بات الفرار من الخدمة حلاً وحيداً أمام بعض عناصر قوى الأمن الداخلي اللبنانية، إذ يمنعهم القانون من العمل في مكان آخر وترفض طلبات تسريحهم أو منحهم مأذونيات سفر، بينما فقدت رواتبهم قيمتها بعد انهيار العملة الوطنية.
- تحول الشاب اللبناني فراس حداد (كما طلب تعريفه حفاظا على سمعته)، من عنصر أمنيّ مسؤول عن تطبيق القانون إلى هارب منه ومن العدالة، إذ قرر الجندي السابق في مؤسسة قوى الأمن الداخلي، الفرار بعد 15 سنة من الخدمة في المؤسسة، بحثاً عن الرزق، بعدما أصبح راتبه بالكاد يساوي 70 دولاراً أميركياً، مع انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار وخسارتها منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2019 أكثر من 90% من قيمتها.
ويعد حداد واحداً من بين 340 فارا منذ بداية العام الجاري وحتى سبتمبر/ أيلول 2021، وفق ما يؤكده العميد صلاح جبران، قائد الدرك السابق، في حديثه لـ"العربي الجديد"، مضيفا إلى الرقم السابق 5 ضباط فرّوا خلال الأشهر الماضية، في ظاهرة "مخيفة"، كما يصفها، مستدركا بأنه "كنّا نستهجن فرار عسكري واحد كل شهر أو شهرين في السنوات الماضية، لكن هذا العام سجلنا أرقاما مرتفعة، بالرغم من رفض طلبات التسريح، ومأذونيات السفر".
وأوقف قانون موازنة عام 2019 التوظيف في الأسلاك العسكرية بسبب الأزمة الاقتصادية، وبالتالي أوقف التسريح، لعدم إمكانية توظيف عناصر جديدة في السلك، إذ كان يحق للعسكري تقديم طلب تسريحه بعد 18 عاماً من الخدمة في المؤسسة، أما اليوم فقد تم رفع سنوات الخدمة إلى 23 عاماً ولا تتم الموافقة على طلبات التسريح حتى بعد مرورها، في حين أن مأذونيات السفر، اتخذها العديد من العناصر سبيلاً للحصول على هوياتهم وجوازات سفرهم للفرار والبقاء خارج البلاد، رغم أنه عادة ما تكون أوراق العسكري الثبوتية محجوزة لدى المؤسسة ويتنقل عبر بطاقة عسكرية تعرّف عنه، وفقاً لجبران.
الفقر يحاصر المنتسبين
"حياة مأساوية يعيشها العسكر اليوم، فالقانون يمنعهم من العمل في مكان آخر، ويمنعهم من التسريح، وراتبهم لا يساوي سعر 5 صفائح بنزين، لذلك أصبح الفرار حلاً وحيداً بالنسبة لهؤلاء بحثاً عن الرزق"، كما يضيف جبران.
وعقب الفرار يحول ملف المنتسب إلى المحكمة العسكرية، والتي تتخذ بحقه حكماً بالسجن لفترة من 30 إلى 60 يوماً، ويتم تحويله إلى المجلس التأديبي، ومن ثم طرده من المؤسسة. أما اليوم، فتتم معاقبة العسكري الفارّ بالحبس وكسر الرتبة، ومن ثم تتم إعادته إلى المؤسسة، وفقا للقانون رقم 17 لتنظيم قوى الأمن الداخلي.
يعاقب العسكري الفارّ بالحبس وكسر الرتبة ومن ثم تتم إعادته إلى المؤسسة
يصف حداد وضعه عقب الفرار قائلا: "وصلت إلى حائط مسدود، كان الفرار آخر الحلول بعد محاولات كثيرة جميعها باءت بالفشل. حاولت نقل مركز خدمتي إلى مكان قريب من سكني، كون خدمتي تبعد مسافة ساعة ونصف بالسيارة، ما يرتّب عليّ أعباء نقل إضافية لم أعد قادراً على تحمّلها، لكنني لم أنجح".
يوم تعطلت سيارة حداد احتاج إلى رواتب 4 أشهر لإصلاحها، ما دعاه إلى محاولة طلب مأذونية سفر للحصول على هويّته وجواز سفره ومن ثم يبقى خارج البلاد لأن أقاربه تمكّنوا من إيجاد فرصة عمل له في الخارج، لكن طلبه أيضاً قوبل بالرفض، ما أجبره على الفرار في يونيو/ حزيران الماضي.
يعمل فراس الآن موظف محاسبة في شركة لأحد أصدقاء العائلة في منطقته البقاعية، كونه مطلوباً للعدالة ولا يستطيع التنقّل من دون أوراقه الثبوتية، ولا يستطيع العمل في أية شركة من دون أوراق. ويؤكد أن راتبه الذي يتقاضاه الآن يساوي ثلاثة أضعاف راتب المؤسسة، ما يساعده في إعالة عائلته المؤلفة من 4 أفراد بشكلٍ أفضل.
وعن وضعه القانوني يشير إلى أن المحامية التي تتابع قضيته أخبرته قبل أيام أن المحكمة العسكرية حكمت عليه بالسجن 6 أشهر، ويسأل: "ماذا فعلت ليحكموا عليّ بالسجن 6 أشهر، كالمجرمين، ما هو ذنبي؟ أنني أبحث عن مصدر رزق يقي عائلتي الجوع؟". ويوضح أنه بإمكان المحامية استئناف الحكم وتخفيفه لينخفض إلى شهر واحد مع غرامة مالية، لكن لا نيّة لديه لمتابعة القضية بشكلّ جدي بسبب الأعباء المالية المترتبة على المتابعة، وخوفاً من إعادته إلى المؤسسة.
تحت الإقامة الجبرية
أثر الوضع الاقتصادي على كل المواطنين وطالما أن الرواتب على حالها مع ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية (السوداء) فما عاد راتب العنصر الأمني يكفيه لإطعام عائلته، كما يقول وزير الداخلية السابق مروان شربل لـ"العربي الجديد"، مؤكدا أن مؤسسة قوى الأمن الداخلي تأثّرت تحديداً بشكل كبير، لأن الميزانية التي كانت تدعم بها العناصر من قروض ومساعدات طبية ومدرسية ومساعدات اجتماعية اختفت اليوم ولا تصرف إلا بصورة استثنائية. وتابع :"اليوم لا يوجد مستشفى يستقبل عنصر قوى الأمن وإذا استقبله فعليه أن يدفع ما يوازي أضعاف أضعاف راتبه".
وتراوح رواتب المنتسبين للمؤسسة ما بين مليون ونصف مليون ليرة لبنانية (ما يقارب 70 دولاراً) للعساكر، وما يقارب الـ 6 ملايين (300 دولار أميركي) لأعلى رتبة (عميد ولواء). ويؤكد أن المديرية اليوم تتعاطى بشكل إنساني مع "تارك الخدمة" وتراعي الظروف المعيشية للعنصر "وتحاول إقناعه بالعودة إلى الخدمة وتتساهل بالإجراءات المتخذة بحقه بعد الترك".
لكن العنصر فادي وهبة (فضّل عدم ذكر اسمه الحقيقي خوفاً من أي إجراءات عقابية بحقه)، تقدّم بطلب مأذونية للسفر عدّة مرّات، بحكم أن زوجته خارج البلاد، ويريد أن يلتحق بعائلته بحثاً عن حياة أفضل وأكثر استقراراً، لكن طلباته الثلاثة قوبلت جميعها بالرفض، رغم أنه يرفق كل طلب بالوضع القانوني للعائلة ووجوب وجوده خارج البلاد لفترة قصيرة لإنهاء بعض المعاملات القانونية، حتى أنه قدم وعوداً للمؤسسة بأنه سيعود من بعدها، "لكن معظم الذين فرّوا من المؤسسة حصلوا على مأذونية سفر وبموجبها أخذوا أوراقهم الثبوتية وسافروا ولم يعودوا إلى لبنان، ولذلك مأذونيات السفر تواجه بالرفض القاطع"، كما تقدّم فادي بما يُعرف بطلب انقطاع عن الخدمة والذي يكون إما داخل البلاد أو خارجها، ومن دون راتب لمدة 3 أشهر، يحصل بموجبها العسكري على هويّته وجواز سفره، لكن أيضاً تم رفضه، يتابع "قالوا لنا طالما أن هناك احتمال 0.01% أن تسافروا ولا تعودوا إلى البلد فسيتم رفض جميع التصاريح من هذا النوع".
ويقدم العسكري هذه الطلبات للمركز التابع له وتمشي تسلسلياً لرئاسة المركز وللرئيس الأعلى، ومن ثم إلى مدير قوى الأمن الداخلي، وفي حال رُفضت في أي مرحلة من هذه المراحل تعود إلى العسكري مرفوضة ولا تُكمل طريقها. ويصف فادي ما يحصل معه ومع زملائه بـالإقامة الجبرية، ويقول "أوراقي الثبوتية محجوزة، حرّيتي محجوزة، وطلبات التسريح أو مأذونيات السفر مرفوضة، لا أستطيع السفر إلى عائلتي ولا أستطيع الهرب من المؤسسة، لأنه لا يمكنني السفر من دون جواز سفري... لا يمكنهم الحكم علينا بهذا النوع من الحياة براتب غير قادر على تأمين كلفة بدل النقل الشهري إلى مراكزنا".
ولا يختلف وضع ريما الحاج (فضّلت عدم ذكر اسمها الحقيقي خوفاً من أي إجراءات عقابية بحقّها) عن أوضاع زملائها، إذ تعمل في مؤسسة قوى الأمن الداخلي برتبة عريف، فبينما يتقاضى نظراؤها في الاختصاص الذي تحمله (المعلوماتية) رواتبهم بالدولار في الشركات الخاصة أو خارج البلاد، بالكاد تتقاضى مليوني ليرة، أي أقل من 100 دولار أميركي.
وتقدّمت ريما بطلب مأذونية سفر إلى الخارج، وبطلب تسريح من الخدمة، ولم تنجح في الأمرين. وتقول لـ"العربي الجديد":" أعرف العديد من الحالات التي طالبت بتسريحها، الراتب لا يكفي لأسبوع واحد، ما بين بدل إيجار المنزل ورسم اشتراك الكهرباء الخاصة. كلفة الأدوية الشهرية لوالدي ووالدتي اليوم تتخطى قيمة راتبي، ولديّ يومياً بدل نقل يساوي 140 ألف ليرة (ما يقارب 7 دولارات)، والطبابة متوقّفة، لأن بعض المستشفيات لا تستقبل قوى الأمن، ومن يستقبلنا من المستشفيات نضطر أن ندفع له فارق الدولار على سعر السوق السوداء، خاصة أن المؤسسة تدفع الدولار لبعض المستشفيات المتعاقدة معها على سعر الـ 3900 ليرة، في حال تطلبت الحالة الصحية مستلزمات طبية، فحوصاً أو عملية جراحية، بينما المشافي تطالبنا بدفع الفارق على سعر السوق الموازية الذي يقدر حالياً بـ 20 و 21 ألف ليرة، للدولار الواحد. لكن في الماضي كانت الطبابة مؤمنة لنا بالكامل وكانت المستشفيات تستقبلنا بتغطية 100 % من المؤسسة، اليوم نخشى أن نمرض".
وعن المساعدات تقول ريما :" أعطونا منذ أول السنة معونات غذائية على دفعتين، تتضمن أرزا وسكرا ومعكرونة وبعض المواد الغذائية، وأحيانا كانت تضم زيتا نباتيا وأحيانا لا"، وترى في هذه المعونات "مذلّة للعسكري الذي عاش حياته مرفوع الرأس، واليوم أصبح مصدر شفقة يحتاج خبزاً وزيتاً..!".
تأثير الأزمة على مهام المؤسسة
ينقسم تأثير الأزمة الاقتصادية على المؤسسة الأمنية إلى قسمين، الأول على العديد، أي على العناصر العاملين في المؤسسة، والثاني على العتاد، أي الآليات والتجهيزات المستخدمة، وبالتالي القيام بالمهمات اللازمة، ويقول وزير الداخلية السابق مروان شربل إن قانون المؤسسة في العام 1992 حدّد ملاك قوى الأمن الداخلي بـ30 ألفاً، لكن العديد لا يتجاوز اليوم الـ 23 ألفاً، ويضيف: "منذ سنوات لا يوجد تطوّع في الأسلاك العسكرية، ومن يخرج من السلك بحكم التقاعد لا يتم توظيف عسكري جديد مكانه"، ويختلف سنّ التقاعد حسب الرتبة أيضاً، العميد عند سن الـ58 واللواء عند سن الـ60 والعنصر العادي بعد مرور 18 سنة خدمة، وتم تعديلها في السنوات الماضية لتصبح 23 سنة.
"أما الآليات فمعظمها معطّلة، لا قطع للصيانة ولا بنزين إلا بالقطّارة، وفي مواقف كثيرة ربما يضطر العسكري للتنقل مشياً على الأقدام لتنفيذ مهمته أو يذهب بسيارة المدّعي، في حال كانت هناك شكوى أو ادعاء بحقه مثل حادثة سرقة أو خلاف أو ما شابه"، ويؤكد شربل على ضرورة إيجاد حل لأوضاع العناصر الأمنية قبل الاستحقاق الانتخابي الذي يحتاج إلى جهوزية تامة غير متوفرة حالياً.
الآليات معظمها معطّلة ولا توجد قطع للصيانة ولا بنزين إلا بالقطّارة
ويتخوّف العميد صلاح جبران، قائد الدرك السابق، على وضع المؤسسة بشكل عام، فراتب العسكري لا يكفيه لأسبوع، لا طعام ولا طبابة، فكل الحوافز السابقة من نقل وطبابة ومدارس لأبناء العسكريين وأسعار مخفضة في التعاونيات، وقروض ميسرة، انتهت، ولا مساعدات خارجية للمؤسسة. وتابع: "قاموا بمنح العساكر نصف راتب زيادة خلال شهرين ماضيين فقط، ولم تكن زيادة مستمرة".
ويسأل جبران: "كيف يمكن أن نرسل العسكري إلى المهمة الانتخابية ولا محروقات للآليات ولا يمكن تأمين الطعام له حتى". كما أن تعويض المحسومات التقاعدية يصعب الحصول عليه في ظل الأزمة "فهناك عناصر تقاعدوا منذ أكثر من سنة ولم يحصلوا على تعويضاتهم بعد"، ويختلف التعويض بحسب سنوات الخدمة والرتبة ويراوح بين 100 و200 مليون ليرة، وهو ما يعني ما بين 5 و10 آلاف دولار على سعر صرف السوق الموازية.
فالوضع يمس بكل لبنان، على حدّ تعبير جبران "المواطن اليوم لمَن يلجأ ليسترد حقه، أو من يحمي أمنه؟ إذا كنا لا نجد في المخافر جميعها آلية شغالة، وإن كانت غير معطلة تكون بلا محروقات. لا بدّ من تدابير وإجراءات سريعة تتخذها وزارة الداخلية، ومجلس الوزراء، وتقديم حوافز لبقاء القوى الأمنية، لأن الموافقة على طلبات التسريح يعني رحيل أكثر من نصف الملاك".
ويحدد القانون رقم 17 (تنظيم قوى الأمن الداخلي) الدور الوظيفي لعناصر المؤسسة بما يلي: "قوى الأمن الداخلي قوى عامة مسلحة تشمل صلاحياتها جميع الأراضي اللبنانية والمياه، والأجواء الإقليمية التابعة لها أما مهامها فتحدد بما يأتي: ١- في مجال الضابطة الإدارية: أ - حفظ النظام وتوطيد الأمن. ب - تأمين الراحة العامة. ج - حماية الأشخاص والممتلكات. د - حماية الحريات في إطار القانون. هـ - السهر على تطبيق القوانين والأنظمة المنوطة بها. ٢- في مجال الضابطة العدلية: أ - القيام بمهام الضابطة العدلية. ب - تنفيذ التكاليف والإنابات القضائية. ج - تنفيذ الأحكام والمذكرات العدلية. ٣- في المجالات الأخرى: أ - مؤازرة السلطات العامة في تأدية وظائفها. ب - الحراسة التي تقررها السلطات المختصة للإدارات والمؤسسات العامة. ج - حراسة السجون وإدارتها عند الاقتضاء. د - حراسة البعثات الدبلوماسية في لبنان".
رد قوى الأمن الداخلي
يردّ مصدر رسمي مسؤول في مؤسسة قوى الأمن الداخلي على المعطيات السابقة، ويؤكد أن هناك مبالغة في التعبير عن الأزمة، والتي على بلد بأكمله وليست فقط على مؤسسة، لكن نحن لدينا قضية، حماية مجتمعنا وناسنا وهذه أولوية. رغم المشاكل والانعكاسات الاقتصادية الكبيرة على العسكر والمؤسسة والأمور اللوجستية، هذا لا يمنعنا عن القيام بواجباتنا على أكمل وجه".
ولا ينكر المصدر المسؤول في حديثه لـ"العربي الجديد" وجود مشاكل وتحديات في المؤسسة "فهي مشكلة على مستوى البلد ونحن جزء من هذا البلد لكننا نستطيع بإدارتنا الناجحة تنفيذ المهام الموكلة إلينا ومستعدون رغم كل الصعوبات لإكمال الطريق".
وحول منع التسريح ومأذونيات السفر، يوضح المصدر أن القانون يمنع التسريح (موازنة العام 2019)، ولا يزال هذا القانون ساري المفعول، وهذا قرار على مستوى مجلس النواب وليس على مستوى المؤسسة "أما مأذونيات السفر فأصبحت صعبة جداً بعد تسجيل حالات سفر وفرار من بعدها أي البقاء خارج البلاد".
وبدوره، يردّ مكتب وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي بالقول: "المؤسسة تواجه الأزمة بالحسّ الوطني والإيمان بالبلد وثقة العناصر برؤسائهم ووزارة الداخلية، الذين يعملون كل جهدهم لتأمين متطلبات العناصر المعيشية، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي يمر بها البلد". ويشير المكتب إلى أن هناك مشاريع موجودة في مجلس الوزراء لإيجاد بعض الحلول (تحتاج لمناقشة وإقرار)، ومن بينها زيادة بدل النقل للعناصر الأمنية، وتقديم منح اجتماعية وتحسين وضعهم لجهة النقل المشترك لتسهيل وصولهم إلى مراكز الخدمة بالإضافة إلى مساعدات عينية غذائية".