتها أصدرت هيئة كبار العلماء بالأزهر بيانا في ديسمبر 2017 تحذّر فيه من التطبيع مع إسرائيل قبل أن تقام الدولة الفلسطينية المستقلة، وذلك إثر القرار الأمريكي باعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل. ثمّ عقد الأزهر مؤتمرًا لنصرة القدس في يناير 2018 حذّر فيه شيخ الأزهر، أحمد الطيب، من "تقسيم المنطقة وتفتيتها وتجزئتها، وتنصيب الكيان الصهيوني شرطيًا على المنطقة بأسرها تأتمر بأمره" وسبق وأخرج شيخ الأزهر "وثيقة القدس" في نوفمبر 2011 والتي خرج فيها عن المألوف في الفتاوى والبيانات الشرعية المكتوبة بصيغة التحليل والتحريم، إلى شكل "الوثيقة" التي تستند إلى أدلة تاريخية لإثبات الحق العربي والإسلامي في مدينة "القدس تحديدًا، دون تطرّق للقضايا المتعلقة مثل فلسطين برمتها ومسألة اللاجئين الفلسطينيين ومسألة الصلح والحرب.
صراع الفتاوى
حين أعلنت الإمارات العربية عن اتفاق التطبيع مع إسرائيل في أغسطس الماضي وتلتها البحرين ثم السودان في أكتوبر،أصدر مجلس الإفتاء الشرعي الإماراتي فتوى بتأييد هذه الخطوة السياسية ودعمها في الرابع عشر من أغسطس الماضي؛ إذ قال عبد الله بن بيّة، العالم الموريتاني ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، أنّ الاتفاقيات والعهود من الصلاحيات الحصرية والسيادية لوليّ الأمر. وقد عارض هذه الخطوة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أصدر بيانًا بتحريم التطبيع في سبتمبر الماضي وقّع عليه 500 عالم مستقل؛ فيما التزم الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية الصمت.
ويطرح تطور الفتاوى واختلافها منذ بداية القضية الفلسطينية وحتّى الآن، مسألة علاقة السياسي بالديني، وهل الموقف السياسي سابق على الفتوى الفقهية أم لاحق لها. وهنا يرى الشيخ أحمد زاهر سالم، الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف الكويتية، وعضو المجلس الإسلامي السوري أنّ استقلال الموقف الفقهي لا يتحقق فقط بإتقان الصنعة الفقهية، ولكن الأهم هو استقلال الفقيه عن ولي الأمر أو الحاكم استقلالاً تامًا، فلا يعتمد الفقيه على الحاكم في شيء، ولا يكثر الاتصال به ولا يتودّد له، ويستدل الشيخ أحمد زاهر بالحديث الشريف "من أتى أبواب السلطان افتتن" كما يستدل بسير العلماء الذين عُرفوا باستقلالهم ومواقفهم في قول الحق ولو بمخالفة السلطان أمثال الإمام أحمد بن حنبل وغيره ممن ذكرت سيرته في كتاب "انقباض العلماء المتقين من إتيان الأمراء والسلاطين" لابن مفلح.
ومن جانبه يرى أستاذ الأخلاق بجامعة حمد بن خليفة الدكتور معتز الخطيب، أنّ الفتوى كثيرًا ما استخدمت سلاحًا لأهداف محددة سابقًا، إذ يتحدد الموقف السياسي، وتتبعه الفتوى مشرعنةً له. ومثال هذا الرأي فتوى الشيخ عبد الله بن بية الذي قضى بأنّ الفقيه ليس له رأي في قضايا الصلح مع الأعداء وإنّما تؤول المسألة برمتها لولي الأمر. ولكن الدكتور الخطيب يرى أنّه وعلى رغم أنّ العلاقات الدولية والسلم والحرب مسألة سياسية ومصلحية وليست عقدية أو تعبدية، فإنّ على الفقيه ألاّ يُخِلّ بوظيفة الفتوى الأصلية، التي تُعَدّ توقيعًا عن الشارع أو بيانًا لحكمه بحسب اجتهاد المفتي ووفق منهج فقهي منضبط. ومثال ذلك فتاوى الشيخ حسنين محمد مخلوف في تحريم الصلح مع العدو الغاصب.
ويمكن تلخيص مّا سبق في أنّ تغير واختلاف مواقف الحرب والسياسة واعتبارات "مصلحة" الأمة واختلاف تصور العلماء لها، وكذلك اختلاف رؤاهم في تنظيم علاقة الفقيه بالحاكم يؤثر تأثيرًا جوهريًا في مضمون فتاواهم في حل أو حرمة الصلح مع العدو، وليس فقط اختلاف استدلالهم بالأدلة الشرعية واختلاف تأويلهم لها.