تجارة الرتب العسكرية... فوضى المليشيات تتسلل إلى الجيش السوداني

05 سبتمبر 2022
تباطؤ الحركات المسلحة في تجميع قواتها يفاقم بيع الرتب العسكرية (Getty)
+ الخط -

يكشف تحقيق "العربي الجديد" الاستقصائي عن فوضى تجارة البطاقات والرتب العسكرية لمليشيات سودانية موقعة على اتفاقية جوبا للسلام، ويفترض دمج مقاتليها ضمن صفوف الجيش والشرطة، لكن الترتيبات توقفت عقب الانقلاب العسكري.

- لا تفي المبالغ التي يحصل عليها الثلاثيني السوداني صابر آدم، من بيع صناديق السجائر والبسكويت للمارة في شارع رئيسي بضاحية الكلاكلة جنوبي الخرطوم، باحتياجات عائلته اليومية، ولمعالجة ضائقته الاقتصادية لجأ صابر، والذي طلب تعريفه باسم مستعار للموافقة على الحديث، إلى مصدر دخل جديد عبر بيع الهويات العسكرية للراغبين في الانضمام إلى الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام مع الحكومة الانتقالية في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.

"الصدفة وحدها قادتني إلى هذا العمل"، كما يقول آدم أثناء جلسته المعتادة لتناول القهوة بالقرب من مكان عمله، إذ تجاذب أطراف الحديث مع أحد الموجودين والذي عرفه بنفسه بأنه ينتمي إلى تنظيم الجبهة الثالثة المسلحة "تمازج" وباستطاعته توفير بطاقة عسكرية له. 

تحمس آدم للفكرة وفي باله أن توفر له الهوية العسكرية حماية من حملات الشرطة المتكررة على مكان عمله، لذلك قرّر شراء البطاقة من عنصر الجبهة الثالثة والذي يحمل لقب "تيكو"، في مقابل 10 آلاف جنية سوداني (حوالي 20 دولاراً أميركياً في أغسطس/آب 2021).

وتعد حركة تمازج إحدى المليشيات التي وقّعت معها الحكومة السودانية الانتقالية اتفاقاً للسلام في جوبا، وتوجد على الشريط الحدودي بين السودان وأفريقيا الوسطي وتشاد، بحسب ما يوضح الناطق باسمها العميد محمد موسى بادي.

كم عدد الرتب العسكرية المباعة؟

صار آدم الذي قابله معد التحقيق في أكتوبر 2021 ضابطاً برتبة ملازم، في حركة تمازج، بموجب البطاقة التي دفع ثمنها، لينتقل بعدها إلى العمل وسيطاً بين راغبي الحصول على البطاقات والرتب العسكرية والبائعين في مقابل نسبة يحصل عليها.

ويصل عدد البطاقات والرتب التي وزّعتها بعض الحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا، منها تمازج والحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال (بقيادة مالك عقار)، 20 ألف بطاقة، خلال العامين السابقين، بحسب ما أفاد به "العربي الجديد" مصدر في الاستخبارات العسكرية بالجيش السوداني (فضّل حجب اسمه لكونه غير مخول بالتصريح الإعلامي)، موضحاً أن الرقم السابق يعود إلى تشكيل لجنة من الجيش وقادة الحركات المُسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لحصر العضويات.

وينتشر هذا النوع من الهويات والرتب العسكرية بكثافة في إقليم دارفور المضطرب غربي البلاد، وفقاً للمصدر الاستخباري والذي يقول إن "الترتيبات الأمنية تقوم على عمل تحريات واسعة عن أفراد الحركات المراد إدماجهم في الجيش السوداني، ليتم استبعاد من يثبت أنه اشترى الرتبة العسكرية وبطاقة الانتماء للحركة المسلحة المعنية عبر مراجعة الكشوفات والتاريخ العسكري لأصحاب البطاقات".

الصورة
لجنة الترتيبات الأمنية في مقابلات مع جنود الحركات المسلحة ضمن أعمال التجميع والحصر
لجنة الترتيبات الأمنية في مقابلات مع جنود الحركات المسلحة من أجل التجميع والحصر (وكالة السودان للأنباء)

وبدأت الترتيبات في 21 سبتمبر/ أيلول 2021 عبر مجموعات محددة جرت تعبئتها من الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار في ولاية جنوب كردفان غرب السودان بمعسكر الرويكيبة، بمساعدة "يونيتامس" (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان)، والتي تعمل على تقديم ورش تدريبية للشرطة والجيش والحركات المسلحة في كيفية تنظيم الترتيبات الأمنية، بحسب المصدر الاستخباري، مشيراً إلى تشكيل قوة مشتركة لحماية المدنيين في إقليم دارفور بعد تدريبها من قبل الجيش السوداني، وتخريج ألفي مقاتل في يوليو/ تموز الماضي، وهذه القوة منصوص عليها في اتفاق جوبا بشأن الترتيبات الأمنية والذي حدّد تشكيل قوة من 12 ألف جندي، منهم 6 آلاف من قوات الحركات المسلحة وعدد مماثل من القوات النظامية، تتولى مهمة حماية المدنيين بدارفور وتعوض انسحاب الـ"يوناميد" (البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لعمليات السلام في دارفور).

التباطؤ في تجميع القوات

يصف المتحدث باسم الجيش السوداني العقيد نبيل عبد الله بيع البطاقات والرتب العسكرية من قبل بعض الحركات المسلحة بـ"التصرفات غير القانونية"، وقد أضاف في تصريحات لـ"العربي الجديد" أنه "لا كبير على القانون، وكل من يضبط سيُحاسب".

الصورة
 العقيد الركن نبيل عبدالله، الناطق باسم القوات المسلحة في السودان
العقيد الركن نبيل عبدالله، الناطق باسم القوات المسلحة في السودان (وكالة السودان للأنباء)

واتهم بعض الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام بالتباطؤ في تجميع قواتها حسب التعريف المنصوص عليه في المواثيق الدولية، وهي أن المقاتل ينبغي أن يكون في مواقع التعبئة بسلاحه الشخصي أو كطاقم في الأسلحة الثقيلة، مضيفاً أن الترتيبات الأمنية تواجه عقبات لوجستية ومادية تتمثل في عدم توفر التمويل اللازم من الأطراف الدولية.

ومن غير المسموح عقب توقيع اتفاق السلام تجنيد قوات جديدة، بحسب العقيد عبد الله، والذي يحدّد سريان الترتيبات الأمنية (الدمج والاستيعاب) على "المنضوين تحت لواء الحركات حتى تاريخ توقيع الاتفاق فقط".

بيع الرتب والبطاقات العسكرية يعدّ خرقاً لاتفاق جوبا وقانون القوات المسلحة

وفي مواجهة التخوف من دخول مليشيات ذات خلفيات قبلية إلى الجيش النظامي يقول المتحدث باسم الجيش "بروتوكولات الترتيبات الأمنية تقوم على استيعاب المستوفين لشروط التجنيد والخضوع للتدريب المتبع لأفراد القوات المسلحة فقط".

خرق الاتفاق

يقول عضو الوفد الحكومي العسكري في ملف الترتيبات الأمنية اللواء معاش كمال إسماعيل إن عمليات التجنيد وبيع الرتب العسكرية والبطاقات من قبل بعض الحركات المسلحة تعدّ خرقاً لاتفاق جوبا وقانون القوات المسلحة.

الصورة
 اللواء متقاعد كمال إسماعيل عضو الوفد الحكومي العسكري في ملف الترتيبات الأمنية
اللواء متقاعد كمال إسماعيل عضو الوفد الحكومي العسكري في ملف الترتيبات الأمنية (موقع حزب التحالف الوطني السوداني)

وكان من المفترض عقب توقع اتفاق السلام في عاصمة جنوب السودان البدء خلال 45 يوماً في الترتيبات الأمنية والتي حددت مناطق تجميع منتسبي المليشيات المسلحة خارج المدن وبعيداً عن معسكرات النازحين، خاصة في إقليم دارفور، ليبدأ تحديد من يريد الانضمام إلى الجيش أو الأمن أو الشرطة وإذا كان لائقاً طبياً يتم تحويله إلى معسكرات تدريب تتبع للدولة، كما أضاف إسماعيل في تصريح لـ"العربي الجديد" قائلاً: "توزع الرتب وفق قانون القوات المسلحة أو الشرطة، والبطاقات يحصل عليها الأفراد عقب إدماجهم في الوحدات النظامية".

وأوضح أن السماح بوجود قوات تدخل مع قادة الحركات المسلحة إلى العاصمة أو الولايات بحجة الحماية الشخصية فتح الباب لهذه الخروقات، باعتبار أن قادة هذه الحركات عقب توقيع الاتفاق أصبحوا جزءاً من الدولة ويجب حمايتهم عبر وحدة حماية الشخصيات المهمة بالاستخبارات العسكرية.


الدمج الكلّي لمنتسبي الحركات المسلحة في الجيش تأخّر بسبب نقص التمويل

ولم يكن في الحسبان أن تحدث مثل هذه الخروقات، باعتبار أن إجراءات الدمج كانت ستكتمل خلال فترة قصيرة من الاتفاق، وهو ما لم يحدث وفق اللواء إسماعيل، والذي لفت إلى بدء الترتيبات الأمنية، خاصة بتجميع القوات التي تتبع للحركات المسلحة في مناطق محددة خارج المدن في إقليم دافور والنيل الأزرق، لكن الدمج الكلي لم يتم حتى الآن، لأن المشكلة الأساسية عدم توفر الموارد، خاصة عقب تحرّك الجيش في أكتوبر/تشرين الأول 2021 والسيطرة على الحكم، ما أسفر عن توقف أي دعم خارجي.

الصورة
 التباطؤ في تجميع القوات

لقاء مع الوسيط

للوصول إلى وسيط يبيع الرتب والبطاقات العسكرية، تحدّث معد التحقيق مع صابر، باعتبار أنه يريد شراء بطاقة ملازم، وبالفعل رتّب لقاء مع "تيكو" بالقرب من مكان عمله بضاحية الكلاكلة.

بدا الوسيط في بداية الأربعينيات من عمره، وكان مرتدياً نظارة سوداء تغطّي أغلب وجهه، وبعد سلام فاتر دلف مباشرة إلى طرح الأسئلة وبدا أن الشك يغمره، "لماذا ترغب في الحصول على البطاقة؟ وماذا ستفعل بها؟"، وبعد أخذ ورد قال توجد بطاقات برتب ملازم وحتى نقيب ويمكن أن يستخرجها باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان وبطاقة أخرى من حركة تمازج بنفس الرتبة، باعتبار أن لديه من يعمل مع الحركتين. 

وعرض الوسيط على معد التحقيق عدداً من البطاقات العسكرية، حصلت "العربي الجديد" عليها، وتبدو جاهزة للبيع في انتظار المشترين، إذ تحمل أسماء وصوراً ورتباً عسكرية مختلفة، وبالفعل جاء 4 شباب لاستلام بطاقاتهم، من بينهم فضل كوكو، وهو شاب في منتصف الثلاثينيات من ولاية جنوب كردفان، والذي حدّد سبب حصوله على البطاقة بـ"حماية نفسه"، خاصة بعد توترات أمنية في منطقته التي تشهد توترات قبلية من حين لآخر، مضيفاً أنه سيتمكن من الحصول على حماية من الحركة الشعبية التي لديها نفوذ في منطقته وأن يستوعب لاحقاً ضمن الترتيبات الأمنية في الجيش السوداني.

الصورة
بطاقات عسكرية اشتراها الراغبون في الحصول على رتب وعضوية الحركات المسلحة
بطاقات عسكرية اشتراها الراغبون في الحصول على رتب وعضوية الحركات المسلحة (العربي الجديد)

المشتري الآخر خميس محمود يقول لـ"العربي الجديد" إن دافعه للحصول على البطاقة أن يُدرج ضمن عمليات الدمج وإعادة التسريح، وأن يحصل حينها على أموال أو مساعدات تقدمها المنظمات الدولية والحكومة.

وأثناء الحديث وافق الوسيط على استخراج بطاقة عسكرية برتبة ملازم ضمن حركة تمازج لمعد التحقيق، مشترطاً الحصول على مبلغ 10 آلاف جنيه سوداني وصورتين فوتوغرافيتين والاسم والعمر وصورة من الرقم الوطني ووعد باستخراجها خلال 24 ساعة.  

وبينما يغمر الشك الوسيط السابق، إلا أن سعيد عبد الله؛ سائق حافلة مواصلات في شرق الخرطوم، كانت الأمور أسهل معه، إذ أوصلنا إليه أحد جيرانه، وعقب لقائه قال إنه حصل عبر صديق له على رتبة عقيد في حركة تمازج، ويمكن أن يوفر في أول مرحلة بطاقة عضوية عادية، ولاحقاً يستخرج صديقه بطاقة عسكرية، وتبلغ قيمة كل بطاقة عشرين ألف جنيه سوداني، لكنه تخوّف من التواصل معه أمام معد التحقيق، قائلاً: "عقب الحصول على البطاقة العسكرية يجب الالتحاق بمعسكرات الحركة في مدينة شندي وسط السودان".

الصورة
 الصلاحيات الممنوحة لحامل البطاقة العسكرية جبهة تمازج
الصلاحيات الممنوحة لحامل بطاقة جبهة تمازج العسكرية (منشور للجبهة)

ويرد العميد بادي، الناطق باسم مليشيا تمازج، على ما سبق بأنه اتهامات الغرض منها ضرب الحركة وعملية السلام بأن والبطاقات تسلّم فقط لعضو الحركة وعقب توقيع اتفاق السلام توقف التجنيد باعتبار أنه يخالف الاتفاق، لكنه لم ينف في إفادته لـ"العربي الجديد" ما سمّاه "ضعفاً وخللاً إدارياً في الحركة، وأنهم يعملون على حلّه لتفادي أي نوع من هذه الخروقات".

المشاركة في قمع المتظاهرين

عقب الإطاحة بالحكومة المدنية الانتقالية فجر 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حصلت المليشيات السودانية المساندة للانقلاب على نفوذ سياسي كبير، كما يقول المحلل السياسي وليد محمد والذي يعمل في المركز السوداني للتربية الإعلامية (ينشط في برامج التحقق من المعلومات)، ما أثر على الترتيبات الأمنية، وبالتالي تمدد ظاهرة بيع الرتب والبطاقات العسكرية، إذ نشر متظاهرون صورا لبطاقات أفراد يتبعون حركة تمازج يزعمون مشاركتهم في مواجهة التظاهرات المنددة بالانقلاب، تحديدا في 30 أكتوبر بالخرطوم.

ويقول عمار محمود، عضو لجان المقاومة، (تنظيم شبابي يقود التظاهرات)، في منطقة الحاج يوسف بالخرطوم، إنهم رصدوا عددا من قوات حركة تمازج يشارك في قمع التظاهرات، وأضاف لـ"العربي الجديد": "سيارات عسكرية تابعة لحركة تمازج أطلقت النار على مجموعة من الشباب في منطقة شرق النيل أغلقوا كبري المنشية لمنع أنصار القوى المساندة للجيش من المشاركة في اعتصام قرب القصر الجمهوري في 16 أكتوبر/تشرين الأول".

لكن العميد بادي ينفي هذه الاتهامات قائلا: "ليس لدينا قوات عسكرية داخل الخرطوم سوى الحراسات الشخصية"، وما يثير الدهشة أنه عقب عرض معد التحقيق لصور قوات تحمل نفس علامات وشارات حركته، عاد فقال: "توجد تفلتات تحدث وأشخاص ينتحلون اسم الحركة للقيام بمثل هذه الأعمال".

ويستفيد الطرفان من عملية التجنيد وفق محمد، والذي يرى أن الحركات المسلحة تعمل على تجنيد أعداد جديدة تدعم بها موقفها في عملية الترتيبات الأمنية، بالإضافة إلى رغبة ضباط في هذه الحركات بزيادة نفوذهم، باعتبار أنه يستطيع جلب عدد كبير من المجندين ما يعود عليه ماديا بالفائدة، علاوة على وضع قيادي داخل الحركة.

آلية القيادة والسيطرة

ينفي الرائد أحمد حسين، المتحدث العسكري لحركة جيش تحرير السودان (قيادة مني أركو مناوي) بيع بطاقات عسكرية قائلا: "هذه دعاية ضدنا"، والقوة العسكرية الموجودة في الخرطوم لحماية الشخصيات المهمة"، وأضاف في إفادة لـ"العربي الجديد"، "في حال تورط أحد منتسبينا في هذا الأمر سيتعرض من يقوم بهذا الفعل للمحاسبة وفق لوائح وقوانين الحركة والجيش".

وحول الاتهامات بنشاط الحركة في التجنيد يقول حسين، بعد اتفاق السلام لا يوجد تجنيد جديد، ونحن في انتظار الترتيبات الأمنية، وإعادة هيكلة الجيش السوداني والانضمام إليه بعد إعادة بنائه ووضع عقيدة قتالية جديدة.

وكشف حسين عن تشكيل آلية القيادة والسيطرة برئاسة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى جانب تشكيل لجنة عسكرية مشتركة بين الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، قامت بتأسيس لجان وقطاعات وفرق ميدانية من مهامها مراقبة أداء القوات، قائلا: "توجد لوائح تحكم هذه القوات، سلمنا كشوف الجنود والضباط إلى اللجنة المشتركة ومع بداية الترتيبات الأمنية ستنتهي هذه الظواهر السالبة".

لائحة الانضباط

يُرجع الخبير العسكري اللواء متقاعد أمين إسماعيل (عمل في الجيش السوداني لمدة ثلاثين عامًا في مختلف الوحدات وقائد سابق لمنطقة النيل الأزرق العسكرية) ظاهرة بيع الرتب والبطاقات العسكرية إلى مزايا وتسهيلات يحصل عليها من يتبعون الحركات المسلحة ومعاملتهم أقرب إلى القوات النظامية، في ظل تأخر الترتيبات الأمنية، تحديدا العمل على حصر القوات الموجودة في المدن، وعدم تحديد نقاط تجميع المقاتلين.

الصورة
اللواء أمين إسماعيل
اللواء أمين إسماعيل (مواقع التواصل)

يضيف إسماعيل لـ"العربي الجديد"، أن الأجهزة الأمنية قبضت على عدد من يحملون بطاقات لتمازج والحركة الشعبية والدعم السريع وتجري محاكمتهم، لكنه يؤكد أن القوات المسلحة وعبر الاستخبارات وأجهزة الأمن العاملة في مناطق التجميع ستعمل على التحري عن أي فرد من القوات في فترة زمنية لا تقل عن 15 عاما، وهو ما يكشف إذا قام بشراء الرتبة والبطاقة حديثا أم لا، وأضاف أن مثل هؤلاء من الصعوبة استيعابهم في القوات الأمنية، وحتى من يوجدون في الحركات برتب عسكرية كبيرة لن يتم إدماجهم بنفس الرتب بسبب عدم التأهيل.

ويعاقب القانون الجنائي السوداني الصادر عام 1991، في المادة 60 (1) من الباب السادس: "كل من يرتدي زيا رسميا أو شارة مما تستخدمه القوات النظامية ولم يكن ذلك الشخص من أفرادها يعاقب بالسجن لمدة لا تتجاوز ثلاث سنوات أو الغرامة".

لكن هل سيكون ولاء هذه القوات للجيش النظامي أم للمليشيات التي قدموا منها؟ يجيب اللواء إسماعيل: "عندما يتم إدماجهم سيكونون تحت قانون القوات المسلحة ولائحة الانضباط، وإذا ارتكبت أي مخالفات سيتم محاسبتهم، أما الولاء الوجداني سيأخذ بعض الوقت ليتم تغييره".

وحذر من خطورة وقوع أخطاء خلال فترة التدريب والإدماج ما قد يؤدي إلى استمرار ولائهم للمليشيات، مضيفا لا يجب أن تكون هنالك أي قوات خارج منظومة الجيش السوداني بعد الدمج، وأن تتحول الحركات المسلحة لأحزاب سياسية مدنية ليس لديها أي تمثيل عسكري.

وألزمت اتفاقية سلام جوبا، الحركات المسلحة بحسب المادة 32-5، بتسليم كشوفات قواتها إلى لجنة وقف إطلاق النار الدائم قبل دخول قواتها إلى مناطق التجميع خلال 45 يوما من تاريخ التوقيع النهائي لاتفاق السلام.

وبحسب عضو الوفد الحكومي العسكري في ملف الترتيبات الأمنية اللواء متقاعد كمال إسماعيل فإن عدم تجميع هذه القوات حتى الآن يسبب إشكالات وخرق اتفاق السلام، إذ اشترط تجميع القوات في معسكرات محددة خارج المدن ليتم وضع كشف بعديد وعتاد القوات عقب مقابلات مع لجنة مكونة من الجيش السوداني وممثلين للحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق.

ولم يشترط الاتفاق حصول الجنود على حد أدنى من التعليم وفق المادة 26-16-2 واشترط للضباط المراد إدماجهم بحسب الفقرة 26-16-1، إجادة القراءة والكتابة، وألا يكون قد تم فصله من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بسبب عدم الكفاءة وسوء السلوك.

وبحسب البند رقم 7 من الجدول الزمني للترتيبات الأمنية لاتفاق جوبا للسلام، يجب أن تحدد مناطق للتجميع، ونقاط ارتكاز لقوات الحركات المسلحة وهذا الأمر يتم بواسطة لجنة وقف إطلاق النار بحسب نص المادة 13-1-4، لكن لم يتم تنفيذ تلك المقررات، ويقول اللواء كمال إسماعيل إن عدم تنفيذ الأمر في وقتها يعود للأوضاع السياسة عقب تحرك الجيش في أكتوبر 2021 وخسارة الدعم الدولي لعملية السلام  ولكن بدأت ترتيبات أمنية في منطقة النيل الأزرق لقوات تتبع للحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، وتجميع بعض القوات في إقليم دارفور، ولكن ضعف التمويل والظروف الاقتصادية يعرقلان العملية التي تحتاج إلى موارد كبيرة.

من أين يجري الحصول على العلامات العسكرية؟

عملت إدارة المخازن والمهمات العسكرية في القوات المسلحة، على توفير العلامات العسكرية قبل قيام نظام الإنقاذ (بدأ عبر انقلاب عسكري في يونيو/حزيران 1989)، كما يقول اللواء إسماعيل، ولكن بعدها جرى استيرادها من مصر، وسورية، والصين، مشيرا إلى أن بعض الضباط المتقاعدين لديهم متاجر لبيع العلامات والرتب العسكرية، ولكن وفق ضوابط، منها إبراز البطاقة العسكرية، وأضاف "بعض العلامات العسكرية الموجودة في السوق يتحصل عليها الأشخاص بطرق غير شرعية، نتيجة تسربها من مواقع رسمية إلى السوق".

ويؤكد الباحث محمد بدوي (يُجري دراسات حول ملف دارفور في المركز الأفريقي لدراسات السلام والعدالة في كمبالا)، أن مناطق شرق وغرب إقليم دارفور تشهد عمليات بيع واسعة للرتب والبطاقات العسكرية، مضيفا أن من يشترون الرتب والعلامات يريدون إما الانضمام للقوات النظامية بوضع يضمن لهم رتبا مقدمة أو الحصول على الأموال أو وسائل الإنتاج التي ستخصص لمنتسبي برنامج إعادة الدمج والتسريح، كما أن بعضهم يحصل عبرها على نفوذ على اعتبار أن السلطات السودانية تتساهل مع منسوبي الحركات ومن يحملون بطاقات تتبع لها، وهو ما يصفه الضابط السابق في الجيش السوداني الملازم متقاعد أسعد التاي، عمل في سلاح المهندسين، بـ"سوق سوداء لبيع الرتب والبطاقات العسكرية"، وأشار التاي إلى تأكيد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو في تسجيل يخاطب فيه قادة الحركات المسلحة بوجود عمليات بيع للرتب العسكرية وأضاف لـ"العربي الجديد"، :"بيع الرتب واقع موجود، ولا أحد يستطيع إنكاره".

يضيف التاي أن هناك خطورة من انتشار وتمدد هذه الظاهرة باعتبار أن السودان يعيش في حالة سيولة أمنية وفراغ دستوري، وتوجد انتهاكات من القوات النظامية الرسمية ناهيك عن مليشيات غير نظامية يرتدون ملابس عسكرية، ويحملون أسلحة وسط المدنيين.

ويوضح التاي أن ما يجري سيكلف الدولة أموالا ضخمة، خاصة في ظل انتشار بيع الرتب العسكرية، ما قد يخل بعملية الدمج وإعادة التسريح لأن أعداد المنتمين المفترضين للحركات سوف تكون كبيرة، مشيرا إلى خطأ استراتيجي في عدم الحصول على أعداد قوات تلك الحركات قبل السماح لها بالوجود في مدن السودان المختلفة.

وأضاف التاي قائلا: "إدخال أشخاص غير مؤهلين إلى الجيش قد يسبب إشكالات وفوضى إثنية وقبلية، باعتبار أن الحركات المسلحة تنقسم بشكل إثني "مثلا حركة تحرير السودان بقيادة مناوي وحركة العدل والمساواة تسيطر عليها بشكل غالب قبيلة الزغاوة فيما تغلب قبيلة الفور في حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، لذلك يجب أن توضع معايير لاستيعاب هذه القوات" وحذّر من تأخير بدء الترتيبات الأمنية نتيجة للأوضاع السياسية الجديدة التي ستزيد من تمدد فوضى بيع الرتب العسكرية".

تخوفات الإدماج

يبدي  الخبير العسكري عبد الرحمن أرباب، لواء متقاعد في الدفاع الجوي، تخوّفه من إدخال مليشيات ذات خلفية قبلية إلى الجيش النظامي ما قد يخلق خللا في التوازن الجهوي، موضحا في إفادته لـ"العربي الجديد" أن تجربة الترتيبات الأمنية وإدخال مجموعات إثنية محددة أثبتت فشلها سابقا عقب توقيع اتفاق أديس أبابا للسلام مع متمردي حركة الأنانيا في جنوب السودان عام 1972، والتي كانت تقاتل الحكومة السودانية بقيادة جوزيف لاقو، إذ انهار الاتفاق بسبب انعدام الثقة من قبل المتمردين الجنوبين ورفضهم الذهاب للشمال بعدما أصبحوا ضمن العاملين في الجيش السوداني وفي آخر الأمر تمردت تلك القوات وانسلخت من الجيش النظامي وفشلت الترتيبات الأمنية وقتها.

ويقول الخبير العسكري اللواء أمين إسماعيل، أن الخطأ بدأ بعدم تحديد عدد القوات المسلحة التي وقعت على الاتفاق  باعتبار أن الحركات قالت إنها سترفع كشفا بأعداد المنتسبين إليها في مناطق التجميع المحددة واستغل بعض الحركات هذه الثغرة في محاولة تجنيد أكبر عدد، وبالتالي ضمان دخول أعداد كبيرة في الترتيبات الأمنية، ونيل مناصب عسكرية أكبر، وأضاف لـ"العربي الجديد" بأن "الأمر أحدث ثغرة أمنية، هذه البطاقات يمكن استغلالها في النصب والنهب المسلح وتهريب المخدرات وتجارة السلاح"