استمع إلى الملخص
- تغيرات بعد 2005: بعد خروج القوات السورية من لبنان، تحول حزب الله من مقاومة الاحتلال إلى الانخراط في صراعات داخلية، مما أثر على صورته وقوته.
- تأثير الثورة السورية والاختراقات الإسرائيلية: انحياز الحزب للنظام السوري واستخدام مقاتليه للهواتف دون محاذير أمنية سهل عمليات الاختراق والاغتيال، مثل اغتيال مصطفى بدر الدين في 2016.
لا يكاد يوم يمر إلا وينعى حزب الله قائداً كبيراً اغتالته دولة الاحتلال، في وتيرة متصاعدة منذ تفجيرات أجهزة البيجر واللاسلكي، وقد يقول قائل إن وقوع تلك العمليات يحدث عادة في هذا النمط من الحروب بين الفاعلين المسلحين من غير الدول والجيوش النظامية، والأمر صحيح نسبياً، لكن ليس بتلك الوتيرة المتسارعة وعلى هذا المستوى من القادة، وبتلك الطريقة المتكررة عبر استهداف شقق وعمارات سكنية يفترض أنها مكامن آمنة ومقرات قيادة وسيطرة مجهولة للعدو، فما الذي حدث؟ خاصة أن إمكانيات وقدرات التنظيم الأمنية والعسكرية كثيراً ما جرى التحذير منها إسرائيلياً ودولياً، ووُصِف الحزب بأنه الخصم الأصعب و"أكبر جماعة عسكرية غير حكومية تسليحاً في العالم".
للرد على هذا السؤال ينبغي العودة إلى الوراء ومقارنة أداء الحزب في نسخته الحالية، مع حرب تموز (يوليو) 2006 التي خاضها ضد الاحتلال ولم يخسر فيها هذا العدد من القيادات وبمثل وزن فؤاد شكر، كبير المستشارين العسكريين للأمين العام، وإبراهيم عقيل معاون الأمين العام لشؤون العمليات قائد قوات النخبة أو ما يعرف بوحدة الرضوان التي فقدت ثلاثة آخرين من قادتها في الحادث ذاته، وإبراهيم قبيسي الذي يصفه الاحتلال بقائد القوة الصاروخية، ومحمد ناصر مسؤول العمليات على الحدود، وطالب عبدالله الذي عمل معه، وأحمد وهبي القائد بقوة الرضوان، ووسام الطويل القائد الميداني، والقيادي علي برجي، بينما نجا علي كركي عضو المجلس الجهادي وقائد الجبهة الجنوبية من غارة في الضاحية الجنوبية، وخلال كتابة هذا المقال وقعت غارة أخرى وأعلن الاحتلال عن استهداف قائد الوحدة الجوية في الحزب، وبالمقارنة مع ساحة عمليات أخرى لم تنجح إسرائيل في استهداف هذا المستوى من قيادات المقاومة في غزة وإن كان بعضهم قد استشهدوا، لكن على فترات متباعدة وعددهم أقل ما يعني نجاحاً في سد سريع للثغرات التي نفذ منها الاحتلال، بينما لبنانياً يتسع الخرق الأمني ولم يتمكن الحزب بعد من رتقه.
إذن نحن أمام استنزاف سريع يمكن ربط أسبابه بالتحولات الوظيفية التي شكلت أداء الحزب، في مرحلة ما بعد خروج القوات السورية من لبنان في إبريل/نيسان 2005، والتي يعد ما قبلها، منذ التأسيس وحتى ذلك التاريخ أو "النسخة الأولى"، فترة ذهبية للحزب مهمته فيها كانت واحدة لا شريك لها ولا شاغل عنها وجهوده كلها منصبة في مقاومة الاحتلال، كما كان خطابه عابراً للطوائف وحاز قبولاً داخلياً وعربياً، كان ما يزال موجوداً أثناء حرب تموز التي خرج الاحتلال منها دون أن يحقق أهدافه المعلنة، وكل هذا لأن الحزب كان محتفظاً بدوره الأصلي وخصائصه، إلا أنه سرعان ما بدأ في التراجع، مع بداية "النسخة الثانية" وتفاعلاتها على وقع الانقسام الداخلي بين معسكري، 14 آذار في مقابل 8 آذار الذي حاول الحزب من خلاله تعويض الدور السوري في الهيمنة اليومية على شؤون البلاد، ليتدحرج إلى صراع على السلطة تجلى في اجتياح بيروت عسكرياً في 7 مايو/أيار 2008 وتكرر الأمر بشكل أقل في 18 يناير/كانون الثاني 2011 أو ما يعرف بانتشار القمصان السود في بعض شوارع وتقاطعات بيروت، ليواصل الحزب نزيف صورته وقوته داخليًا ودوره المقاوم خارجياً.
تزامناً مع تراجع الحزب داخلياً بقوة، جاءت الثورة السورية التي تفاعل معها منحازاً إلى النظام إعلامياً في مرحلتها الأولى، وما لبث أن شارك بمسلحيه في وأدها عبر جرائم حرب قضت على ما تبقى له من قبول عربي. ومن وقتها بدأ الاختراق الإسرائيلي، إذ انتقل الحزب من العمل السري إلى العلني حتى إن مقاتليه كانوا يبثون مقاطع مصورة لعملياتهم وأماكن وجودهم، أي أنهم يستخدمون هواتفهم دون محاذير أمنية خلال وجودهم إلى جانب القيادات الميدانية، والتي أصبحت هي الأخرى مكشوفة للاحتلال، وبعد أعوام لمس الأمين العام حسن نصر الله هذا التهاون في استخدام الهواتف أوائل العام الجاري، ودعا أنصاره للتخلي عنها، لكنه تحذيره جاء متأخراً، ولعله ساهم بشكل غير مباشر في التوجه ناحية أجهزة البيجر التي كانت دولة الاحتلال تعمل في صمت على اختراق سلسلة توريدها وصولاً إلى تفجيرها.
هنا من المعلوم بالضرورة أن الحزب نسق عملياته في سورية مع مخابرات النظام وأجهزة أمنه كما الجيش الروسي، ما يعني أن كادره القيادي صار مكشوفاً أكثر أمام المزيد من الحلقات التي يسهل خرقها، وبالفعل استفادت إسرائيل من الأمر لتغتال قيادات عديدة لحزب الله، من أهمها مصطفى بدر الدين رئيس وحدة العمليات بالخارج وأحد المؤسسين الذي اغتالته دولة الاحتلال في دمشق عام 2016، أي أن المستوى القيادي الذي استهدفته دولة الاحتلال في سورية كان بداية الخيط الناظم لعمليات الاختراق والاغتيال التي تظهر نتائجها حالياً.
هكذا مع مرور الأعوام واصل الحزب انشغاله بالتفاصيل اليومية في لبنان الذي هيمن عليه، كما سورية التي كشف نفسه فيها أمام الاحتلال لنسمع يوماً وراء يوم عن قصف لقافلة أو عناصر من التنظيم، بينما كان الاحتلال يعد الخطط لهذا اليوم، خاصة أن الحزب لم يخض حرباً ضد إسرائيل منذ تموز 2006 أي أنه فقد حساسية العمل الاستخباراتي والأمني ضد خصم حقيقي كإسرائيل العدو الأول والأكثر خطورة، والتي تنشط المعارك معها حساسية تنظيمات المقاومة أمنياً واستخباراتياً، لتكشف شبكات المتعاونين وتفعل قدرات الاستطلاع والتجسس، في حين أن مواجهة الثوار السوريين بالتأكيد لا تحتاج إلى كل هذا الجهد، وبالتالي تصرف الجميع في حزب الله، جنوداً وقادة، وكأن حروبهم ضد الاحتلال انتهت على وقع ما يعتقدون أنه انتصار لمحورهم في سورية، ما جعلهم يتصرفون دون محاذير أمنية أعواماً طويلة، ومرة واحدة حاولوا الانتقال عكس ذلك وهو ما يحتاج إلى وقت طويل، واستعدادات أمنية كبيرة، فعلى سبيل المثال ركزنا جميعاً على تفجيرات أجهزة البيجر لكن السؤال ما هي المعلومات التي حصلت عليها دولة الاحتلال منها قبل تفجيرها؟
المشكلة الأكبر أن مواجهة هذا الاختراق في ظل الحرب المتدحرجة صعبة، وإن كانت غير مستحيلة، وسبق أن نجحت فيها تنظيمات مثل "فيت كونغ" في فيتنام، لذا على الحزب أن يركز على سد الثغرات التي ينفذ منها الاحتلال وإعادة بناء جهازه الأمني وإعادته إلى أصوله التي لم يكن لها من عدو سوى الاحتلال.