رغم المبالغ الكبيرة التي تخصصها الحكومة النرويجية لبرامج تدريب المهاجرات والتي تنظمها مكاتب العمل، إلا أن نسبة البطالة بينهن مرتفعة بسبب عوائق تمييز على أساس المظهر أو عنصرية تجاه الوافدين، ما يعوق إدماجهن.
- تعثرت محاولات الثلاثينية العراقية رواء أحمد المقيمة في النرويج منذ 3 أعوام، وفشلت في العثور على عمل يتناسب مع بكالوريوس المواد اللغوية الذي حصلت عليه من جامعة بغداد، والذي سبق وأن نجحت في معادلته من الوكالة النرويجية لضمان الجودة في التعليم (حكومية تراقب جودة الجامعات النرويجية ويمكنها تقييم شهادات الأجانب).
بدأت رحلة رواء من خلال مكتب العمل (NAV) التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية عبر التدرب في مدرسة بمدينة ليلي ستروم lillestrøm في مقاطعة فيكن شرق البلاد، لكن إصابتها بمرض الألم الليفي العضلي حالت دون استمرارها في التدريب الذي يتطلب الخروج في الجو البارد ومرافقة الطلاب، وطلبت الانتقال إلى آخر مكتبي، وبالفعل تم الأمر، لكن التدريبين الأخيرين لم يكونا متوافقين واختصاصها، إذ كان أحدهما كعاملة لمساعدة الزبائن في محل مفروشات، والآخر كمساعدة للمرضى في مستشفى، تقدم لهم الطعام وتساعدهم على التنقل.
وتعزو رواء عدم تمكنها من إيجاد فرصة عمل مناسبة حتى الآن رغم انتقالها من تدريب إلى آخر إلى عدم توافق اختصاصها مع مجالات التدريب التي التحقت بها، وهو ما يكشف عن جانب من العراقيل التي تجعل المهاجرات ذوات مشاركة مهنية أقل من بقية السكان حسب تقرير صادر عن معهد البحوث الاجتماعية (بحثي تنموي مستقل مقره أوسلو)، بعنوان "ملخص المعرفة حول المشاركة في الحياة العملية للنساء من أصول مهاجرة"، إذ بلغ عدد المهاجرات المقيمات في النرويج 450.000 امرأة عام 2020، والعديد منهن يرغبن في المشاركة بالحياة العملية، وتأمين الاستقلال المادي لأنفسهن ولأسرهن، لذلك يسعين إلى الحصول على عمل مدفوع الأجر بدلا من التدريب، بحسب التقرير ذاته، لكن على الرغم من ذلك تنخفض أعداد المشاركات في برامج التدريب عاما وراء عام، ومن 42.489 سيدة في عام 2017، وصل العدد إلى 29.756 في 2018، وبلغ عددهن 21.474 عام 2019، ثم 17.005 عام 2020، بحسب البيانات الصادرة عن مكتب العمل.
عدم التوافق بين التدريب والتخصص
توثق "العربي الجديد" 6 حالات لمهاجرات اضطررن للالتحاق بتدريبات لا تتناسب مع اختصاصهن بموجب اختيار مكاتب العمل الموجودة في البلديات، بعدما قبلن بذلك أملا في إيجاد فرصة للعمل وتأمين دخل مناسب، لكنهن يُجمعن على أن ذلك شكل عائقا أمام اندماجهن في سوق العمل، ومن بينهن السورية ليال زين الدين التي تدربت عبر مكتب العمل في عدة أماكن لكنها لم تنجح في الحصول على عمل بعد، ما جعلها تصف التدريب بـ "الاستغلال" من صاحب العمل للمتدرب، إذ يدفع مكتب العمل أجر المتدرب، لذلك لا يتردد صاحب العمل في قبول المتدرب طالما لن يكلفه أي شيء، بينما يتقاضى المتدرب مبلغا زهيدا يعادل 255 كرونة يوميا (26 دولارا أميركيا)، من جهة ثانية فإن المتدرب لا يُسجل في الدولة بأنه عامل وبالتالي لا يكون له الحق في التقاعد أو أي ميزات أخرى يضمنها نظام العمل النرويجي، وهذا ما جعلها تترك التدريب وتعمل في مجال التنظيف بأجر أقل من المتعارف عليه.
50 مليون كرونة لتعزيز نشاطات مكاتب العمل في عام 2022
لكن القسم الإعلامي الرئيسي في مكتب العمل يقول في رده المكتوب على أسئلة "العربي الجديد" يبرر ما سبق بأن النظام التعليمي للبلد الذي تأتي منه المهاجرات قد يكون مختلفا عن النرويج، وفي بعض الأحيان من الصعب تفعيل التعليم الذي حصلن عليه في بلد آخر، وعندما يكون ذلك ممكنا قد يتطلب تعديل الشهادات العلمية، ويستغرق هذا وقتا ويكلف مالا، وقد يكون سببا لعدم توافق التدريب مع اختصاص المتدربات واضطرارهن للبدء في مكان عمل بعيد عن اختصاصهن، ليتمكنّ من ممارسة اللغة، واكتساب شبكة معارف.
وتتطلب العديد من الوظائف التحدث والكتابة باللغة النرويجية، مثل ذات الصلة بالتعليم التي تتطلب مهارات لغوية عالية، بينما غير الأكاديمية منها تقتضي إتقان لغوي أقل، إلا أن توقع وجود مستوى عالٍ من التواصل الجيد غالبا ما يكون مطلوبا، وهذا ما يعتبره مكتب العمل سببا آخر لعدم الحصول على وظيفة، والتدريب يساعد على تعزيز هذه المهارات، وبالنسبة لعدد كبير من الناس، يمكن الجمع بين تعلم اللغة النرويجية والتدريب العملي، وما هو أكثر أهمية، بحسب الرد، استعداد أصحاب العمل لتوظيف شخص ليس لديه تعليم وخبرة عمل من النرويج، إذ يجد بعضهم صعوبة في توظيف شخص لديه خلفية خبرة وتعليم مختلف، وفي مثل هذه الحالات، يمكن أن يكون التدريب العملي فرصة جيدة لإثبات كفاءاتهم.
التمييز يجعل التدريب بلا جدوى
تدربت الفلسطينية السورية إيناس مصطفى، في صيدليات عديدة عبر مكتب العمل في مدينة لينغدال جنوب البلاد، لكن جميع فرصها التدريبية انتهت بلا توظيف وفق قولها، إلى جانب تجاربها السيئة في مواجهة ممارسات تمييزية بسبب حجابها، وتضمن ذلك كلمات عنصرية في بعض الأحيان أو تجاهلها وتجنب التوجه إليها بالكلام، وما يؤكد لإيناس أن تلك الممارسات بسبب حجابها، ما نصحتها به مسؤولة في مكتب العمل في ذات المدينة، بأن تخلعه لتصبح فرصتها أكبر في الحصول على وظيفة.
وتتماثل تجربة إيناس مع العشرينية السورية حنين عزيزية، والتي تعيش في النرويج منذ عشر سنوات، وأنهت دراستها هناك كمساعد صيدلي، لكنها واجهت رفضا متكررا من أصحاب الصيدليات خلال البحث عن عمل، إذ أخبرها بعضهم بشكل مباشر بأنهم "لا يوظفون محجبات".
9.2 % نسبة البطالة بين المهاجرات في النرويج عام 2022
ويتوافق ما توثقه "العربي الجديد" مع ما ورد في كتاب الباحثة في معهد البحوث الاجتماعية جوليا أوروبابو، بعنوان "وظائف المرأة، وظائف الرجال، وظائف المهاجرين"، والمنشور عام 2016، بأن :"واحدة من بين 21 سيدة مهاجرة اختارت خلع حجابها لزيادة فرصتها في الحصول على وظيفة، ما يدل على أن التحيز والتمييز اللذين تعاني منهما النساء المهاجرات قد يؤديان إلى فشل غاية برنامج التدريب في تحقيق هدفه في تمكين النساء من الحصول على عمل".
وتدعم نتائج التقرير الصادر عن معهد البحوث الاجتماعية حول المشاركة في الحياة العملية بين النساء من أصول مهاجرة حقيقة بأن يكون التمييز عائقا أمام مشاركة المهاجرات واللاجئات في سوق العمل، إذ يوثق من خلال تجارب ميدانية أُجريت في النرويج أن من يحملون أسماء غير نرويجية تلقوا استدعاءات أقل بنسبة 25% للمقابلة الأولى من الأشخاص الذين يحملون أسماء تشبه النرويجية، على الرغم من حقيقة أن لديهم نفس الكفاءة، كما تظهر تجربة ميدانية أخرى ضمن ذات التقرير أجريت على طلبات توظيف لنساء من أصول باكستانية وولدن في النرويج، أنهن يتعرضن للتمييز في المرحلة الأولى من عملية التوظيف، ويرد القسم الإعلامي بمكتب العمل على ذلك بتأكيد وجود التمييز في الحياة العملية، وأن وجود أصل أجنبي يمكن أن يجعل أصحاب العمل لا يختارون مقدم الطلب، ويشير الرد إلى أن هذه المشكلة يتم أخذها بعين الاعتبار ويعتقد أنه يجب على الباحثين عن عمل مواجهتها بالمعرفة والوعي ومن المهم إجراء حوار مع كل من الباحث عن عمل وأصحاب العمل.
واستناداً إلى تقرير هيئة الإحصاء النرويجي بعنوان "الظروف المعيشية بين المهاجرين في النرويج"، الصادر عام 2017، فإن الرجال والنساء يعانون تقريبا بنفس القدر من التمييز في التوظيف، كما يشير التقرير إلى أن النساء اللائي تقدمن للحصول على وظيفة خلال العام الذي سبق إعداد التقرير، أبلغن عن مزيد من التمييز بسبب أصولهن المهاجرة أكثر من الرجال.
هل يهدر التدريب أموال الدولة؟
خصصت الحكومة النرويجية 50 مليون كرونة (5 ملايين و80 ألف دولار) لتعزيز أنشطة مكاتب العمل وخدماتها المتنوعة، و75 مليون كرونة إضافية (7 ملايين و620 ألف دولار) بسبب تأثير وباء كورونا على سوق العمل، حسب ما ورد في ميزانية عام 2022، وكانت الحكومة قد زادت مخصصات NAV إلى 60 مليون كرونة (6 ملايين و96 ألف دولار)، في عام 2021، بينما أقرت زيادة المخصصات التشغيلية لإدارة العمل والرفاهية، ومن ضمنها زيادة مخصصات التشغيل لـ NAV بمبلغ 119 مليون كرونة (12 مليونا و90 ألف دولار) في عام 2020 لزيادة متابعات الشباب العاطلين عن العمل، بحسب الموازنات السنوية المنشورة على الموقع الإلكتروني للحكومة النرويجية.
وتتحمل الدولة نفقات كثيرة تندرج في إطار دعم برامج التدريب، وتتمثل في منح المتدرب راتبا يساعده على تغطية الحاجات الأساسية كالطعام والشراب وإيجار المسكن بما يعادل 1200 دولار، والدفع لصاحب العمل مقابل توفير فرصة التدريب، رغم ذلك تكشف الحالات التي يوثقها التحقيق ونتائج الدراسات أنه في كثير من الأحيان لا يكون التدريب مجديا في إيجاد عمل بالنسبة للمهاجرات، وسط ارتفاع معدل البطالة المسجل بينهن حسب الإحصائيات الصادرة عن وكالة الإحصاء المركزية (SSB)، إذ بلغت النسبة 9.3% حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
لكن مكتب العمل اعتبر في رده أن التدريب يُعد أحد المقاييس العديدة التي يمكن أن يستخدمها NAV كأداة لجذب المزيد من العاطلين إلى سوق العمل، ويمكن أن يفيد من يرغبون في معرفة المزيد عن الحياة العملية، أو أن يصبحوا جزءا من طريقة وخبرة العمل أو أن تكون لبعضهم فرصة مستقبلية للحصول على وظيفة.
وبينما يفتقر مكتب العمل إلى إحصائية تبين عدد المهاجرات اللائي حصلن على وظيفة بعد المشاركة في التدريب على العمل، بحسب رده، يجد تقرير مؤسسة فافو FAFO للأبحاث المستقلة في مجال العلوم الاجتماعية، المنشور عام 2010 بعنوان "التنوع والمساواة في الحياة العملية، المواقف والخبرات بين أصحاب العمل" للباحثة كريستينا روز ترونستاد، أن التدريب المتكرر الذي لا ينجح في إيجاد فرصة عمل، ينظر إليه المشاركون على أنه "سلبي للغاية" خاصة عندما يجدون أن التدريب يتخذ طابع العمل المجاني، وتعزو الباحثة ذلك إلى عدم قدرة مكاتب العمل على متابعة المشاركين وأصحاب العمل خاصة في التدريب الداخلي.
لكن مكتب العمل يربط نتيجة التدريب بتأثيره على الفرد نفسه، ومدى التوافق بين احتياجات صاحب العمل وكفاءة المتدربة وتخصصها، وكلما درس مكتب العمل بشكل أفضل كلا الطرفين، زادت فرصة نجاح التدريب، موضحا أن أسبابا أخرى يتوقف عليها حصول المتدربة على فرصة عمل من عدمه، مثل مدى قدرة المتدربات على اكتساب خبرات وعلاقات في مكان التدريب ومدى اندماجهن مع زملائهن، وهذا يعتمد على توفير بيئة حاضنة للمتدربات تسهل اندماجهن في مكان التدريب، وهو ما يختلف من شخص إلى آخر بسبب تباين مهاراتهن الاجتماعية.
تبعات نفسية واجتماعية
عانت رواء أحمد بسبب عدم نجاعة التدريب وعدم تمكنها من الحصول على عمل لإعالة نفسها وعائلتها ماديا، خاصة أنها كانت لفترة طويلة هي الراعي الوحيد لأطفالها، ولجأت إلى الطبيب النفسي بسبب ذلك، ومع أن نظام التكافل الاجتماعي في النرويج يضمن للشخص أن يعيش بالحد الأدنى من خلال مكاتب العمل التي تغطي الحاجات الأساسية للعاطلين، لكن رواء التي كانت في حالة سعي دائم لإيجاد عمل، لم تتقبل الإخفاق، وتنسحب التبعات التي واجهتها على 4 سيدات أخريات يوثق التحقيق فشلهن في الحصول على عمل.
وينتقد الباحث في معهد البحوث الاجتماعية جانيس أومبليج، والذي أعد تقرير "ملخص المعرفة حول المشاركة في الحياة العملية للنساء ذوات الخلفية المهاجرة"، ما يصفه بـ "التوقعات العالية" في الحصول على عمل بمجرد انتقال المهاجرين إلى النرويج، ويرى أن هناك طرقا أخرى للمساهمة المجتمعية، ولا تنحصر بالعمل بأجر، منها التطوع في منظمات إنسانية تعطيهم الخبرة وتمكنهم من معرفة المجتمع النرويجي بشكل أفضل، وبالتالي تكوين شبكة معارف تساعدهم عند تقدمهم لنيل عمل ووضع المنظمة والقائمين عليها مرجعا يمكن لصاحب العمل التواصل معه والسؤال عن المتقدم للعمل، وبهذه الحالة تصبح الاعتبارات التي تمنعهن من الحصول على وظيفة أقل.
ويدعو أومبليج، إلى مزيد من البحث المركّز على المهاجرات واللاجئات، لأن لديهن فرص عمل أقل من المولودات في النرويج، ويعتقد أنه من المهم حصولهن على أكبر قدر ممكن من المساعدة للوصول إلى العمل، أما التبعات النفسية المترتبة على تأخر حصولهن على عمل فهي من وجهة نظره، مشكلة تتعلق بأن العديد من اللاجئات اختبرن واختزن العديد من السلبيات قبل قدومهن إلى النرويج، وعدم اندماجهن وقبولهن في سوق العمل سيزيد من أثر خبراتهن السلبية، والتي ستنعكس عليهن نفسيا واجتماعيا واقتصاديا.
ويردّ NAV بأنه يقدّر بأن العمل له أهمية كبيرة في اندماج المهاجرين في المجتمع النرويجي وحياة العمل، لأنه يمنح الشخص استقلالا فرديا ويوفر له أمانا ماليا، وتابع :"يسعى مكتب العمل إلى أن تشارك المهاجرات في الحياة العملية على قدم المساواة مع الأخريات، ويحقق ذواتهن ويصلن إلى الاكتفاء الذاتي، وهو أمر مهم للغاية لتحقيق المساواة في المجتمع والأسرة".