استمع إلى الملخص
- التحولات السياسية تميل لصالح الجيش بعد دعم الاتحاد الأفريقي واستعداد البرهان لتشكيل حكومة انتقالية مدنية، مع فرض عقوبات أمريكية على القوني حمدان دقلو.
- الجيش السوداني مطالب بقيادة تحول سياسي واجتماعي يعزز الديمقراطية ويعيد بناء القوات المسلحة لحماية البلاد ومنع الانقلابات، مستلهمًا من تجربة سوار الذهب.
تطورات لافتة في مشهد الحرب الدائرة في السودان منذ عام ونصف، إذ تغيرت موازين القوى على الأرض وانتقل الجيش السوداني من تكتيك الدفاع النشط الاستراتيجي عن مقراته ومناطق سيطرته، متحولا إلى الهجوم من أجل استعادة مناطق سبق أن خسرها لصالح مليشيا الدعم السريع، وأهمها جبل موية بولاية سنار التي طرد منها المليشيا وتعد من أهم المناطق الإستراتيجية التي تربط ولايات النيل الأبيض والجزيرة والنيل الأزرق، ما يساهم في قطع طرق الإمداد عن المليشيا في تلك المناطق وكذلك كردفان ودارفور، ويفتح الطريق أمام الجيش لاستعادة ولاية الجزيرة الاستراتيجية، التي تتوسط البلاد وسلة غذائها.
تؤكد تحركات الجيش الأخيرة أن المليشيا فقدت زمام المبادرة عسكريا بعد ما تمددت وقضمت أكبر مما يمكنها ابتلاعه من ولايات السودان، خاصة بعدما استطاعت القوات المسلحة التقدم في مدينتي الخرطوم وبحري، وعبور جسر النيل الأبيض والتوغل في حي المقرن وصولًا إلى مقر شركة زين للاتصالات، ما يؤكد اكتمال عملية تعزيز صفوف الجيش بالمقاتلين والذخيرة والعتاد على العكس من المليشيا التي بدأت قوتها الصلبة في التخلخل وهو ما يبدو في الخطاب الأحدث لقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي بدا منفعلا بسبب الخسائر المتوالية في المقاتلين والعتاد والتي تحتاج إلى وقت لتعويضها من مناطق تجنيد المرتزقة في أثيوبيا وتشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى بينما الجيش يوسع أعداد المجندين ضمن صفوفه والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح المكونة من الحركات المسلحة في دارفور والمعنية بحماية المدنيين في الإقليم والتي تمكنت من صد عشرات المحاولات لسيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشرعاصمة ولاية شمال دارفور وآخر مدن الإقليم التي لا يزال للجيش وجود فيها، ما يصعب عمليات تأمين المليشيا للإمدادات العسكرية أو حسم السيطرة على كردفان، وولايتي الشمالية ونهر النيل.
لم تضع الحرب أوزارها أو توشك، لكن سياسيا مالت الكفة باتجاه الجيش بعدما أبدى مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي تحولا في موقفه من تعليق عضوية الخرطوم في الاتحاد الافريقي بسبب انقلاب أكتوبر 2021، ودعا مفوضية الاتحاد إلى فتح مكتب اتصال في بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة لتسهيل التواصل مرحبا باستعداد الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي لتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، ويأتي كل ما سبق بعد فرض الولايات المتحدة عقوبات على القوني حمدان دقلو شقيق قائد المليشيا لدوره في توريد الأسلحة إلى السودان والتي أججت الحرب، وأدت إلى ارتكاب فظائع بحق المدنيين.
هكذا لم يعد الطرفين على قدم المساواة لا سياسيا ولا عسكريا، ما يفرض على الجيش فتح ثغرة ينفذ منها الضوء عبر جمع كفاءات السودان وخبرائه لصياغة خطة عقد اجتماعي جديد ومشروع سياسي يقومان على التخلص من تبعات احتكار المركز للثروة والسلطة والتي تسببت في فصل جنوب السودان واشتعال الصراع في دارفور وجبال النوبة، بالإضافة إلى تكريس الديمقراطية آلية للوصول إلى السلطة دون تدخل من القوات المسلحة التي عليها إعادة بناء قواتها المستنزفة بعد عقود من الصراع ضمن مهمتها الأساسية في حماية حدود البلاد الشاسعة ومنع وقوع أي انقلاب آخر، بعد ما جرى وأدى إلى قتل 150 ألفا وتشريد وتهجير الملايين وتدمير مقدرات الشعب إلى درجة أن الخبير الاقتصادي الأممي ووزير المالية الأسبق، إبراهيم البدوي، قال بأن الحرب قضت على 20% من الرصيد الرأسمالي للاقتصاد السوداني والمقدر بنحو 600 مليار دولار، كما أدت إلى تآكل أكثر من نصف الناتج القومي الإجمالي الذي يبلغ متوسطه السنوي نحو 33 مليار دولار.
قيادة هذا التحول ليست صعبة ولا غريبة على الجيش السوداني الذي لديه تجربة فريدة من نوعها عربيا، ففي أعقاب انتفاضة إبريل/نيسان 1985 والتي أطاحت بحكم جعفر نميري، تولى الفريق عبد الرحمن سوار الذهب رئاسة المجلس العسكري الانتقالي ورقي لرتبة المشير، وتعهد بعد تسلمه السلطة بأن يتخلى عنها خلال عام واحد لحكومة منتخبة، وبالفعل سلم السلطة للحكومة المنتخبة برئاسة رئيس الوزراء الصادق المهدي، واعتزل بعدها العمل السياسي، ونال احتراما عربيا ودوليا يمكن لقادة الجيش الحاليين أن يحصلوا عليه وتظل أسماؤهم خالدة في تاريخ البلاد بعد دحر أكبر وأخطر تمرد مر على البلاد، ونقلها من خراب الانقلابات إلى عمران الديمقراطية.