فشلت حكومات موريتانية متعاقبة في تنفيذ المخططات الحضرية لنواكشوط، ما تسبب في تنام لظاهرة الأحياء العشوائية المعروفة محلياً بـ"الكزرة"، وانتشار الاتجار غير الشرعي بالأراضي والتلاعب بحقوق الملكية وتفاقم الجريمة .
- اشترت الأربعينية الموريتانية تسلم بنت الدال قطعة أرض من سمسار في حي لمغيطي بمقاطعة دار النعيم، شمال شرق نواكشوط، في عام 2014، لكن بدون حصولها على أوراق ملكية كون القطعة تقع ضمن الأحياء العشوائية المعروفة محليا بـ"الكزرة"، ما يجعلها تعيش باستمرار في خوف من السطو عليها، حسبما تقول، مضيفة أن استمرار البيع والشراء بتلك الطريقة في الأحياء المشابهة يغذي النزاعات على الأراضي، كما حصل معها، بعد تعمد أحد جيرانها احتلال جزء من أرضها بذريعة أن تلك المساحة ملك له.
وتجري المتاجرة بالأراضي في الأحياء العشوائية بشكل غير شرعي (استغلال غير مقنن)، وغير معترف به من الدولة، بحسب تأكيد يحي ولد جدو، منسق خلية الرقابة الحضرية بوزارة الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي، الذي قال لـ"العربي الجديد": "أدت الظاهرة إلى إرث من المشاكل بسبب احتلال تلك الأراضي من قبل المواطنين وما ترتب على ذلك من منازعات".
كيف نمت الظاهرة؟
شهدت نواكشوط توسعا عمرانيا كبيرا وغير قانوني بسبب النزوح إليها من الريف بعد سنوات من الجفاف الذي ضرب البلاد في سبعينيات القرن الماضي، بحسب ولد جدو، وهو ما تؤكده دراسة "المناطق العشوائية بمدينة نواكشوط من منظور جغرافي بيئي"، والتي أعدتها ميمونة بنت لمام، أستاذة الجغرافيا المساعدة بكلية الآداب والفنون بجامعة حائل السعودية، في يونيو/ حزيران 2017.
و"أخذت الظاهرة بالتزايد بعد عام 1980، إذ بلغ عدد سكان الأحياء العشوائية في العاصمة 120 ألف نسمة، بنسبة 40% من إجمالي سكان المدينة، ومثلت نسبة المناطق العشوائية غير القانونية 37% من مساكن المدينة في عام 1981، ثم ازدادت في العام التالي إلى 42.7%، وفي عام 1988 بلغت نسبة السكن العشوائي 57.7% من إجمالي المساكن"، بحسب دراسة الأكاديمية بنت لمام.
ويرجع تمدد العشوائيات الموريتانية إلى عوامل متعددة، أهمها الظروف الطبيعية، وتحديدا موجات الجفاف، بعدما نزح العديد من سكان المناطق الريفية من أجل الإقامة على أطراف المدينة دون التقيد بقوانين ملكية الأراضي، وأيضاً العوامل الاقتصادية والسياسية والديمغرافية التي فاقمت من نمو المدينة خارج المخططات المرسومة لها، خاصة بعد فشل حلول الدولة لمواجهة موجات الهجرة الريفية، والمتمثلة في إسكان المهاجرين في مناطق جديدة، وتوزيع بعض الأراضي لذوي الدخل المحدود، وهو ما ترتب عنه التعدي على أراض جديدة من مجموعات أخرى عن طريق تشييد مساكن مؤقتة (أكواخ أو خيام) من أجل وضع اليد عليها، وفق دراسة المناطق العشوائية بنواكشوط.
و"على الرغم من تدخل الدولة في محاولة للحد من النمو العمراني غير القانوني من خلال برامج إعادة هيكلة المدينة، في تسعينيات القرن الماضي، لكن النمو العمراني غير القانوني ظل يمثل نسبة هامة تصل إلى 19% من مجموع المساكن في نواكشوط حتى عام 2000، فيما وصل عدد سكان المناطق العشوائية حينها إلى 260 ألف نسمة من إجمالي سكان نواكشوط البالغ عددهم 558 ألف نسمة"، وفق دراسة بنت لمام، والتي أوضحت أن "سكان المناطق العشوائية في نواكشوط يتوزعون على مقاطعات توجنين، والرياض، والميناء، وعرفات، ودار النعيم".
مخططات عمرانية غير فاعلة
"تأسست العاصمة نواكشوط في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ومنذ تلك الفترة حتى 2020 تم وضع 5 مخططات عمرانية للمدينة، لكن الشواهد الحالية تؤكد أن تلك المخططات لم تضع بالحسبان تزايد عدد السكان والتوسع الحاصل حاليا، رغم أن المعايير التي يضعها الفنيون لأي مخطط عمراني تتم بناء على التطورات المتوقعة خلال عشرين سنة قادمة"، بحسب إفادة المهندسة المدنية آمال بنت الراجل، التي تعمل في مكتب الرضوان للدراسات والهندسة المعمارية الخاص في نواكشوط، لـ"العربي الجديد".
وبلغ عدد سكان نواكشوط 958 ألف نسمة، وفق الإحصاء الرابع الذي أجرته الوكالة الوطنية لسجل السكان والوثائق المؤمنة في عام 2013. ويقر ولد جدو بأن المخططات العمرانية السابقة عجزت عن مواجهة التعقيدات الناتجة عن ظاهرة الكزرة، قائلا إن وزارة الإسكان تحاول حل المشكلة عبر المخطط العمراني الذي أصدرته في سبتمبر/ أيلول 2021، مضيفا أن المخطط الجديد يضمن حقوق الملكية ويمنع التزوير ومحاولات الاستيلاء على الأراضي.
لكن 4 من سكان الأحياء العشوائية بمقاطعتي توجنين ودار النعيم يؤكدون عدم تنفيذ المخطط الجديد على أرض الواقع حتى الآن، ومنهم الستينية الموريتانية لمات بنت سالم، التي تعاني كغيرها من سكان كزرة حي لمغيطي بمقاطعة دار النعيم، حيث تعيش منذ عام 1982 في ظل عدم وجود تخطيط عمراني للحي يسهل توفير الخدمات الأساسية للسكان، كما تقول لـ"العربي الجديد".
وهو ما تشكو منه الخمسينية عيشه بنت أعمر، التي تقطن في كزرة الشباب بمقاطعة توجنين، شرق نواكشوط، قائلة: "غياب التخطيط العمراني حرمنا من الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والمياه والكهرباء"، وتضيف متحدثة لـ"العربي الجديد": "نفتقد إلى الأمن وتنتشر السرقة والسطو باستمرار، كما تتعرض الأكواخ العشوائية لعمليات حرق متكررة من قبل مجهولين"، وهو ما تؤكده دراسة بنت لمام، التي رصدت انتشار الأمية والفقر والبطالة وتفاقم الجريمة في العشوائيات.
وتوصلت الباحثة الاجتماعية خديجة محمد المختار خلال إعدادها لرسالة الماجستير (المرأة والجريمة)، المقدمة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة نواكشوط، إلى إحصائية موثقة من مصالح الشرطة في نواكشوط خلال الفترة من مطلع يناير/ كانون الثاني 2014 وحتى يوليو/ تموز 2018، تفيد بوقوع 863 جريمة، منها 506 جرائم اغتصاب نساء، و149 اعتداء على قصر، و33 محاولة اغتصاب نساء وقاصرات في مقاطعتي عرفات، جنوب شرقي نواكشوط، ودار النعيم، واللتين توجد على أطرافهما أحياء عشوائية، مثل لمغيطي في دار النعيم، وغزة والفلوجة في عرفات.
ارتفاع معدل الجريمة في الأحياء العشوائية وغياب الخدمات الأساسية
وارتفع معدل الجريمة خلال عام 2018 والربع الأول من عام 2019 إلى 300% عما كانت عليه الحال في الأعوام السابقة بالمناطق الفقيرة (العشوائية)، إذ تكرر بعض العصابات جرائمها في الليلة ذاتها، بحسب الربيع ولد السيد إدوم، منسق مبادرة معا من أجل الأمن (شبابية تطوعية)، مضيفا أن ما بين 4 و7 جرائم سطو وقتل على الأقل تحدث يوميا فيها.
تجاوزات الحكومات السابقة
يعود فشل المخططات العمرانية السابقة لمدينة نواكشوط إلى تساهل الحكومات السابقة وغضها النظر عن تجاوزات واضحة، إذ تبين وجود 60 ألف قطعة أرض في مختلف أحياء نواكشوط بدون معلومات موثقة، وهو ما تعيده ميمونة بنت أحمد سالم، المديرة العامة لوكالة التنمية الحضرية الحكومية، إلى أن المجتمع حديث العهد بالمدنية ويهمل أمر الحصول على الوثائق وتوثيق الملكية لدى الجهات الرسمية، كما ترجع النزاعات على ملكية الأراضي بين المواطنين إلى تداخل المخططات السابقة، لكنها تقول إن الوكالة شكلت لجانا لتحديد مواقع النزاعات لاتخاذ قرارات بشأنها، إما بحصول المواطن على وصل ملكية أو تعويضه بقطعة أرض في مكان آخر، مؤكدة على تسوية 8 آلاف قضية متعلقة بتداخل المخططات السابقة وتجاوزات المواطنين، فيما يجري العمل على تسوية 1500 قضية نزاع على ملكية الأراضي.
60 ألف قطعة أرض في مختلف أحياء نواكشوط بدون معلومات موثقة
لكن سماسرة الأراضي يعملون على استغلال غياب الرقابة الحضرية للاستيلاء على الأراضي، والمتاجرة بها بصورة غير قانونية، كما يؤكد الأربعيني محمدن تليميدي، الذي يسكن في حي لمغيطي بمقاطعة دار النعيم، وعايش عمليات بيع غير قانونية في حيه، بينما يؤكد ولد جدو أنه لا توجد منطقة في نواكشوط خالية من ظاهرة احتلال الأراضي، مضيفا أن عمليات التحايل تستهدف قطع أرض لم يعمرها أصحابها منذ فترة طويلة، أو قطعا لم يهتم أصحابها بتسجيل أوراق ملكيتها لدى المصالح المختصة بوزارة الإسكان، وقطعا أخرى فقد أصحابها أوراق ملكيتها، محملا المواطنين مسؤولية تعاملاتهم غير القانونية، ومسؤولية البناء في أرض لا يتوفر إثبات ملكيتها، كما يتحملون مسؤولية أي استغلال غير شرعي يقومون به، ويضيف أن وزارة الإسكان لن تتساهل مع عمليات المتاجرة غير الشرعية بالأراضي في الوسط الحضري في المدينة، مشيرا إلى تشكيل لجنة وزارية لتشخيص الوضع الحضري في نواكشوط، ووضع إجراءات رادعة للمخالفين.
إجراءات حكومية لم تنه الظاهرة
اعتمدت وكالة التنمية الحضرية مقاربة للقضاء على المشاكل المتعلقة بالأحياء العشوائية وما ترتب عليها من مظالم واختلالات تسببت في تأخير حل "مشكلة الكزرات"، بتوفير قطع أرض صالحة للسكن للمواطنين تمكنهم من التمتع بالخدمات الأساسية في الحياة، ضمن مخطط عمراني يستجيب لطبيعة المدن العصرية، بحسب مديرة الوكالة، التي تؤكد أن إخلاء مناطق المساكن العشوائية أولوية لدى الوكالة، وخاصة في مناطق مثل توجنين، ودار النعيم، إذ تم إحصاء ما نسبته 47% من مساحة 265 هكتارا محتلة من قبل مواطنين نتيجة التسيب وغياب الرقابة الحضرية.
لكن سكان العشوائيات الذين التقاهم معد التحقيق يؤكدون أنهم راجعوا المسؤولين في وزارة الإسكان لتنفيذ تعهداتهم بحل مشكلة التخطيط ومنحهم مساكن بدلا من الأكواخ العشوائية التي يسكنونها، غير أن مسؤولي الوزارة يردون عليهم، كما تقول تقول عيشه بنت أعمر، بأن "الوضع قيد الدراسة".