يكشف التحقيق تقصيراً من وزارة العمل القبرصية، وتحديداً على مستوى نطاقات المهاجرين والأجانب غير المنضبطة، إذ يعانون من ظروف مزرية تهدد حياتهم وسلامتهم المهنية، بالإضافة إلى حرمانهم من حقوهم بسبب الجهل باللغة والقانون.
- حاصرت النيران العمال المصريين في قبرص عزت سلامة جوزيف، ومرزوق شهدي، وصموئيل ميلاد فاروق، وماجد نبيل يونان، وبصعوبة غادروا كوخا خشبيا يقيمون فيه بمزرعة في قرية "أودو"، جنوب غرب البلاد، إذ لم يحذرهم رب عملهم من حريق بدأ في غابات ليماسول ووصل الجانب الجنوبي لغابات جبل ترودوس في 4 يوليو/ تموز 2021، ليستمروا في عملهم بالمنطقة التي لا يغادرونها إلا نادرا.
لكن رحلة الهرب من النيران انتهت بمصرعهم، بسبب انزلاق مركبتهم عبر منحدر في الغابة، كما يروي روماني مرزوق، أحد العاملين المصريين في قبرص وتربطه بالضحايا علاقات صداقة وقرابة، والذي نجا من مصير رفاقه الأربعة غير أنه لن ينسى طوال حياته جثثهم المتفحمة، كما يقول، مشيرا إلى أن "صاحب العمل أبلغ السلطات عن أربعة مفقودين وتم إرسال طائرة بحث لكن الحريق كان كبيرا للغاية".
تقصير في حماية الأجانب
يعد الضحايا الأربعة من بين 100 عامل أجنبي تركوا في المنطقة رغم اندلاع الحريق، ويعمل هؤلاء ونظراؤهم في بيئات عمل خطرة وفي ظروف صعبة وقاسية، ولا يغادرون أماكن عملهم مطلقا، بحسب إفادة اتحاد العمال الديمقراطي DEOK، الذي طالب السلطات بالتحقيق في ظروف وفاتهم وكشف أسباب التقصير لضمان حماية العمالة وبخاصة الموسمية.
ويتجلى الإهمال الذي تعاني منه العمالة الأجنبية في مشهد التعامل مع الجثث، بحسب ما قاله دوروس بوليكاربو، رئيس مجموعة دعم المهاجرين KISA، منتقدا سلوك ضباط الشرطة لدى وصولهم إلى مكان وجود جثث العمال الأربعة، إذ لم يكلفوا أنفسهم عناء الخروج من سياراتهم، وقرروا إرسال مصور لالتقاط صور للجثث، مضيفا في حديث لـ"العربي الجديد": "طلبت الشرطة من أصدقائهم وضع الجثث في أكياس ونقلها إلى شاحنة توجهت إلى المشرحة".
العمال غير النظاميين أكثر عرضة للانتهاكات وبخاصة الحرمان من الأجور
ورغم عدد العمال الأجانب الكبير في قبرص، والبالغ 43.253 عاملا أوروبيا بالإضافة إلى 47.512 عاملا من بلدان العالم الثالث، مقابل 323.903 عمال قبارصة، بحسب ما وثقه معد التحقيق عبر خدمة الإحصائيات الرسمية التابعة لوزارة المالية القبرصية، والتي نشرت تقريرها في مطلع حزيران/ يونيو 2021، إلا أنهم يخضعون لهياكل مختلفة يدخلون عبرها إلى سوق العمل من خلال الوكالات والمكاتب الخاصة التي تقوم بتشغيلهم، ما أسفر عن عدم سيطرة الحكومة على مسارات عمل الأجانب سواء من يعملون بشكل قانوني أم غير قانوني، وهو ما يخلق فئة ثانية من العاملين في الدولة لا يمرون عبر قنوات التشغيل الرسمية وبالتالي تنتهك حقوقهم، كما يقول الناشط الحقوقي بوليكاربو.
انتهاكات ممنهجة
تتطابقت شهادات ستة عمال عرب يعملون في قبرص التقاهم معد التحقيق ووثق معاناتهم، التي تتلخص في الاستهتار بأمنهم وسلامتهم المهنية وافتقارهم إلى الرعاية الصحية وتأخير دفع الأجور، ومن بينهم السوري عمار غالب، الذي عمل لمدة عامين ونصف في مخبز بالعاصمة، وعانى من تأخير في دفع أجره وتقسيمه على دفعتين، الأولى في الأسبوع الأول من الشهر والثانية في آخر أسبوع، ما يؤخر أداء التزاماته من إيجار وفواتير، رغم أنه يقوم بعمل "صعب"، وفق قوله، لذلك كان معظم العاملين في المخبز من الأجانب، وأضاف: "نستيقظ 4 فجرا ونعمل لمدة 10 ساعات بين الفرن وبراد ضخم في المكان نفسه، أدخله بين الحين والآخر وأعود للعمل أمام الفرن، ما أثر بشكل كبير على عظامي بسبب التقلب السريع بين الحرارة والبرودة".
لكن عمال المزارع الأجانب يعانون من ظروف عمل أشد قسوة، بحسب ما تؤكده إفادات العاملين، ومنهم المصري عادل أبو الفضل نور الدين، الذي وصل إلى قبرص بشكل قانوني منذ عامين، وبحسب اتفاقه مع الوسيط الذي استقدمه فإن عمله من الساعة 6 صباحا وحتى 4 عصرا، لكنه وجد نفسه مضطرا إلى أن يعمل من 6 صباحاً وحتى 8 مساء، ويبيت في بيئة غير صحية بالمزرعة وسط الماعز والأعلاف والحشرات، واصفا وضع العمل بـ"الاستعباد"، مقابل أجر شهري يرواح بين 400 و480 يورو.
أرباب عمل يستغلون جهل موظفيهم بالقانون واللغة لحرمانهم من حقوقهم
وينسحب ما سبق على عمال البناء، وفق ما يرويه السوري أنس شيخ، والذي يعيش في قبرص منذ خمسة عشر عاماً، وعمل عند وصوله إلى قبرص في البناء، ويصف المهنة أنها "خطرة وتتطلب الصعود إلى أسطح المباني، من أجل عمليات العزل ووضع مواد يتطلبها الأمر، وعلاوة على أشعة الشمس اللاهبة يجب استعمال جرّة غاز وعازل كاوتشوك، وكل هذا من بين ظروف عمل تتطلب حرارة عالية للحرق"، مشيرا إلى أن العامل الذي يعمل بشكل قانوني يتقاضى بين 30 و45 يورو يوميا، بينما لو كان يعمل بطريقة غير نظامية، فهذا يعرض العامل وصاحب العمل للخطر في حال وقع أي حادث له كونه يعمل بشكل مخالف وغير مسجل لدى مكتب العمل.
ويعزو الباحث في شؤون اللجوء والاندماج بالمجلس القبرصي للاجئين (غير ربحي مقره نيقوسيا)، مانوس ماتيوداكيس، شيوع الانتهاكات إلى عدم فعالية دور الوزارة المعنية في مراقبة ظروف وبيئة العمل، ولا سيما في القطاعات التي يتم فيها توظيف العمال الأجانب.
ويتركز العمال من بلدان العالم الثالث في قطاعات، أبرزها: الأنشطة المنزلية وأعمال البناء، والزراعة والغابات ومصائد الأسماك، بينما يتركز العمال الأوروبيون في تجارة الجملة والتجزئة وإصلاح السيارات والدراجات، بالإضافة إلى خدمات الإقامة والتموين، بحسب بيانات خدمة الإحصائيات التابعة لوزارة المالية القبرصية.
وتواصلت "العربي الجديد" منذ فبراير/شباط الماضي مع وزارة العمل للرد على أسئلة حول إجراءاتها المبذولة لحماية حقوق العمال الأجانب وما يوثقه التحقيق من قصور، لكنها لم تجب رغم تأكيدها على استلام الطلب.
وبالعودة إلى تقرير الوزارة السنوي الصادر في مايو/أيار 2021، تذكر إدارة التفتيش على العمل أنها قدمت 26 تشريعا جديدا في سياق تعزيز ظروف العمل من أجل ضمان مستويات كافية من السلامة والصحة المهنية لجميع الموظفين، ونفذت 16.612 عملية تفتيش على 4.563 منشأة مختلفة، وتم إرسال 169 ملاحظة انتهاك وإصدار 23 إشعارا بتحسين ظروف العمل، كما تم التحقيق في 1545 حالة أمراض مهنية وحوادث خطيرة وأيضاً 400 شكوى تم رفعها من قبل المواطنين.
استغلال اللاجئين
حُرم السوري محمد أبوعلي، الذي وصل إلى قبرص لاجئا منذ 5 سنوات، من حقوقه في عمله بصيانة الشاحنات لمدة 3 سنوات، ولم يحصل عليها إلا منذ عامين، وبدأت الانتهاكات، بتقاضيه راتبا متدنيا، وشملت بعد ذلك حرمانه من الإجازات والتأمين على إصابات العمل، رغم خطورة الوظيفة.
وما فاقم معاناته تعرضه لإصابة عمل في عام 2018، ما أسفر عن عطب طويل الأمد في ركبته، ونتيجة الحادثة تحتاج ساقه إلى عملية وركبة صناعية في ما بعد، حسب تأكيد الأطباء، لكن صاحب العمل حاول التنصل من مسؤوليته تجاهه، وعندما قرر محمد في العام الماضي ترك عمله بسبب هضم حقوقه، أحضر له صاحب العمل أوراقا ليوقع عليها، وكانت المفاجآة بعد ترجمتها، أنها للتنازل عن حقوقه، في محاولة من صاحب العمل للإيقاع به، لكنه رفض توقيعها ولاحق صاحب العمل حتى حصّل بعض مستحقاته.
ما مرّ به محمد يمثل جانبا من معاناة اللاجئين والعمال الأجانب نتيجة عدم فهمهم اللغة وتشريعات العمل، ولا تبذل وزارة العمل أي مجهود لتوعيتهم، كما تبين عبر التواصل مع عينة منهم بواسطة المجلس القبرصي للاجئين، إذ لم يكونوا على دراية إطلاقا بأي آلية تتعلق بشكاوى العمل، وكيفية الانضمام إلى النقابات العمالية، بحسب ماتيوداكيس، مؤكدا أن "اللاجئين في قبرص مخازن بشرية تستغل في العمل"، ويجد أصحاب العمل فرصة لتشغيلهم واستغلال أوضاعهم وجهلهم بالقوانين، ومن خلال اطلاعه على تجارب العمال اللاجئين، فإن الرواتب المنخفضة وساعات العمل الطويلة هي مشكلات شائعة بشكل خاص في حالة طالبي اللجوء وليس الحاصلين على الحماية الدولية، مضيفا أن هناك عقبة أخرى تتعلق بشكل خاص بطالبي اللجوء، والذين لا يمكنهم الوصول إلا إلى قطاعات اقتصادية محددة، مثل أعمال البناء، والزراعة، وخدمات المطاعم، وصيانة السيارات.
حرمان من الحقوق
يوضح بوليكاربو أن الأجنبي في قبرص لا يمكنه العمل إلا إذا حصل على الإقامة طويلة الأجل، وإن وصل إلى البلاد لاجئا يسمح له بالعمل بعد الحصول على بطاقة اللجوء، أما المهاجرون ممن يعملون بطريقة غير قانونية فإنهم يعانون أشكالا متنوعة من الانتهاكات، قائلا: "رصدت المنظمة 1015 عاملا بدون تصريح إقامة خلال العام الماضي".
وبحسب المعلومات المنشورة على موقع وزارة العمل والتأمينات الاجتماعية، فإن السنوات الأخيرة، خاصة بعد انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي، تغير فيها سوق العمل بشكل كبير، وأدت إلى زيادة في عدد العمال من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وما يعرف بالعالم الثالث، بالتزامن مع زيادة ظاهرة العمل غير المعلن عنه، أي تشغيل العامل دون تسجيل ذلك لدى مكاتب العمل وعدم دفع التأمينات الاجتماعية والضمان الصحي، ما ساهم في ارتفاع كبير في حالات المعاملة غير المتكافئة والاستغلال في مكان العمل.
ويصل هذا الاستغلال إلى حد ضرب العاملين غير النظاميين من قبل أصحاب العمل حتى انتهى بهم الحال في المستشفيات، ولم يتمكنوا من فعل أي شيء لأنه لا يمكنهم إثبات أنهم يعملون مع صاحب العمل، بحسب بوليكاربو، الذي قال عن المهاجرين غير المسجلين في البلاد "إنهم غير موجودين في النظام، فكيف يمكنهم إثبات أن هذه الرواتب لم تدفع؟".
مأساة عمال المنازل
"يمثل الإطار الحالي لحماية عمال المنازل الأجانب، بما في ذلك عقد العمل الذي يجب عليهم توقيعه، إشكالية كبيرة، وتكمن أخطر المشاكل في حقيقة أن عمال المنازل الأجانب يجدون صعوبة في فهم شروط عقد العمل ولا يرغبون في تقديم شكوى بشأن الانتهاكات التي يتعرضون لها، وبحسب الدراسة، فإن غموض تعريف "العمل المنزلي" بحسب ما خلصت إليه دراسة ميدانية شملت 150 من عمال وعاملات البيوت الأجانب في قبرص صدرت بتاريخ 18 ديسمبر/ كانون الأول عام 2020 وبعنوان "حالة عمال المنازل الأجانب في قبرص"، عبر دعم من مكتب مفوض الشؤون الإدارية وحماية حقوق الإنسان في قبرص، وتؤكد الدراسة أن الفشل غير المبرر في توضيح هذا المصطلح يحرم العامل والعاملة المنزلية من حقها في المطالبة بحقوقها، ويلاحظ أن العمل المنزلي غالبا ما يُنظر إليه على أنه مسألة عائلية، وبالتالي يُستبعد على هذا الأساس من النقاش العام.
ويسهم ما سبق في الإفراط في استغلال وإيذاء عاملات المنازل، إذ بلغ عدد العاملين في الأنشطة المنزلية 18.231 عاملا وعاملة عام 2021، منهم 266 قبرصيا، و116 من أصل أوروبي، و17.849 من بلدان العالم الثالث.
ويؤكد القائمون على الدراسة أن العوامل التي تسهم في تغذية العنف ضد العمال الأجانب في المنازل، خاصة الإناث هي: جنسهن وعرقهن، وحاجتهن المالية الكبيرة، ثم خوفهن من إنهاء العمل والترحيل، إضافة إلى الشرط القانوني الذي يقضي بربطهن برب عمل واحد، وغياب حماية الدولة لهن، وعدم وجود عقوبات ضد أصحاب العمل المسيئين، إضافة إلى عزلتهم الاجتماعية، وهذه العزلة، تمنع أيضا الإبلاغ عن سوء المعاملة من قبل عمال المنازل الأجانب، ليصبح استغلالهم غير مرئي، ما يجعل فهم الأبعاد الحقيقية لظاهرة الإساءة لعمال المنازل الأجانب وكيف يمكن الإبلاغ عنها بفعالية، من أكبر التحديات التي تواجه الدولة.