تعرضت الأردنية تالا المحتسب، أثناء عملها التطوعي مع اللجنة المسؤولة عن مطعوم كوفيد - 19 في مركز تلقي اللقاح بمشفى الجامعة الأردنية، لضغوط تكررت مرات عديدة من قبل مواطنات ومواطنين طلبوا منها التخلص من جرعة اللقاح وعدم إعطائها فعلياً لهم، ما أثار استغراب خريجة العلوم المخبرية في الجامعة الأردنية، قائلة: "في إحدى المرات، طلبت مني سيدة التخلص من جرعة اللقاح الأولى بعد أن سلمت هويتها للموظفين الذين يتولّون إدخال البيانات عبر منصة تطعيم كوفيد - 19 التابعة لوزارة الصحة، وبمجرد دخولها إلى مكان تلقي اللقاح كررت طلبها خلف الستار مرة ثانية، وذكرت أنها جاءت خوفاً من خسارة وظيفتها لأن رب العمل ألزمهم بأخذ اللقاح انصياعاً لأمر الدفاع رقم 32".
ويتضمن أمر الدفاع الصادر في 18 يوليو/ تموز الماضي 11 مادة، منها ما يتعلق بالموظفين في القطاع العام وأخرى تتعلق بالعاملين في منشآت القطاع الخاص، ممن لم يتلقوا الجرعة الأولى من مطعوم كوفيد - 19 أو تخلّفوا عن موعد الجرعة الثانية، وهؤلاء يلزمون بإحضار فحص PCR سالب النتيجة ساري المفعول لمدة 72 ساعة صباح يومي الأحد والخميس من كل أسبوع، وهو ما يتكلف ما بين 25 ديناراً وحتى 28 ديناراً، أي ما يعادل ما بين 35 دولاراً وحتى 39.5 دولاراً أميركياً، بحسب تسعيرة الفحص المحددة من وزارة الصحة.
وتواجه المحتسب هذا الطلب المتكرر بالرفض القاطع، وتضيف لـ"العربي الجديد": "لست الوحيدة، بل واجه زملاء من المتطوعين والممرضين العاملين في ذات المركز وفي مراكز أخرى نفس الأمر، ما يعد دليلاً على توقع البعض بإمكانية التهرب من نيل اللقاح عبر التخلص من الجرعة"، على حدّ قولها.
تلقيح وهميّ
وثقت معدّتا التحقيق 10 حالات لأردنيين حصلوا على شهادات رسمية تفيد بتلقي المطعوم من دون أخذ أيٍّ من جرعاته، لأسباب متعددة، من بينها من يقول بأنه مجبّر على تلقيه بسبب العمل، أو الدراسة الجامعية، وآخرون بداعي السفر، وتتوزّع الحالات التي توصل إليها التحقيق على عدة مدن تشمل العاصمة وجرش والمفرق وإربد.
وتكشف إفادات الحالات الموثقة عن طريقتين يمكن من خلالهما الحصول على الشهادة دون تلقي اللقاح، إما عبر معارف وأصدقاء يتولّون المهمة كـ"خدمة"، كما تصفها سمر الراعي، (اسم مستعار حتى لا تتعرض للمساءلة القانونية)، المقيمة في المفرق، والتي حصلت على شهادة التلقيح عبر التسجيل على منصة تطعيم كوفيد - 19، ومن ثم أرسلت صورة بطاقة هويتها إلى صديق زوجها الذي تكفل بالمهمة، وهو أحد موظفي البلدية وله علاقاته وزملاء يعملون في الدعم اللوجيستي للجان التطعيم، وبالفعل وصلت إليها رسالة نصية بتلقي الجرعة الأولى، وفي موعد الجرعة الثانية وصلت إليها رسالة أخرى بأنه يمكنها الحصول على شهادة المطعوم الخاصة بها، وهذا كله بينما كانت في منزلها، وفق روايتها.
وتقوم الطريقة الثانية على دفع مبالغ مالية لوسيط يتفق مع أحد الممرضين أو المتطوعين المسؤولين عن إعطاء الجرعات، للتخلص من الجرعة، وفق ما تكشفه العشرينية مرح راضي (اسم مستعار خوفاً من المساءلة القانونية)، والتي عرضت خدماتها على معدة التحقيق قائلة: "بإمكاني التنسيق مع صديقتي المتطوعة في مركز لإعطاء اللقاح بعمّان، حتى تتدبر أمر إدخالك لإثبات حضورك دون تلقى الجرعات، مقابل 50 ديناراً (70.5 دولاراً)"، مؤكدة أن لديها مصدراً آخر يتمّ العملية مقابل 100 دينار (141 دولاراً) في حال وقوع أي مشكلة.
ويفسر الأستاذ في علم الأمراض والأحياء الدقيقة والطب الشرعي، والعضو السابق في اللجنة الوطنية للأوبئة، عزمي محافظة، سبب التهرب من اللقاح بـ "إجراءات وزارة الصحة"، والتي يجب أن تتعامل مع المتهربين بطريقة علمية وتنشر الوعي بأهمية المطعوم، وكيف يحمي صحتهم ومجتمعهم، وتطبيق الإجراءات الصحيحة في مراكز تلقي اللقاح، فلا يصح أن يُصرف من يحصل على المطعوم مباشرة من دون الطلب منه الانتظار لمدة نصف ساعة على الأقل للتأكد من عدم ظهور أي حساسية أو أعراض جانبية.
وبلغ عدد متلقي جرعتي اللقاح مليونين و450 ألفاً و310 أشخاص، حتى 11 أغسطس/ آب 2021، بحسب إحصائية كوفيد - 19 الصادرة عن وزارة الصحة والتي تُحدّث يومياً، لكن محافظة يقول إن هذا العدد يشمل أشخاصاً سُجّلوا على المنصة باعتبارهم ملقحين، وهم فعلياً حصلوا على شهادات التطعيم من دون تلقيه، وهو ما يثبته التحقيق عبر حالات موثقة.
كيف يحدث التحايل؟
وصلت معدتا التحقيق إلى أحد الوسطاء المتاجرين في استخراج شهادات المطعوم، ويعمل مدير أمن وحماية في الموقع الذي أقامت فيه وزارة الصحة مركزاً لإعطاء مطعوم كوفيد - 19 في محافظة المفرق، وادعت إحداهما أنها تحتاج إلى الشهادة من أجل التعيين في وظيفة، لكنها لا تريد أخذ اللقاح، ليجيبها بأن عملية استخراج الشهادة "تتم بشكل طبيعي وبسيط"، وبحسب توضيحه الموثق عبر تسجيل صوتي فإن الأمر يبدأ بالتسجيل الإلكتروني على منصة تطعيم كوفيد - 19 بحيث تدخل بياناتها، وتختار مركز أخذ اللقاحات الذي يعمل فيه، وعند تلقيها رسالة نصية عن موعد التطعيم يجرى التنسيق معه ليرتب بدوره مع الشخص الذي يتواطأ معه من اللجنة، سواء مع مدخل البيانات أو الممرض الذي يعطى الجرعة، حتى يدخلها إلى الغرفة المخصصة لأخذ اللقاح، وبعد تسليم هويتها إلى مدخل البيانات تذهب إلى خلف ستارة زاعمة أنها ستأخذ اللقاح، بينما يتخلص الممرض/ة من الجرعة. ويتكرر الأمر ذاته في موعد الجرعة الثانية.
ويؤكد الوسيط أنه في كثير من الأحيان تتم العملية من دون تنسيق مسبق و"يكتفي الشخص بإخبار الممرض خلف الستارة بعدم رغبته بتلقي المطعوم وأنه مجبر عليه من قبل المؤسسة التي يعمل بها أو يحتاج إليه للسفر، فيقوم الممرض بالتخلص من جرعة اللقاح ويحتفظ بالعبوة الفارغة والحقنة لغايات التدقيق وتنتهي القصة"، على حدّ تعبيره.
وعند إبداء معدة التحقيق مخاوفها من هذه العملية التي تترتب عليها مساءلة قانونية في حال اكتشف أمرها، أكد لها الوسيط أن "هذه العملية تمت من قبل وبسرية تامة وأنه ساعد أشقاءه وبعض أصدقائه على استخراج شهادة تطعيم من دون أخذ اللقاح"، متحدثاً عمّا سماه تعاون اللجنة الموجودة في المركز الذي يعمل فيه.
وتوصل التحقيق إلى وسيط آخر يعمل في الدفاع المدني بمحافظة الرمثا شمال المملكة، ويقوم بذات العملية عبر معارفه في لجنة إعطاء اللقاح مقابل 60 ديناراً في موعد الجرعة الأولى، بالإضافة إلى 60 ديناراً بعد نجاح الأمر في موعد الجرعة الثانية، بحسب روايات 3 أشخاص حصلوا على الشهادة من خلاله.
ما يقوم به المتواطئون في هذه العملية يصعب من اكتشاف أمرهم على الرغم من وجود آلية تدقيق عبر جرد يومي لكل مركز ومطابقة الكشوفات وعدد الجرعات المستهلكة مع قوائم متلقي اللقاح، وفق إفادة الدكتور أحمد النعيمات مدير وحدة الاستجابة الإعلامية في المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات (حكومي)، موضحاً أنهم يحاولون السيطرة والمتابعة قدر الإمكان لمنع وقوع تحايل من خلال منح كل جرعة لقاح رقماً تسلسلياً يتم صرفه لكل مركز صباح يوم التطعيم من المخازن المخصصة، وعند تلقي المطعوم تتم كتابة رقم اللقاح في ملف المواطن أو المواطنة الطبي مع الرقم الوطني، ويتم بعدها جرد النفايات الطبية "عبوات اللقاح الفارغة والحقن"، ومقارنتها مع قائمة الأشخاص المسجلين على أنهم أخذوا اللقاح في ذلك اليوم، ثم يتم إتلافها وفق الآليات المعتمدة، مشيراً إلى وجود كاميرات مراقبة في بعض مراكز التطعيم وليس جميعها، وتابع: "المراكز الموجودة في المحافظات كثير منها يفتقر لكاميرات مراقبة، وفي النقاط المخصصة لإعطاء اللقاح داخل السيارة لا توجد كاميرات إلا في المكان المخصص لجلوس مدخلي البيانات".
لكن التحقيق يكشف أن الأطراف الفاعلة تتحايل على آلية التدقيق عبر الاحتفاظ بعلب اللقاح والحقن ليتناسب عددها مع بيانات الأشخاص التي يتم إدخالها إلى المنصة في ذلك اليوم.
سياسة تطعيم فعالة
أسهم تضارب التصريحات الرسمية والتخبط في قرارات صحية مرتبطة بالجائحة، وفق ما يراه الدكتور محافظة، في محاولات التهرب من تلقي اللقاح والالتفاف على القانون ومحاولات الحصول على الشهادة مقابل مبالغ مالية أو بمنحها للبعض دون مقابل من خلال علاقات شخصية، وتابع: "الأردنيون من العاملين في دول تشترط مطعوم فايزر لدخولها، لجأ بعضهم إلى الشراء لضمان كتابة النوع المراد في شهاداتهم، لأنهم في حال سجلوا على المنصة لن يتمكنوا من اختيار نوع المطعوم، وإن تلقوا جرعتين من أي مطعوم آخر غير فايزر سيحتاجون إلى تقديم استدعاء لوزير الصحة من أجل الحصول على جرعة ثالثة من مطعوم فايزر ليتمكنوا من دخول البلدان التي يعملون فيها"، مؤكداً أن هذا غير صحيح علمياً، فالتطعيم المختلط يكون بإعطاء الجرعة الأولى من نوع والثانية من نوع آخر، أما إعطاء جرعتين متماثلتين، والثالثة من نوع مختلف، فهذا غير معمول به إطلاقاً، بل الأفضل أن يتلقى جرعتي فايزر وكأنه يلقح مرة ثانية.
في حين يؤكد الدكتور حاتم جابر، اختصاصي الصحة العامة وطب المجتمع، والأستاذ في كلية الطب بجامعة البلقاء التطبيقية (حكومية) أن سياسة التطعيم الفعالة "تقوم على الإقناع" بعد أن تمكنت الحكومة من توفير المطاعيم وبكميات كافية، موضحاً أنه كان ينبغي تصنيف الناس إلى فئتين، الأولى هي الأكثر تعرضاً للخطر والتي تشكل عبئاً مرضياً على المنظومة الصحية، مثل كبار السن وهؤلاء لم يلقح منهم سوى 180 ألفاً من أصل 600 ألف، والثانية تشمل الأكثر نقلاً للعدوى، مثل القطاع الطبي والأمن والعاملين في قطاع التعليم بكل مستوياته، والبدء بإعطائهم اللقاح، لأن تلقيهم جميعاً المطعوم سيضمن عدم وجود نسبة عالية من الحالات الحرجة التي تتطلب دخولاً إلى المشافي في حال حدوث موجة تفشٍّ جديدة للفيروس.
وتبدو أهمية توظيف وزارة الصحة وسائل الإعلام في بثّ الوعي ودحض الشائعات التي راجت بين الناس عن المطاعيم، في تلك الأوقات، بحسب جابر والذي يقول يمكن عرض تجارب لمصابين عانوا بشدة أو توفوا جراء إصابتهم بكوفيد - 19، لدفع المتخوفين إلى حماية أنفسهم ومجتمعهم عبر اللجوء إلى اللقاح.
ولا ينص أمر الدفاع 32 صراحة على إلزامية تلقي المطعوم، وفق ما يوضحه الخبير في القانون الدستوري والإداري الدكتور حمدي قبيلات، والذي يقول إن الغاية من إنفاذه خلال الجائحة، تتمثل في الحفاظ على سلامة المجتمع من خلال تلقي اللقاح وعدم تعريض سلامة الآخرين للخطر، لكن هذا لن يتحقق إذا ما استمر البعض في الرفض، وجاء أمر الدفاع 32 مقيّداً لحرية هؤلاء الأشخاص حفاظاً على سلامة المجتمع وعدم تعريض أفراده لخطر الأشخاص غير الملقحين. مضيفاً أن الإجراءات الإدارية والصحية المرافقة لقانون الدفاع ترتبط بالشأن الصحي، وهو على حد قوله: "أمر فني طبي لا يمكن لأي شخص البت بصحته، إن لم يكن من أهل الاختصاص لتحديد مدى نجاعة الإجراءات المقرّة بموجب أوامر الدفاع".
لكن المسؤول عن حملة "لا لإلزامية اللقاح"، الدكتور يحيى خريسات، رئيس جمعية المجلس العربي للعيون الاصطناعية في عمّان، يرى أن أمر الدفاع رقم 32 ينطوي على الإجبار على أخذ اللقاح ولكن عبر طريق غير مباشر، ما دفع المواطنين إلى التهرب من هذه الإجبارية، وسط إلزام العديد من الفئات بأخذ اللقاح، واعتباره شرطاً أساسياً لدخول مؤسسات العمل والمراكز الصحية والجامعات، وهو ما حدث للطالبة في جامعة البلقاء التطبيقية رهف أبو حامد التي اضطرت لأخذ اللقاح حتى تتمكن من تقديم الامتحان الشامل، بعدما أصبح إلزامياً للطلبة والكادر التعليمي، رغم أنها كانت تفضل الانتظار.
"الأزمات" يقرّ والصحة تنفي
يؤكد الدكتور النعيمات تحويل 6 أشخاص إلى المدعي العام لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم بعد ثبوت تورطهم في بيع ومنح شهادات التطعيم لغير متلقي اللقاح، مشيراً إلى أنه من خلال مركز إدارة الأزمات وبالتعاون مع وزارة الصحة ومن خلال مواطنين تم رصد بلاغات عن حالات إصدار شهادات تطعيم عبر طرق غير قانونية وتحويلها للمرجع القضائي المختص وما تزال منظورة أمام القضاء قائلاً: "لا يمكن التعليق عليها".
وتقع هذه المخالفات، وفقاً للنعيمات، بسبب تعدّد أطراف منظومة الحملة الوطنية للتطعيم والتي تتكون من كوادر وزارة الصحة والأجهزة الأمنية بالإضافة إلى مركز إدارة الأزمات ومؤسسات حكومية وأطباء من القطاع الخاص، ومتطوعين يتراوح عملهم بين تنظيم دخول طالبي الحصول على اللقاح أو إعطائه لهم بشرط أن يكونوا من طلبة كليات الطب أو المهن الطبية المساعدة.
ولا ينكر النعيمات حدوث بعض الاختلالات في عملية التطعيم، قائلاً: "وثقنا مخالفات بعضها يرتبط بمتطلبات الجودة كتنظيم مراكز التطعيم والاكتظاظ على سبيل المثال، وهو أمر طبيعي، خصوصاً مع الحديث عن نحو 3 ملايين و195 ألفاً و60 جرعة أولى من اللقاح الواقي من فيروس كورونا أعطيت منذ بدء عملية التطعيم في 13 كانون الثاني/ يناير 2021 وحتى 9 أغسطس/ آب 2021".
في المقابل، ينفي وزير الصحة الأردني الدكتور فراس الهواري وجود حالات حصلت على شهادات تطعيم دون تلقي اللقاح، وطالب من يملك إثباتات بإطلاعه عليها لاتخاذ المقتضى القانوني اللازم بحق المتلاعبين، مؤكداً لـ "العربي الجديد" سلامة إجراءات عملية التطعيم رغم إقراره بإمكانية وقوع الأخطاء والمخالفات كأي عمل مرافق لحالة طوارئ كالتي فرضها كورونا على العالم.