لم ننم تلك الليلة، أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 1998، كنتُ وسائر أطفال العائلة قد اجتمعنا في بيت جدّي أبو ماهر، عبد الرحمن تمراز، أحد مؤسسي حركة حماس، وجلسنا نتحدّث عن ابنه الشهيد صهيب، خالي ذي التسعة عشر ربيعاً، والذي استشهد في عمليّة لكتائب القسام استهدفت أحد حواجز الاحتلال وسط قطاع غزة آنذاك.
كانت السلطة قد حضرت صبيحة ذلك اليوم، فاعتقلت جدّي، وبعض أخوالي، وفرّ الباقون، ولم يبق في البيت إلا الأطفال والنساء، وعصرًا نصبنا بمعونة الجيران، وبعض الأقرباء بيت عزاءٍ للشهيد، وفي عتمة الليل، حدثت جلبةٌ في محيط المنزل، نظرتُ من النافذة ناحية العزاء، فرأيتُ الشارع مملوءاً عن آخره بعساكر من الأجهزة الأمنية.
خرجنا أطفالاً ونساءً، خُضنا معركةً خاسرةً معهم، تفلنا في وجوههم، وضربناهم بالأحذية، ووصفناهم بالعملاء، لكنّهم في النهاية هدموا بيت العزاء، وللأمانة؛ فقد كان يعتريهم خجلٌ كبير إذ يهدمون بيت عزاء لشهيد، كان هذا في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله.
اقرأ أيضاً: مسلّم.. من حياة المستوطنة إلى الإعدام على يد "داعش"
أفكارٌ وذكريات تثير الحفيظة
في وعي الشابّ المنتمي إلى حركة حماس أو القريب منها، ثمة أفكار وذكريات غير حميدة يحملُها عن الرئيس الراحل، أفكار يغذيها الخلاف الأيديولوجي، وهي مشكلة عامّة لدى الإسلاميين مع مخالفيهم، يطولُ شرحُها، وأخرى بسبب الممارسة السياسيّة، اتفاقية "أوسلو"، سجن المعارضين السياسيين، وملاحقة المقاومين وأشياء كثيرة تحضرُ في أذهان أبناء حماس حول الرجل، فلماذا حفلت صفحاتُ كثيرٍ منهم بعبارات الترحّم والثناء والرثاء، في ذكراه التي حلّت الأسبوع الماضي.
اقرأ أيضاً: أزمة اليسار العربي2..الجبهات الفلسطينية وقائع موت غير معلن
ما بعد عرفات
بادئ الأمر يحضرُ قول الشاعر، "دعوتُ على عمرو فمات فسرّني *** فجرّبتُ أقواماً فنحتُ على عمرو"، إذ لمّا جرّب القومُ ما بعد ياسر عرفات، صدق فيهم المثلُ الفلسطيني: "ما بتعرفوا خيري؛ إلا لما تشوفوا غيري".
كان الرئيس عرفات موقّعاً على اتفاقيات مجحفةٍ مع المحتلّ، وكان يريدُ أن يفي بالتزاماته تجاهها، ويحاول جهده لمنع أي نشاطٍ مقاومٍ تجاه العدو، وارتكب في ذلك كثيراً من الموبقات، لكنّ روايات موثوقة نقلت عن قادة المقاومة، كتائب القسام تحديداً، أنّه غير مرّةٍ، وفي أفضل أيام "السلام"، أعطى الضوء الأخضر لشنّ هجماتٍ ضدّ الكيان الصهيونيّ، وأنّه كان يؤيّدها سراً، بينما يستنكرُها في العلن، وقد بلغ ذلك الاحتلال، ودفع عرفات ثمنه باهظاً.
اقرأ أيضاً: "العربي الجديد" يكشف..آلة ابتزاز الفلسطينيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي
الراعي الرسميّ لانتفاضة الأقصى
كان أبو عمّار أبا انتفاضة الأقصى، إذ انطلقت إثر فشل "كامب ديفيد الثانية"، بعيد رفضه مزيداً من التنازلات للصهاينة الجشعين، رعى الرجلُ الانتفاضة وتبناها، سياسياً وإعلامياً وميدانيًا، ثم أطلق سراح معتقلي حماس والجهاد جميعًا، الذين سُرعان ما عاودوا نشاطهم، وزلزلوا أمن "إسرائيل" حقيقة، وكانت هذه الانتفاضة البيئة التي احتضنت حماس وجناحها العسكريّ، حتى ترعرعا وتضخّما وصارا قوةً تُحسب لها الحسابات الكثيرة.
في "كامب ديفيد" قال عرفات رحمه الله للصهاينة والأميركان: "لا يمكنني التنازل عن المسجد الأقصى، إن فلسطينيًا سيقتلني إذا وقّعتُ على هذا، وأنا أفضّل أن يقتلني الإسرائيليّون"، وقد كان كما قال.
في السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى، تجلّى للصهاينة أنّ عرفات قد عاد إلى "ضلاله القديم"، واشتاق لأيام الكفاح المسلّح، وكانت سفينة "كارين إيه" المحمّلة بالسلاح إلى غزة، بعلمه وأمره، الدليل الدامغ على صدقِ التّهمة.
حوصر عرفات، وفرض العالمُ عليه محمود عبّاس رئيسًا للوزراء، لكنّ عبّاس لم يستطع أن يلتفّ على خيوط عرفات التي كان يُحكم بها قبضته، على كل مفاصل السلطة من محبسه برام الله، ولم تنجح الدبابات التي كانت تزلزلُ الأرض تحت قدميه في المقاطعة في ثني عزيمته، وقال كلمته المشهورة: "يريدونني إما أسيرًا، وإما طريدًا، وإمّا قتيلًا.. لأ.. أنا بقول لهم: شهيدًا شهيدًا شهيدًا"، كنتُ يومها فتىً صغيرًا أتابع مع والدي الأحداث مباشرة على الهواء، فقال رحمه الله يومها: "سيكتبُ التاريخ لعرفات هذه الكلمة، وسيموتُ هذا الرجل شهيدًا"، فاستغربتُ موقف والدي، وهو الذي اعتقله عرفات أربع مرات، بسبب إيواء كبار المطاردين مثل يحيى عياش وعدنان الغول.
اقرأ أيضاً: محررو صفقة شاليط..العيش في ظل الرقابة الإسرائيلية وخطرالأسر مجددا
خيانة الأقربين
مواقف عرفات هذه كانت نقطة تحوّل مذّاك، فحين حوصر عرفات، وأحكمت الخناق عليه دباباتُ شارون، أصدرت كتائبُ القسام بيانًا تاريخيًا، قالت فيه: "إذا لم يرفع العدو الصهيوني الحصار والقيود المفروضة على الرئيس ياسر عرفات، وبقرار مسموع وواضح فسترد كتائبنا على هذه القيود في العمق الصهيوني ردّاً يعرفه القاصي والداني، وبعدة عمليات تزعزع كيانه، وتجعل حياته جحيماً لا يُطاق"، ولم تكن تلك الكلمات، على الأرجح، نابعةً من فراغ.
ثمّ لما قُتل الرجل، تصاغرت الذكريات المُرّة، وضعُفت أحقاد الماضي، ولمّا تخاذل "أولياء دم الرجل الرسميون" عن طلبه، بل كانوا على الأغلب شركاء في سفكه، صار من المروءة والواجب أن يُذكر، وأن يقرّع به من نسيه أو تناساه.
سنة 1994، وقف إسحاق رابين أمام والدة الجنديّ الصهيونيّ "نخشون فاكسمان" المأسور لدى كتائب القسام حينها، وقال لها: إنّ "ياسر عرفات مسؤولٌ عن حياة ابنك"، كان عرفات بريئًا تمام البراءة من أسر "نخشون"، لكنّ رابين كان يظنّ عكس ذلك، لقد كان يراه عدوًا، حتى بعد اتفاقية السلام، وتقاسم "نوبل"، لطالما رأى "الإسرائيلي" عرفات عدوًا، وهذا يكفيه لأن يُذكر ويُرثى لدى كلّ حرٍ كلَّ عام.
كانت السلطة قد حضرت صبيحة ذلك اليوم، فاعتقلت جدّي، وبعض أخوالي، وفرّ الباقون، ولم يبق في البيت إلا الأطفال والنساء، وعصرًا نصبنا بمعونة الجيران، وبعض الأقرباء بيت عزاءٍ للشهيد، وفي عتمة الليل، حدثت جلبةٌ في محيط المنزل، نظرتُ من النافذة ناحية العزاء، فرأيتُ الشارع مملوءاً عن آخره بعساكر من الأجهزة الأمنية.
خرجنا أطفالاً ونساءً، خُضنا معركةً خاسرةً معهم، تفلنا في وجوههم، وضربناهم بالأحذية، ووصفناهم بالعملاء، لكنّهم في النهاية هدموا بيت العزاء، وللأمانة؛ فقد كان يعتريهم خجلٌ كبير إذ يهدمون بيت عزاء لشهيد، كان هذا في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله.
اقرأ أيضاً: مسلّم.. من حياة المستوطنة إلى الإعدام على يد "داعش"
أفكارٌ وذكريات تثير الحفيظة
في وعي الشابّ المنتمي إلى حركة حماس أو القريب منها، ثمة أفكار وذكريات غير حميدة يحملُها عن الرئيس الراحل، أفكار يغذيها الخلاف الأيديولوجي، وهي مشكلة عامّة لدى الإسلاميين مع مخالفيهم، يطولُ شرحُها، وأخرى بسبب الممارسة السياسيّة، اتفاقية "أوسلو"، سجن المعارضين السياسيين، وملاحقة المقاومين وأشياء كثيرة تحضرُ في أذهان أبناء حماس حول الرجل، فلماذا حفلت صفحاتُ كثيرٍ منهم بعبارات الترحّم والثناء والرثاء، في ذكراه التي حلّت الأسبوع الماضي.
اقرأ أيضاً: أزمة اليسار العربي2..الجبهات الفلسطينية وقائع موت غير معلن
ما بعد عرفات
بادئ الأمر يحضرُ قول الشاعر، "دعوتُ على عمرو فمات فسرّني *** فجرّبتُ أقواماً فنحتُ على عمرو"، إذ لمّا جرّب القومُ ما بعد ياسر عرفات، صدق فيهم المثلُ الفلسطيني: "ما بتعرفوا خيري؛ إلا لما تشوفوا غيري".
كان الرئيس عرفات موقّعاً على اتفاقيات مجحفةٍ مع المحتلّ، وكان يريدُ أن يفي بالتزاماته تجاهها، ويحاول جهده لمنع أي نشاطٍ مقاومٍ تجاه العدو، وارتكب في ذلك كثيراً من الموبقات، لكنّ روايات موثوقة نقلت عن قادة المقاومة، كتائب القسام تحديداً، أنّه غير مرّةٍ، وفي أفضل أيام "السلام"، أعطى الضوء الأخضر لشنّ هجماتٍ ضدّ الكيان الصهيونيّ، وأنّه كان يؤيّدها سراً، بينما يستنكرُها في العلن، وقد بلغ ذلك الاحتلال، ودفع عرفات ثمنه باهظاً.
اقرأ أيضاً: "العربي الجديد" يكشف..آلة ابتزاز الفلسطينيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي
الراعي الرسميّ لانتفاضة الأقصى
كان أبو عمّار أبا انتفاضة الأقصى، إذ انطلقت إثر فشل "كامب ديفيد الثانية"، بعيد رفضه مزيداً من التنازلات للصهاينة الجشعين، رعى الرجلُ الانتفاضة وتبناها، سياسياً وإعلامياً وميدانيًا، ثم أطلق سراح معتقلي حماس والجهاد جميعًا، الذين سُرعان ما عاودوا نشاطهم، وزلزلوا أمن "إسرائيل" حقيقة، وكانت هذه الانتفاضة البيئة التي احتضنت حماس وجناحها العسكريّ، حتى ترعرعا وتضخّما وصارا قوةً تُحسب لها الحسابات الكثيرة.
في "كامب ديفيد" قال عرفات رحمه الله للصهاينة والأميركان: "لا يمكنني التنازل عن المسجد الأقصى، إن فلسطينيًا سيقتلني إذا وقّعتُ على هذا، وأنا أفضّل أن يقتلني الإسرائيليّون"، وقد كان كما قال.
في السنوات الأولى لانتفاضة الأقصى، تجلّى للصهاينة أنّ عرفات قد عاد إلى "ضلاله القديم"، واشتاق لأيام الكفاح المسلّح، وكانت سفينة "كارين إيه" المحمّلة بالسلاح إلى غزة، بعلمه وأمره، الدليل الدامغ على صدقِ التّهمة.
حوصر عرفات، وفرض العالمُ عليه محمود عبّاس رئيسًا للوزراء، لكنّ عبّاس لم يستطع أن يلتفّ على خيوط عرفات التي كان يُحكم بها قبضته، على كل مفاصل السلطة من محبسه برام الله، ولم تنجح الدبابات التي كانت تزلزلُ الأرض تحت قدميه في المقاطعة في ثني عزيمته، وقال كلمته المشهورة: "يريدونني إما أسيرًا، وإما طريدًا، وإمّا قتيلًا.. لأ.. أنا بقول لهم: شهيدًا شهيدًا شهيدًا"، كنتُ يومها فتىً صغيرًا أتابع مع والدي الأحداث مباشرة على الهواء، فقال رحمه الله يومها: "سيكتبُ التاريخ لعرفات هذه الكلمة، وسيموتُ هذا الرجل شهيدًا"، فاستغربتُ موقف والدي، وهو الذي اعتقله عرفات أربع مرات، بسبب إيواء كبار المطاردين مثل يحيى عياش وعدنان الغول.
اقرأ أيضاً: محررو صفقة شاليط..العيش في ظل الرقابة الإسرائيلية وخطرالأسر مجددا
خيانة الأقربين
مواقف عرفات هذه كانت نقطة تحوّل مذّاك، فحين حوصر عرفات، وأحكمت الخناق عليه دباباتُ شارون، أصدرت كتائبُ القسام بيانًا تاريخيًا، قالت فيه: "إذا لم يرفع العدو الصهيوني الحصار والقيود المفروضة على الرئيس ياسر عرفات، وبقرار مسموع وواضح فسترد كتائبنا على هذه القيود في العمق الصهيوني ردّاً يعرفه القاصي والداني، وبعدة عمليات تزعزع كيانه، وتجعل حياته جحيماً لا يُطاق"، ولم تكن تلك الكلمات، على الأرجح، نابعةً من فراغ.
ثمّ لما قُتل الرجل، تصاغرت الذكريات المُرّة، وضعُفت أحقاد الماضي، ولمّا تخاذل "أولياء دم الرجل الرسميون" عن طلبه، بل كانوا على الأغلب شركاء في سفكه، صار من المروءة والواجب أن يُذكر، وأن يقرّع به من نسيه أو تناساه.
سنة 1994، وقف إسحاق رابين أمام والدة الجنديّ الصهيونيّ "نخشون فاكسمان" المأسور لدى كتائب القسام حينها، وقال لها: إنّ "ياسر عرفات مسؤولٌ عن حياة ابنك"، كان عرفات بريئًا تمام البراءة من أسر "نخشون"، لكنّ رابين كان يظنّ عكس ذلك، لقد كان يراه عدوًا، حتى بعد اتفاقية السلام، وتقاسم "نوبل"، لطالما رأى "الإسرائيلي" عرفات عدوًا، وهذا يكفيه لأن يُذكر ويُرثى لدى كلّ حرٍ كلَّ عام.