تحقيق لبنان 1
05 أكتوبر 2020
+ الخط -

في 15 مايو/ أيار الماضي، تقدّم عضو تكتل الجمهورية القوية، النائب عن حزب القوات اللبنانية، زياد حواط، بإخبارٍ إلى النيابة العامة التمييزية بشأن "المعابر غير الشرعية والتهريب عبر الحدود، تضمن خريطة تلك المعابر، ويراوح عددها بين 8 و10 معابر تقع في سلسلة جبال لبنان الشرقية، التي يُغلق الجيش اللبناني بعضها، ليُعاد فتحه مرة أخرى من قبل المهربين الذين وضع لائحة بأسماء 10 من كبارهم".

لكن "حتى اليوم لم يُوقَف أو يُستجوَب أيّ منهم"، كما قال حواط لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "لم يتغير شيء، ولم يحصل أي تقدم بهذا الملف بعد الإخبار، ولم تُطلَب إفادتي حتّى وسؤالي عن المعلومات التي قدمتها"، ليبقى التهريب على حاله، "بل زاد أكثر، وما زالت البضائع تُهرَّب من لبنان إلى سورية، ولا سيما المحروقات والطحين"، كما يقول.

ويعاني اللبنانيون من شح البنزين وانقطاع المازوت بشكل متكرر، وتجددت أزمة اختفاء المحروقات بصورةٍ كبيرة منذ أكثر من أسبوع، إذ ينتظر المواطنون أمام محطات الوقود في طوابير طويلة لشراء كميات قليلة بينما أقفلت بعض المحطات أبوابها أمام الزبائن وتوقفت عن العمل لعدم توافر المحروقات.

زيادة غير منطقية في الاستيراد

تكشف بيانات صادرة عن الجمارك اللبنانية حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها عبر مصدر مصرفي رسمي، ارتفاعاً واضحاً في تكلفة المحروقات المستوردة إلى لبنان، بين عامي 2011 (عام الثورة السورية) و2012، إذ انتقلت من 4.62 مليار دولار إلى 6.60 مليارات دولار، وانخفضت إلى حدود 5.86 مليارات دولار و5.74 مليارات دولار في 2013 و2014 على التوالي، واستقرت على ما يقارب 4 مليارات في 2016 و2017 وعادت لترتفع وصولاً إلى 4.9 مليارات دولار نهاية عام 2018، ثم 6.60 مليارات دولار في عام 2019، وصولاً إلى 1.42 مليار حتى يونيو 2020. وبحسب المصدر، حذفت الجمارك اللبنانية أرقام ما قبل الأزمة السورية "تفادياً لكشف معلومات عن قيمة الاستيراد".

الصورة
تحقيق لبنان 1

أما كلفة استيراد القمح، فقدرت بـ 151.34 مليون دولار في عام 2011، وارتفعت في 2012 إلى 174.47 مليون دولار، ثم 201.95 مليون دولار في عام 2013، و184.24 مليوناً في 2014، لتراوح بين 140 و150 مليوناً في الأعوام من 2015 وحتى 2018، وتراجعت إلى 135.48 مليوناً في 2019، ومن ثم 80.90 مليون دولار حتى يونيو 2020.

حجم الاستهلاك الحقيقي

"في مقابل الكميات المستوردة من المحروقات، فإن حجم الاستهلاك الحقيقي أقل بكثير"، كما يؤكد جورج براكس، الناطق باسم نقابة أصحاب محطات الوقود في لبنان، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن حاجة السوق اللبناني اليومية من المحروقات تُقدَّر بـ 5 ملايين لتر من البنزين و5 ملايين لتر من المازوت، أي بمعدل مليار و825 مليون دولار سنوياً لكل مادة، تدعمها الدولة بنسبة 90%، منذ سبتمبر/ أيلول 2019 تاريخ بدء انهيار الليرة، إذ يمنح المصرف المركزي مستوردي المحروقات الدولار بسعر صرف 1515 ليرة، بينما سعره في السوق السوداء يتجاوز 7000 ليرة، وتقوم الشركات المستوردة من حكومية وخاصة بتأمين المبلغ الباقي (10%) عبر السوق السوداء.

الصورة
تحقيق لبنان 2

و"بينما كان الاستهلاك المحلي على حاله تقريباً في السنوات الماضية، فإن حجم التهريب يوازيه تقريباً "برأي براكس الذي قال: "يستهلك لبنان 5 ملايين لتر من المازوت مثلاً، بينما تسلّم الشركات ومنشآت النفط السوق المحلي 9 أو 10 ملايين لتر يومياً، أي ما يزيد على حاجة الاستهلاك اليومي بما يقارب الضعف (وهي الكمية المرجَّح تهريبها خارج الحدود)".

الصورة
لبنان 2

لكن البيانات التي حصل عليها "العربي الجديد" من النائب حواط، تكشف أن كميات المازوت المستوردة خلال 10 سنوات زادت بنسبة تتجاوز الألف طن، إذ سجلت 1181 طناً في عام 2010، بينما كانت في العام الماضي 2435 طناً، وكانت 2129 طناً في عام 2018، فيما سجلت 2508 أطنان في عام 2017، ما يثبت نظرية استيراد المازوت بكميات أكبر من الحاجة، في ظل أن حجم الاستهلاك كان متشابهاً، وهو 1825 طن مازوت سنوياً.

الصورة
تحقيق لبنان 3

وتشير الأرقام نفسها إلى أنه خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري (1000 طن حتى بداية مايو/ أيار)، كان الكمية المستوردة تفوق ما تم استيراده خلال الفترة نفسها من العام الماضي (930 طناً)، على الرغم من الأزمة الاقتصادية، والحجر الصحي والإقفال العام الذي شهدته البلاد بسبب جائحة كورونا، بحسب حواط الذي يقدّر نسبة التهريب اليومي للمحروقات بمليوني لتر، بينما تشهد البلاد أزمة شحّ في المحروقات تتجدد من وقت لآخر، مقدّراً قيمة المازوت المهرَّب بـ 152 مليون دولار في عام 2018، و366 مليون دولار في 2019، و150 مليون دولار في الربع الأول من العام الجاري.

الصورة
تحقيق لبنان 5

وبينما يقدّر حواط الخسائر المترتبة على الدولة اللبنانية من جراء عملية التهريب بمليار دولار سنوياً، يحددها المصدر المصرفي الرسمي بـ 500 مليون دولار أميركي سنوياً كحد أدنى، لتؤدي بطريقة غير مباشرة إلى تهريب دولارات لبنان المأزوم مالياً إلى خارج الحدود، ما يفاقم من الضغط على الليرة.

وعن استهلاك الطحين، يؤكد نقيب مستوردي القمح، أحمد حطيط، أن المعدل اليومي للاستهلاك المحلي يقارب 1000 طن يومياً، أو بمعدل شهري يراوح بين 28 و 30 ألف طن، لكن الاستيراد يتجاوز ذلك، إذ يستورد لبنان بين 50 ألف طن و60 ألف طن من القمح شهرياً، 95% من الكمية تتحول إلى طحين، بكلفة 250 دولاراً للطن الواحد، أي ما بين 12 و 15 مليون دولار شهرياً (ما بين 140 مليون دولار و180 مليون دولار سنوياً). وكما في المحروقات، تدعم الدولة هذه الكلفة بنسبة 85% عبر حساب الدولار بـ 1515 ليرة، ما يعني أن الدعم يراوح بين 130 مليون دولار و140 مليون دولار كل عام، بحسب حطيط، الذي برر الكميات الإضافية المستهلكة بقرار استباقي يعمل على تأمين "مخزون استراتيجي إضافي لـ 3 أشهر" ويستبعد حصول عمليات تهريب للطحين إلى سوريا "إلا بكميات بسيطة ربما" على حد قوله.

كيف تجري عملية التهريب؟

التهريب "مشرّع" في لبنان كما يوصّفه جورج براكس، لأن المحروقات تُستَورَد بطريقة شرعية، وتُدفع رسومها، وتُوضَع في مستودعات تحت إشراف الجمارك اللبنانية، ولا تخرج من هذه المستودعات إلى السوق المحلي إلا بموجب بيان جمركي شرعي، وبمجرد أن تصبح المحروقات في الصهاريج الخاصة بالموزعين، تدخل إلى المجهول، بواسطة تجار يهربونها عبر الحدود الشمالية والشرقية إلى سورية، وبالتالي مراكمة أرباحهم.

الصورة
تحقيق لبنان 8

ويرى أن مكافحة التهريب لا تحتاج لأكثر من أن تراقب وزارة الاقتصاد التسليمات الجمركية للمحروقات، وتطلب من كل شركة وكل صاحب محطة لوائح تسليم المواد، ليتتبعوا بمساعدة الأمن العام كل من وصلت إليه هذه المواد ومعرفة وجهتها الحقيقية.

مرحلة ما بعد الصهريج يشرحها لـ"العربي الجديد" مالك إحدى محطات الوقود في القرى الحدودية الشمالية، (رفض ذكر اسمه حرصاً على سلامته وعدم تعرّض مصالحه للأذى)، قائلاً: "بعض الصهاريج بعد تعبئتها بالمحروقات من مستودعات الجمارك، تقطع بأمان وسلام على الحواجز الأمنية كافة، لكونها تحمل فاتورة أو إذن تسليم للمحطة الفلانية تتضمن اسم المحطة وتاريخ النقل واسم المستلم ورقم الصهريج واسم السائق، وتتضمن أيضاً كمية الشحنة، نوعها، واسم الشركة الموزعة التي ينقل الصهريج الشحنة لصالحها".

الصورة
تحقيق لبنان 10

لكن بالفعل، قد لا يفرّغ الصهريج حمولته في المحطة المذكورة، بل يفرّغها في محطة حدودية أخرى، سيكون الوصول إليها أقرب عبر المعابر غير الشرعية، لتُفرَّغ حمولة كبيرة في إحدى المحطات ذات الموقع الاستراتيجي بالاتفاق بين المحطة، والشركة الموزعة، وصاحب الصهريج، ومن ثم تأتي صهاريج سورية عبر طرق ترابية وعرة، أو جسور حديدية تصل بين الطرفين المفصول بينهما بساقية أو ممر مائي صغير، وأحياناً تكون عبر طريق ترابية سهلة العبور بعيدة عن العيون الأمنية وتسحب الحمولة وتذهب بها. كذلك، تخزّن بعض المحطات كميات كبيرة لاحتكارها، ومن ثم بيعها بثمن أغلى في حال شحّ المحروقات في السوق أو ارتفاع سعرها، وهذا ما يوصفه مالك المحطة بالتهريب الداخلي.

ما الذي يمنع الدولة من مكافحة التهريب؟

يرى النائب حواط أن التهريب يجري بغطاء أمني من بعض الأجهزة الرسمية، متهماً حزب الله، القوة الفاعلة في المنطقة الحدودية، وهو ما يرفضه النائب في كتلة الوفاء للمقاومة (حزب الله) أنور جمعة، ويضعه في إطار "حملة ممنهجة ضد لبنان وليس فقط ضد حزب الله"، ويصف ذلك بالاتهامات العشوائية غير المسنودة، ولا دليل عليها. ويؤكد أنه إذا كان هناك تقصيٌر ما عن قصد أو عن غير قصد من الأجهزة الأمنية، فلا علاقة لحزب الله به، ولسنا بوارد أن نحلّ مكان الدولة".

ويردّ ياسين علي حمد جعفر (أحد وجهاء العشائر في المنطقة) على اتهامات التهريب، بأن هذه المعابر حاجة اجتماعية ومعيشية للأهالي ممن يعانون إهمال الدولة وحرمانهم الإنماء، ما أجبرهم على البحث عن رزقهم خارج الحدود.

أما كبار المهربين "فهم يتمتعون بغطاء من الدولة نفسها"، ويضيف جعفر: "مهما حاولوا أن يصفونا بأننا خارجون عن القانون، فلن يستطيعوا. فنحن تحت القانون، ولا بديل لنا من هذا الوطن، ولا يمكن أحداً أن يُلغينا"، وهو ما يراه العميد الركن هشام جابر، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات، مشكلة تؤدي إلى عمليات كرّ وفرّ بين الجيش والأهالي، إذ تجري محاولات عديدة لإعادة فتح المعابر بعد إغلاقها، مشيراً إلى صعوبة إقفالها بشكل تام، لطول الحدود بين لبنان وسورية، وتداخلها ووعورتها في بعض الأحيان، وقلّة عديد الأفواج العسكرية المخصصة لمراقبة هذه المناطق، وهو أمر يمكن حله عبر الطائرات بدون طيار التي ستوفر الدولة أضعاف ثمنها إذا منعت التهريب "لكن الأمر يحتاج لقرار سياسي بدعم الجيش".