يعد مبدأ "حرية التعبير" أحد الأعمدة الرئيسة لليبرالية الحديثة وللخطاب الحقوقي والسياسي والإعلامي في الوقت الراهن، ويُوظّف المبدأ باعتباره حجة ضد الاعتراضات التي تلحق بطرق التعبير التي تسيء إلى الأديان ومحرماتها، مثلما حدث في أزمة الرسوم المسيئة التي تتجدد حلقاتها في أوروبا كل عدة سنوات، كان آخرها في فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولم ينشأ مبدأ "حرية التعبير" من فراغ، بل له جذور في التاريخ الأوروبي، وقد نبت في تربةٍ ذات وضعٍ سياسي واقتصادي وديني وقانوني محدد. وسنلاحظ أنّ نشأته تختلف شيئاً ما عن صيرورته في الليبرالية الغربية المعاصرة التي تخلط بين "حرية الرأي" والإساءة والتشهير. فقد كان المبدأ يشير في بداية أمره في القرن السابع عشر، ويوظف لأجل تحقيق التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة التي يُراد لها أن تُصهر في "روح قومية" واحدة لبناء المجتمع الحديث وبناء الدولة القومية. كما ساهم هذا المبدأ في تقويض مبدأ "الحق الإلهي للملوك" في أوروبا القرن السابع عشر، والتي كانت تنتقل من نظام ملكي إلهي إلى نظام ديمقراطي بشري.
السياق الديني للنشأة
نشأت الدعوة لحرية الرأي في أوروبا القرن السابع عشر، حين كانت الحاجة ملحّة لنظام فكري وسياسي يحقق التعايش بين طوائف مختلفة ومنها البروتستانتية، المذهب الجديد الصاعد.
وفي الحقيقة، لم تكن دعوة الفيلسوف الهولندي، سبينوزا (1632 – 1677) إلى حرية الرأي بأكثر من دعوته إلى حرية البحث والاجتهاد لقول آراء جديدة في الدين. حيث يرى سبينوزا أنّ حرية الرأي والضمير من الحقوق المتجذرة في "القانون الطبيعي"، والذي يعني بالتالي أنّها لا تقبل التنازل أو المصادرة.
وعاش سبينوزا في مدينة أمستردام التي تعايشت فيها عدّة طوائف دينية في القرن السابع عشر، وعدّها سبينوزا نموذجا للحريات الدينية. وفي نفس الوقت كان جون لوك (1632 – 1704) الفيلسوف الإنجليزي يكتب عن ضرورة إرساء مبدأ "التسامح" بين مختلف الطوائف الدينية في إنجلترا إثر الحرب الأهلية الإنجليزية في أربعينيات القرن السابع عشر. وبينما دعا جون لوك إلى تسامح بين مختلف الطوائف المسيحية، إلا أنه استثنى التعايش مع "الملحدين"، بحجة أنّ "العقد الاجتماعي" الذي يحدد العلاقة بين الدولة والمواطنين لا يمكن أن يعقد معهم لأن التماسك الاجتماعي يقوم على العهود والوعود والإيمان التي تستلزم الإيمان بالله واليوم الآخر.
السياق السياسي للنشأة
نشأ هذا المبدأ في ظل نظام سياسي ملكي يرى للملوك "حقاً إلهياً" في الحكم، وبالتالي لا يمكن محاسبتهم أمام أيّ سلطة بشرية. وينتقد مونتسكيو، القانوني الفرنسي في القرن الثامن عشر، ظاهرة إعدام الأمراء الذين يوجهون نقداً لفظياً للملوك، وهي العقوبة التي لا تتناسب مطلقاً مع نقد لفظي لا يصاحبه فعل. ويرى مونتسكيو أنّ الكلمة بذاتها لا تشكّل جريمة إلا إذا اقترنت بأفعال أخرى. ولذا يفرق مونتسكيو بين الكلمات التي لا تصاحبها أفعال وبين الكلمات التي تصاحبها أفعال قد تضر بالأمن العام.
ويرى أنّ الأولى لا تعدو أن تكون كلمات طائشة لا يمكن أن ترقى عقوبتها إلى الإعدام؛ لأن الحرية طبقاً لذلك لا يمكن أن توجد. فبحسب مونتسكيو، فقد نشأ هذا المبدأ في محاولة تقويض مبدأ "الحق الإلهي للملوك" الذي كان في طريقه إلى الزوال في أوروبّا في ذلك الوقت.
السياق الاقتصادي للنشأة
لاحظ سبينوزا العلاقة بين حرية المعتقد والازدهار الاقتصادي. حيث يرى سبينوزا أنّ الحرية الدينية في مدينة أمستردام سهلت الحرية الاقتصادية أو العكس. فالعلاقات التجارية وما يرتبط بها من أخلاق الصدق والأمانة لنيل المكسب، تتم دون النظر لدين أو معتقد أو طائفة التاجر.
ويقول الباحث جورج سميث إن سبينوزا لم يكن أول فيلسوف يلاحظ العلاقة بين حرية المعتقد والازدهار الاقتصادي في المدينة. بل شاركه في ذلك فولتير إثر زيارته للمدن الإنجليزية في القرن الثامن عشر. يقول فولتير: "ادخل سوق لندن للأوراق المالية، وسترى فيه نواباً عن كل القوميات من العالم يجتمعون هناك لأجل نفع الإنسانية، فترى المسيحي واليهودي والمسلم يتعاملون مع بعضهم بعضاً وكأنّهم من دين واحد. ويعطون لقب الكافر للمفلس فقط".
وترى الكاتبة البريطانية، كارين أرمسترونج، أنّه مع نشأة الدولة القومية الحديثة، كانت هناك حاجة ملحّة للتعليم لإخراج أجيال من المتعلمين يسهمون في العملية الإنتاجية، وبالتالي في "التقدّم" وتكمل أنّه بالتجربة والخطأ فقد وُجد أنّ القوميات التي دمقرطت، حققت رفاهاً اقتصادياً أكبر وبشكلٍ أسرع. وبالتالي كان "الإبداع" حتمياً لتحقيق التقدم والرفاه الاقتصادي، فأتيح للعامّة أن يفكروا بحرية وبدون قيود لأجل هدف بناء المجتمع الحديث وبناء اقتصاده القومي.
وتبين دراسة الباحثين كورتيز سيمون وكلارتس ناردينللي للنمو الاقتصادي في المدن الإنجليزية في مائة عام من عام 1861 وحتى عام 1961 أنّ "حرية تداول المعلومات الكبيرة التي توفرت في هذه المدن تعد سببًا رئيسيًا لنمو هذه المدن وتراكم رأسمالها، ولوحظ أنّ هذه الحرية قد وفرت فرصاً أكبر لتجارات جديدة وبالتالي ازدهاراً اقتصاديّاً أكبر.
الخلاصة يتبين من البحث في نشأة مبدأ حرية التعبير أنّ المقصود به كان تحقيق وتحفيز الاندماج القومي بين العرقيات المختلفة، وتحسين فرص النمو الاقتصادي للمدن الحديثة وتحقيق التعايش السلمي، وهو ما يعني أن بعض المظاهر المعاصرة لإساءة استخدام هذا المبدأ بما يضر ضرراً بالغاً بالتعايش السلمي داخل دولة واحدة هو خروج عن هذا المبدأ.