استمع إلى الملخص
- تاريخيًا، تعيد جباليا إنتاج صمودها عبر الأجيال، مقدمة نماذج للمقاومة من جيل القائد عماد عقل إلى الشاب خالد عسكر، مستمدة قوتها من تاريخها وموقعها الجغرافي.
- تتشابه معركة جباليا مع معركة السويس 1973، حيث سعى الاحتلال لتدمير الروح المقاومة، لكن الصمود الشعبي حال دون تحقيق أهدافه، معبرًا عن إرادة الشعوب.
يضرب أبناء غزة المثل بأهل جباليا في شدة البأس والإصرار على الحق والثبات على المبدأ، وهو ما يختبره جيش الاحتلال في مواجهتهم، حرباً وراء حرب، إذ يستهدفهم بأبشع المجازر، وزاد عليها هذه المرة حصاراً ومستويات غير مسبوقة من الموت والحرمان جوعاً وعطشاً، لإجبارهم على القبول بالتهجير القسري، وكل هذا ضمن مخططه الرامي إلى مراكمة صور الدمار والمجازر الجماعية فوق بعضها، إلى أن تمحو من أذهان العرب، وقبلهم الفلسطينيون، مشاهد السابع من أكتوبر، وما خلقته من أمل في عودة الحق إلى أهله الذين فوجئوا كغيرهم بهذه الصورة الأيقونية للمقاوم الطائر في الهواء عبوراً لكل جدر الاحتلال وحواجزه وأجهزة تنصته الفائقة، مسقطاً في النهاية "فرقة غزة" التي كان الجيش الإسرائيلي يتغنى بقدراتها.
مقاومة جباليا، لا بد أن تثير العديد من الأسئلة في أذهاننا، كيف تصمد هذه الثمانية عشر كيلومتراً مربعاً في وجه أعتى آلة حربية في المنطقة؟ من أين يأتون بالسلاح؟ كيف نجحوا في شهر ونصف بالقضاء على 24 جندياً، بينهم ثمانية من وحدتي "الأشباح" و"لوتار" الخاصتين وقائد اللواء 401 في جيش الاحتلال؟ لماذا يصر المدنيين على البقاء؟ من أين يستمد الفدائيون المتعبون الجائعون إرادة القتال وإبداع تجهيز مسرح عمليات ممتلئ بالشراك التي يصيدون بها أعداءهم الذين يفوقونهم عدداً وعدة، وتحديداً الفرقة 162 المدرعة التي تحاصرهم منذ 40 يوماً، ومعها اللواء المدرع 460 ولواء غفعاتي من القوات الخاصة، أي ما يقدر بنحو 50 ألف جندي، تساندهم قوات جوية ومسيّرات هي الأحدث.
للمصريين مع الفرقة ذاتها وجرائم جيشها "ثأر بايت"، فقد حاصرت مدينة السويس في 24 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وشنت غارات وحشية على شركة النصر للأسمدة، ما أشعل الحرائق في كثير من أقسامها، كما قطعت ترعة السويس المتفرعة من ترعة الإسماعيلية، التي تغذي المدينة بالمياه الحلوة، ودمرت شبكة الضغط العالي التي تحمل التيار الكهربائي من القاهرة إلى السويس، وقطعت بعد ذلك أسلاك الهاتف التي تربط المدينة بالعالم الخارجي، وركزت مدفعيتها على أحياء السويس السكنية، ما أسفر عن مئات من الشهداء وآلاف من الجرحى حتى ضاق المستشفى العام بهم، وأصبحوا لفرط الازدحام يوضعون على الأرض في طرقات المستشفى (المشهد ذاته يتكرر يومياً في غزة)، لإقناع "السوايسة" بأنه لا جدوى من المقاومة، وبأن الحل الوحيد للخلاص من كل متاعبهم هو الاستسلام للغزاة.
قاد الفرقة مؤسسها الجنرال أبراهام أدان، بمشاركة يعكوف حيساوي قائد قوة المظلات، وكانا يظنان أن المدينة ستسقط ولن تتأخر كثيراً، لكن مجريات المعركة جعلت حيساوي يصف محاولة الاستيلاء على المدينة بـ "قطعة من الجحيم"، فقد قتل 80 إسرائيلياً على يد المقاومة الشعبية يسندهم 160 مقاتلاً من الفرقة 19 مشاة التابعة للجيش المصري الثالث خلال حصار دام 101 يوم، شارك فيه 40 ألف ضابط وجندي إسرائيلي ونحو 250 دبابة ومدرعة فشلوا في الاستيلاء على السويس.
في المواجهة الأولى، رفض خمسة آلاف مدني تعرضوا لمجازر إسرائيلية مشابهة لما نراه اليوم الرحيل عن أرضهم، فما الخيار؟ لا يوجد بديل، هكذا يفكر أهل جباليا الذين يرفضون الخضوع رغم التدمير الهائل والقصف العنيف متمسكين بأرضهم، وكي لا يهجّروا مرة ثانية بعدما أجبرتهم العصابات الصهيونية على الرحيل القسري إلى غزة بعد هزيمة 1948، وهو نوع من ذاكرة الألم التي تفرز وعياً يجعل الإنسان يواجه كل ما لا يمكن تصوره من بطش، فحتى الآن لا يوجد خيار آخر غير المقاومة، التي تعمل بأبسط الإمكانات؛ أسلحة خفيفة وشراك تقوم على إعادة تدوير قنابل الاحتلال التي لم تنفجر، وهو تكتيك ناجح في اصطياد جنود الاحتلال مثلما جرى في كمين دوار الصفطاوي.
هدفَ الاحتلال في السويس إلى السيطرة على المدينة وصنع نصر دعائي لتحسين شروط التفاوض مع مصر، والقضاء على بقايا وحدات الفرقة 6 مشاة ميكانيكية التي اشتركت في المعارك التعطيلية العنيفة ضد قوات الجنرال أبراهام أدان المتقدمة على المحور الساحلي الموازي للبحيرات المرة والقناة، بينما الهدف في جباليا هو التدمير وتغيير شكل البلدة والمخيم من أجل منع أي إمكانية لعودة احتضان المكان وأهله للمقاومة، لذا يعيد الجيش الإسرائيلي تشكيل مسرح العمليات حتى يلائم هدفه المستدام بالسيطرة. بالرغم من ذلك لا يتوقف الفلسطينيون عن محاولة العودة إلى الشمال حتى لو كان الثمن أرواحهم، فقد اختار أهل جباليا "طريق ذات الشوكة" رافضين الانحناء لمخلوق، بشراً كان أو حجراً، كما يقول الشاعر سيد حجاب.
ثمة خصوصية للمقاومة في فلسطين التي لم تتوقف منذ بدايات القرن الماضي، وخاضت معارك ضد الغزاة القادمين من أوروبا، فبعد البريطانيين كان الصهاينة، فالأماكن تعيد إنتاج صمودها. ومن جيل القائد عماد عقل ابن جباليا، خرج الشاب خالد عسكر الذي كان من أوائل من حاولوا اقتحام مستوطنات غلاف غزة عام 2008 في عملية نذير الانفجار.
أزاليا كما كانت تسمى في العصر الروماني، موجودة منذ الأزل، فقد ذهب الغزاة وبقيت وستبقى جباليا التي حُرِّف اسمها الأول وتطور نسبة إلى موقع المدينة التي أُسست على أرض جبلية، بما يعنيه هذا من آثار متوارثة على مر الأجيال لتفاعل المكان مع السكان الذين تسود بينهم صفات الحزم والبأس، أشداء على أعدائهم، رحماء فيما بينهم.