بعدما اجتاز العشريني الغزي أحمد أبو جلالة معبر رفح، ودخل إلى الأراضي المصرية، ظن أن معاناته قد انتهت، غير أنه لم يكن يدري أن بانتظاره أسبوعاً سيرى خلاله صنوفاً مختلفة من العذاب، إذ تم احتجازه برفقة 100 مسافر آخرين في الصالة المصرية من المعبر لأكثر من 32 ساعة، حتى وصل "باص الترحيلات"، وهي حافلة ذات نوافذ زجاجية غير قابلة للفتح، يُنقل فيها "المرحّلون"، بعد جمع جوازات السفر واحتجازها لدى رجل أمن مصري، ويمنعهم من مغادرتها إلا في المطار.
وبالرغم من أن الرحلة من معبر رفح وحتى مطار القاهرة الدولي تستغرق ست ساعات كحد أقصى، لكنها استمرت خمسة أيام بلياليهن كما يروي أبو جلالة والمسافرة الثلاثينية رندا عبد المعطي والتي عبرت معبر رفح في 8 فبراير/شباط الجاري، برفقة زوجها لكنهما باتا ثلاث ليالٍ على ما يعرف بحاجز "الريسة" وكمين "الميدان"، التابعين للجيش المصري وسط سيناء، في ظل ظروف أمنية صعبة بسبب أحداث سيناء المشتعلة، وكان الفلسطينيون محتجزين داخل الحافلات الضيقة، أو ينامون على الطريق المعبدة وسط الخوف والبرد الشديد، ويسمعون بين الفينة والأخرى دوي إطلاق النار والقذائف بحسب شاهدي العيان.
وتسبب إغلاق الحافلة فترة طويلة، وعدم قابلية نوافذها للفتح، في انبعاث روائح كريهة، ما دعا الركاب إلى تقديم اقتراح للسائق ورجل الأمن المصاحب بكسر نافذة للتهوية، على أن يدفعون ثمنها مسبقا، لكنهما رفضا الأمر كما يروي أبو جلالة.
أسبوع من المعاناة
تمنع الإجراءات المصرية المسافرين الفلسطينيين المغادرين والقادمين لقطاع غزة ممن تقل أعمارهم عن 40 عاماً، ويحملون إقامات أو تأشيرات لبلدان عربية وأجنبية، من دخول الأراضي المصرية، إذ يتم ترحيلهم بواسطة حافلات مغلقة وتحت حراسة أمنية مشددة إلى مطار القاهرة الدولي أو منه، ولا يفرج عنهم حتى يستقلوا الطائرات التي تنقلهم إلى وجهتهم النهائية، بينما يحتجز المسافرون العائدون للقطاع في صالة مغلقة بمطار القاهرة يطلق عليها الفلسطينيون "صالة المرحّلين"، التي يعودون منها بذات الطريقة "المهينة" للقطاع، بينما يمنح الباقون ممن تتجاوز أعمارهم الفئات المحددة أو هم مسافرون إلى مصر بهدف الدراسة أو العلاج، إقامات في مصر تتراوح ما بين أسبوع إلى ثلاثة أشهر، بحسب شهادات 15 مسافراً وثّقها معد التحقيق للمرحّلين من وإلى المعبر.
ويعد عام 2017 الأقل في عدد أيام فتح المعبر منذ عمله في عام 2006، إذ تم فتحه 29 يوماً فقط في مقابل إغلاقه 336 يوماً، سُمح خلالها بمغادرة نحو 11 ألف مسافر، بينما شهد عام 2016 فتح المعبر 41 يوماً، وإغلاقه 324 يوماً، سُمح خلالها بسفر 26.431 عالقاً، في مقابل فتحه 32 يوماً وإغلاقه 333 يوماً في عام 2015، سمح خلالها بسفر 14656، وعلى العكس من ذلك شهد عام 2014 فتح المعبر 125 يوماً مقابل 240 يوم إغلاق، وفي 2013 كان عدد أيام فتح المعبر 263 يوماً مقابل 102 يوم إغلاق، وفي عام 2012 كان عدد أيام فتح المعبر 310 أيام مقابل 56 يوم إغلاق، وفي عام 2011 كان عدد أيام فتح المعبر 269 يوما مقابل 96 يوم إغلاق، بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر إحصاء يتوفر على الموقع الإلكتروني لوزارة الداخلية والأمن الوطني في غزة.
في مطار القاهرة
وصل العشريني إبراهيم حماد بعد رحلة عذاب إلى مطار القاهرة الذي جرى احتجازه في إحدى صالاته مع 200 مسافر آخرين ينقسمون إلى نوعين، منهم المغادرون خارج مصر ممن ينتظرون موعد رحلات الطيران التي ستقلهم إلى وجهتهم النهائية، والقادمون من دول عربية وأجنبية، وينتظرون نقلهم إلى معبر رفح للوصول إلى القطاع عبر "باص الترحيل".
وتشبه الصالة التي احتجز فيها حماد "السجن" كما يقول مستطردا، "إنها غير مجهزة للمبيت ويمنع الخروج منها، ننام على الأرض أو الكراسي، ولا أغطية ولا فراش".
وفي حال أراد أحد المسافرين المحتجزين في الصالة، شراء طعام أو شراب أو سجائر أو كارت شحن للهاتف النقال، عليه إقناع عامل نظافة او رجل أمن كي يقوم بالمهمة في مقابل المال، إذ يجمع المسافرون النقود ويعطونه قائمة بالطلبات، ليشتري لهم احتياجاتهم التي غالباً ما تكون بضعف قيمتها كما يضيف المسافر خالد جميل.
وتتكرر تلك المعاناة باستمرار إذ علق 600 فلسطيني في سيناء ومطار القاهرة خلال الفترة الممتدة ما بين 8-19 فبراير/شباط الماضي، خاصة المرحلين ممن علقوا في الحافلات داخل سيناء، وهو ما دفع الناشط الغزي هشام الجعب، وعدد من النشطاء الذين تلقوا مناشدات، للتواصل مع مجموعات شبابية فلسطينية من طلاب غزة في القاهرة، لتشكيل خلايا دعم، قدمت بعض المعونات عبارة عن وجبات غذائية وأغطية للموجودين في المطار.
بينما قدم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والذي كان في القاهرة خلال أزمة العالقين، مبلغ 600 جنيه مساعدة لكل عالق في المطار.
مقارنة مع الأردن
يسافر الفلسطينيون من أهالي الضفة الغربية عبر جسر الملك حسين الفاصل ما بين الضفة والأراضي الأردنية، ولا تطبق المملكة الهاشمية شروطا على المسافرين الفلسطينيين عبرها كما هو الحال في مصر، بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر شهادات ثمانية فلسطينيين من الضفة الغربية سافروا ما بين 4 إلى 8 مرات من وإلى الأردن خلال عام 2017، وقد استغرب جميعهم العمل بنظام الترحيل على معبر رفح، مؤكدين أن الأردن لا يتعامل وفق هذا النظام مطلقاً، من بينهم الصحافي فراس الطويل، والذي كان موجوداً في العاصمة الأردنية عمّان بينما قال لـ"العربي الجديد"، إن الفلسطينيين المسافرين من الضفة للأردن يمنحون إقامات مفتوحة، ولا يتم تقييد حريتهم في الحركة أو في مدة المكوث في الأراضي الأردنية، باستثناء من لديهم إشكالات أو ملفات أمنية.
وأوضح الطويل أنه لا توجد قيود على العمر أو هدف السفر، سواء إقامة في الأردن أو مرور للمطارات بهدف الوصول لبلد آخر، فالجميع يحصل على إقامة، ويدخل إلى البلاد بحرية، والمسافر الفلسطيني يمكن أن يفطر في الضفة الغربية ويخرج من منزله، ويتناول وجبة الغذاء في عمان، فعملية اجتياز الجسر بجانبيه لا تستغرق أكثر من ساعة إلى ساعتين على الأكثر.
احترام الكرامة الإنسانية
تصنف مسألة ترحيل المسافرين عبر أي معبر أو مطار باعتبارها أمرا سياديا للدولة، كما يوضح الباحث القانوني محمد أبو هاشم، والذي أكمل حديثه موضحا أن "الأمر يخضع لسياسة التعامل بالمثل، لكن هذا لا يتوفر في الحالة الفلسطينية، والتي لا تملك أية قوة في هذا المجال".
وتابع أبو هاشم قائلا لـ"العربي الجديد"، "رغم سيادية الترحيل، وعدم شمول القانون الدولي لحقوق الإنسان على بنود تتعلق بذلك، إلا أن أية عملية ترحيل يجب أن تحترم الكرامة الإنسانية، وألا ينتهك فيها حقوق الإنسان، وخاصة تلك التي أقرها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كالاحتجاز في المطار داخل غرف مغلقة، ومنع الحركة، والتفتيش المهين، وغير ذلك من ظروف الاحتجاز السيئة".
مد وجذر
يصف الدكتور غازي حمد وكيل وزارة الخارجية في غزة، والمختص بالتواصل مع السلطات المصرية، مشهد معبر رفح شهد خلال السنوات التسع الماضية بأنه عبارة عن حالات مد وجذر من حيث التسهيلات المقدمة للمسافرين وعدد أيام فتحه.
وتابع في تصريحات خاصة لـ"العربي الجديد": "موضوع المعبر ومرور المسافرين مرتبط بأمور سياسية وأمنية مثل أحداث سيناء، لكن المسافرين الفلسطينيين خاصة المرحلين يعانون خلال رحلتهم من وإلى المعبر".
وأكد أن عشرات اللقاءات والاتصالات أجريت مع الجانب المصري، لطلب اتخاذ إجراءات حقيقية للتسهيل على المسافرين، وتقليص أعداد المرحلين، وعدم احتجاز القادمين داخل صالات المطار، قائلا ""تلقينا وعودا وحدث بعض التحسن لكن ليس بالشكل المطلوب".
وشدد حمد على أن الحجة بأن إغلاق المعبر جاء لأن السلطة الفلسطينية في رام الله لا تديره، انتهت، وهي الآن من يديره، لذلك يجب إعادة تشغيله بصورة دائمة لتخفيف معاناة العالقين.
بينما يضيف ماهر أبو صبحة مدير الإدارة العامة للمعابر والحدود سابقاً، ووكيل وزارة الداخلية حالياً، أن أمر الترحيل وإن كان شأنا مصريا يخضع لرؤية الأجهزة الأمنية المصرية، إلا أن متابعة موضوع المرحلين تعد وظيفة السفارة الفلسطينية في القاهرة، التي عليها أن تقدم لهم ما يحتاجونه، وتسهل إجراءات سفرهم.
أين دور السفارة الفلسطينية في القاهرة؟
أجرى معد التحقيق العديد من الاتصالات الهاتفية مع السفارة الفلسطينية في القاهرة والمندوب الفلسطيني الدائم لدى الجامعة العربية، دون أن يتلقى أي رد، بينما ردت السفارة على أسئلة موجهة عبر البريد الإلكتروني لها حول دورها في تخفيف أزمة العالقين في مطار القاهرة، عبر على رابط صفحة السفارة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وأضافت الرسالة الإلكترونية "يمكنك متابعه بيانات السفارة في ما يتعلق بأزمة العالقين في المطار والتي انتهت صباح هذا اليوم بعودتهم كافة إلى قطاع غزة على صفحتنا".