- **الجدل حول الهوية المصرية**: تناول قطب أهمية بعث التاريخ المصري القديم، بينما أكد محفوظ على أن أي مشروع حضاري عربي يجب أن يقوم على الإسلام والعلم، مما يعكس التباين في الرؤى حول الهوية المصرية.
- **تأثير الاستبداد على الفكر والإبداع**: برز قطب ومحفوظ وطه حسين كأعمدة ثقافية في العهد الملكي رغم الاستبداد، الذي أثر على المبدعين وأدى إلى تجاهل إمكانياتهم ونتاجهم.
ربما كان من بركات 7 أكتوبر أن مرت الذكرى السنوية لوفاة سيد قطب (29 أغسطس 1966) ونجيب محفوظ (30 أغسطس 2006) دون حروب الإساءة والكراهية المتبادلة بين فريقين يدعيان دفاعاً عن الإسلام والعلمانية، وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر له بذاك، فالجميع مشغولون بأزمتنا الكبرى ودمائنا الهائلة السائلة على مدار الساعة، وعجزنا المهين.
يختزل كل فريق صاحبه كما عدوه في بعد أو عمل واحد متجاهلاً مجمل إنتاجه أو أفكاره، على الرغم من أن العلاقة بين الرجلين وقامات عصريهما مثل طه حسين كانت قائمة على الاحترام المتبادل رغم الخلاف الواضح كما ستوضح السطور التالية، فقد كتب قطب عن محفوظ ثلاثة مقالات في مجلة الرسالة الثقافية التي ترأس تحريرها الأديب أحمد حسن الزيات، بينما كتب محفوظ عن قطب ثلاث مرات، اثنتان في حياته، وكانت الأخيرة بعد رحيله بستة أعوام، واللافت أن سيد قطب هو أول ناقد عربي انتبه إلى أدب نجيب محفوظ، وكان أول من قدمه إلى الجمهور في مصر والعالم العربي عبر مقال في عدد مجلة الرسالة 587 الصادر في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1944، وتناول فيه رواية كفاح طبية وعبر فيه عن تقديره موهبة محفوظ الأدبية الكبيرة.
ويبدو انفعال قطب وحماسته الشديدة لمحفوظ في مقدمة المقال المعنون بـ"على هامش النقد: في عالم القصة.. كفاح طيبة لنجيب محفوظ"، قائلا :"أحاول أن أتحفظ في الثناء على هذه القصة فتغلبني حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها، هذا هو الحق، أطالع به القارئ من أول سطر لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة والعودة إلى هدوء الناقد واتزانه".
اللافت أن فكرة المقال المركزية حول الحاجة إلى بعث التاريخ المصري القديم وأحداثه الممتدة على مدار خمسة آلاف سنة فناً وروحاً وعواطف وانفعالات وأحداثاً وآثاراً كما يقول قطب، وأنه من المهم أن تصبح حياة أحمس وتحتمس ورمسيس ونفرتيتي وأمثالهم أمام كل تلميذ صغير، وتعود أساطير حية للأطفال في المهود بدل الشاطر حسن وجودر وحسن البصري والورد في الأكمام، وهو رأي يخالف ما ذهب إليه الإسلاميون المصريون بمختلف تياراتهم في مرحلة ما بعد إعدام قطب وعودتهم من المنافي في دول الخليج منذ سبعينيات القرن الماضي قطعاً مع أي صلة بالحضارة الفرعونية وتأكيدا على الانتماء للعرب الفاتحين وحدهم، لندخل في جدالات عقيمة حول من هم المصريون الأصلاء، ولعل السبب في ذلك تبني العائدين آراء مذهبية متوافقة مع الأفكار الوهابية التي شهدت ذروة انتشارها وقتها، والصحيح أن المصريين المحدثين هم نتاج كل الحضارات والشعوب المتعاقبة على هذه البقعة الجغرافية، فراعنة وقبطاً وعرباً وغيرهم من السلالات التي استوطنت وادي النيل، ولا تعارض بين تلك الحضارات التي توارثها المصريون حتى استقروا على العروبة لغة وثقافة والإسلام ديناً، وهو ما ذهب إليه الأديب الكبير نجيب محفوظ في رسالة إلى ندوة نظمتها جريدة الأهرام بعد عودته من رحلة علاج عقب اعتداء متطرف عليه في 14 أكتوبر 1994، وكانت بعنوان نحو مشروع حضاري عربي، قائلاً إن :"أي مشروع حضاري عربي لا بد أن يقوم على الإسلام والعلم"، وكرر الأمر في لقاء في بيته حضره المفكر الكبير أحمد كمال أبو المجد والصحافي محمد سلماوي والناشر إبراهيم المعلم وجرى في 29 ديسمبر/كانون الأول 1994، بحسب ما نشره أبو المجد في مقال بالأهرام بعنوان "شهادة حول رواية أولاد حارتنا" وهو العمل الذي أثار جدلاً كبيراً واختزل البعض مشروع محفوظ كله فيه، ونقل أبو المجد عن محفوظ أن "أهل مصر الذين كتبت عنهم يعيشون بالإسلام ويمارسون قيمه العليا وكتاباتي كلها تتمسك بهذين المحورين، الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا".
مقال قطب الثاني عن نجيب محفوظ كان عن رواية خان الخليلي وهو منشور كذلك في عدد مجلة الرسالة 649 الصادر في 10 ديسمبر 1945، وعبر فيه عن حماسه لنجيب محفوظ وفنه وبشر بموهبة الفنان الروائي الذى عاني من صمت نقدي طويل، وجاء في ظل حالة من الإهمال الشامل له ولأدبه الروائي استمرت منذ الثلاثينيات وحتى أوائل الأربعينيات، وكان أن دشن قطب مرحلة الانتباه إلى محفوظ بداية الأربعينايت والتي استمرت حتى خلع الملك فاروق في يوليو/تموز 1952، كما يقول الناقد والصحافي الكبير رجاء النقاش في كتابه المعنون بـ"في حب نجيب محفوظ"، وفيه ذكر أن المقال الثالث كتبه قطب عن رواية القاهرة الجديدة ونشره في مجلة الرسالة أيضا في ديسمبر 1946 ضمن ثنايا العدد 704.
سيد قطب، إذاً، هو صاحب الفضل النقدي الأول في لفت الانتباه إلى نجيب محفوظ وأدبه وهو ما ردده الأديب الكبير كثيرا كما يقول النقاش، ولم يقتصر دور قطب على الأمر هذا، بل نقل إعجابه بمحفوظ إلى الناقد المعروف الراحل أنور المعداوي، وكان قطب هو من قدمه كذلك إلى الحياة الأدبية في مجلة العالم العربي التي كانت تصدر في قاهرة الأربعينيات، ولا شك أن المعداوي رغم موهبته الأدبية والنقدية العالية والأصيلة تأثر في فهمه وذوقه الأدبي بسيد قطب، وبالتالي كان اهتمامه بنجيب محفوظ امتدادا له، حتى إنه كتب دراسة مليئة بالحماس والفهم عن الأديب الكبير في عام 1950 ونشرها في مجلة الرسالة وقدم فيها قراءة في رواية "بداية ونهاية"، وحتى عام 1952، لم يكن سوى الناقدين قطب والمعداوي في مصر وخارجها اللذين اهتما بأدب محفوظ رغم أنه أصدر ثماني روايات ومجموعة قصصية واحدة كما قال النقاش.
وبينما حظي قطب باحترام محفوظ الذي بادله المودة والاعتراف بفضله عليه، يختزل فريقاهما الأول في ما كتبه عن الحاكمية والثاني في رواية أولاد حارتنا، دون فهم للسياقات التاريخية المؤثرة على إنتاجهما، فقد بدأت تحولات قطب "بعدما اهتم بالإصلاح الاجتماعي وحاول أن يقدم اجتهادات بالغة الأهمية في التوفيق بين مبادئ الإسلام العملية والفكرة الاشتراكية، وأن يبرز إلى النور وبقوة قضية العدالة الاجتماعية في الإسلام"، كما يرصد النقاش بداية تحولاته واشتغاله بالسياسة وانشغاله عن النقد الفني، ويعتمد هنا على ما قاله قطب في رسالة إلى المعداوي من بعثته التعليمية في أميركا بأنه سيخصص ما بقي من حياته وجهده لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين، وهنا تحدث كذلك عن طه حسين الذي أشار المعداوي إلى خصومة أدبية بينه وبين قطب، فرد عليه: "أشرت إلى ما بيني وبين الدكتور طه، أعتقد أنه من الخير للبلد أن يكون هذا الرجل في وزارة المعارف ولست أسأل عما يكون لي أو علي فطريقي واضح أمامي وهدفي معروف في جميع الظروف"، وتبدو المودة بين الرجلين في إهداء قطب إلى حسين كتابه "طفل من القرية" الصادر في يوليو 1945 قائلاً: "إلى صاحب كتاب الأيام، الدكتور طه حسين بك. إنها يا سيدي أيام كأيامك، عاشها طفل بالقرية، في بعضها من أيامك مشابه، وفي سائرها عنها اختلاف. اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة؛ بل بمقدار ما يكون بين طبيعة وطبيعة واتجاه واتجاه ولكنها بعد ذلك كله أيام من الأيام"، وبالطبع الإهداء بعد أعوام من أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي"، ولم تمنع الخصومة الأدبية، وليست الشخصية، قطب من تقدير حسين الذي سبق أن دافع عنه أثناء توليه منصب مستشار وزير المعارف ورفض التنكيل الوظيفي به بسبب آرائه السياسية المعارضة لحزب الوفد بعد قبوله الوزارة الآتية على ظهر الدبابات الإنكليزية.
ظهر قطب وبزغ ناقداً فنياً كبيراً في العهد الملكي، كما تأسس نجيب محفوظ وطه حسين، وغيرهم من الآباء المؤسسين للثقافة في مصر والعالم العربي في الفترة ذاتها، وهي مرحلة شهدت استبداداً لكنه لم يصل إلى درجة الجمهورية الناصرية التي اصطدم معها قطب وأعدمته وغيره من ذوي الفكر بعدما كانوا من أبرز مؤيديها، لذا يجب التمعن في آثار الاستبداد على حالة المشتغلين بمختلف أشكال الصناعات الابداعية ومنها فنون الرواية والنقد بدلا من اختزالهم في فترة واحدة من حياتهم والأسوأ تجاهل كل إمكانياتهم ونتاجهم ووصمهم للأبد بصفات تخرجهم من الجماعة الوطنية إرهابا أو تكفيرا، خاصة أن الصراع على الحكم في بلادنا لا يحل بغير الطرق التي تخرج أسوأ ما فينا.
وهكذا دفع قطب الثمن، وتوالت الأعوام وترسخ الاستبداد أكثر، فنشأ جيل جاهل وعنيف يحاكي أساليب السلطة في مواجهة خصومها بالقتل، وكان أن أقدم أحدهم على محاولة اغتيال الأديب الكبير بسبب رواية أولاد حارتنا، واللافت أنه لم يقرأها ولم يقرأ لمحفوظ أي كلمة كما قال في التحقيقات، ولكنه تأثر بآراء متطرفة سمعها رغم أن محفوظ، كما أسلفنا، ينهل من الثقافة الإسلامية ولديه اعتزاز كبير بها في كل حياته حتى "إن بنتيه فاطمة وأم كلثوم سماهما على أسماء بنات الرسول الأكرم، ورفض العامية وأصر على الفصحى لتأثره بالقرآن في كتاباته"، كما يقول النقاش في كتابه مشيراً إلى مناداته بتحرير الوطن من المحتل والعدل الاجتماعي وحرية الإنسان وكل هذه المبادئ التي استقاها من ثقافته الاسلامية، لكن زعيق الجهل والتطرف وتخاذل الدولة وقبلها الإسلاميين عن مواجهة الآفتين أدى إلى الاعتداء على محفوظ، فماذا لو كان الإسلاميون قد ناقشوا محفوظ في روايته أدبياً وفنياً وعرضوا كل مآخذهم وسمعوا أفكاره؟ ما هي مكاسبهم قبل الوطن؟ لكن فاقد الشيء لا يعطيه، أين الرواية والنقد الفني والتمثيل والمسرح من الحركات الإسلامية، خلال أعوام طوال لا يوجد من المشتغلين والمنشغلين بتلك الأفكار بينهم غير الأديب الكبير نجيب الكيلاني وكذلك الناقدان قطب وصافيناز كاظم، ما يعكس حجم أزمتهم وأوطانهم.
لا شك أن عصرنا الحالي يفتقد إلى منجزات تشبه ما قدمه هؤلاء الكبار وغيرهم من الآباء المؤسسين للحالة الثقاقية في مصر والعالم العربي، لكن أن تخاض الحروب على وسائل التواصل تحت رايات ترفع أسماءهم بعد وفاتهم بأعوام طويلة هو علامة على عموم الجهل وغمط الأحياء والأموات قدرهم انتصاراً لهوى أو لحقد ورغبة في التنكيل بالخصوم، فآفة أمتنا اختزال من نحبه ونكرهه في موقف أو جانب أو رأي واحد أو كتاب واحد، ليكن عالمنا محكوم بمن معي أو ضدي، دون القدرة على رؤية جوانب متعددة ومركبة لكل ما حولنا من ظواهر وأشخاص، نتفق معهم في نقاط ونختلف في أخرى.