- النظريات المؤامراتية تجد أرضًا خصبة في البيئات المتوترة، مسهمة في تعميق الانقسامات وتشويه الحقائق، وتاريخيًا استُخدمت لتفسير الأحداث بما يخدم أجندات معينة.
- يبرز الحاجة لنهج تحليلي عقلاني في تقييم الأحداث الجيوسياسية، مثل الرد الإيراني على إسرائيل، متطلبًا النظر في الأبعاد العسكرية، الاستراتيجية، والتكلفة الاقتصادية لفهم الواقع بدقة.
تكشف متابعة ردات أفعال الناشطين العرب على مواقع التواصل، حيال الرد الإيراني على قصف تل أبيب قنصلية طهران في دمشق، عن طبيعة أزمتنا وواقعنا المنزلق إلى مزيد من التردي، إذ ضجت الحسابات العربية بالسخرية من إعلان طهران عن الرد ثم من طبيعة الرد نفسها، بينما ساد رأي جزم بكل قوة أنها مسرحية متفق عليها ضمن مؤامرة إسرائيلية إيرانية مشتركة.
لكن وإن كانت السخرية أمراً يمكن تفهمه، فإن الجزم بالمسرحة والمؤامرة لا بد من مواجهته وتفنيده، إذ ينطلق أصحاب تلك الآراء من أن الشعور بمشاعر متناقضة والتفكير المركب حيال حدث أو ظاهرة ما ليسا أمرين مبهجين، فهذا مرهق للعقول ويجبرها على القيام بتمارين مبنية على حقائق ومنطق متماسك، بينما ما ينشدونه هو أن يتخذ المرء جانبا محددا إما مع إيران أو ضدها وخلاص، لا أن تتساءل عن فائدة وأضرار الرد لإيران، وكذلك لمنطقتنا والقضية الفلسطينية التي يمكن تطبيق المنظور نفسه على الموقف الإيراني منها، إذ تستفيد المقاومة من الدعم الإيراني عسكريا وماليا كما تستفيد طهران في بناء سردية تتمدد من خلالها إلى عواصم عربية عديدة، صار "طريق القدس" لا يمر إلا من خلالها.
ولا يعد التفسير التآمري للأحداث والتاريخ أمرا جديدا، بل ظاهرة تكررت كثيرا منذ ما قبل الميلاد، إذ عجت أعمال الخطباء المشهورين والمؤلفين المسرحيين في أثينا القديمة بأخبار المكائد والمؤامرات التي استهدفت كل شيء ابتداء من حياة الناس وانتهاء بالنظام والشؤون الخارجية، كما يقول الأكاديمي وعالم النفس روب براذرتون في كتابه عقول متشككة، مشيرا إلى ما رصده المؤرخون حول ملابسات حريق روما الذي وقع في 19 يوليو من عام 64 ميلادية، وكان يوما صيفيا حارقا عشية الألعاب الرومانية السنوية التي تحظى بشعبية هائلة، وبينما أوقدت المطاعم المحيطة بالسيرك العظيم (سيركوس ماكسيموس) أفرانها المنتشرة في المنطقة المكتظة ذات الشوارع الضيقة، اندلع فجأة الحريق، وزادت الريح انتشاره، ومعه الشائعات التي بدأت من الإمبراطور نيرون بالرغم من أنه كان على بعد 36 ميلا في أنتيوم مسقط رأسه، وسرعان ما عاد ووفر المأوى والغذاء للحشود المشردة كما ذكر تاسيتس المؤرخ الروماني الذي عاش الأحداث في طفولته، لكنه كان على الحياد، يشير إلى الشائعات دون تأييدها، بينما ذهب آخرون إلى ذلك على الرغم من أنهم ولدوا بعد الأحداث، ومنهم المؤرخان سويتيونوس وكاسيوس ديو.
وبمرور الزمن تطور الأمر عالميا وبالطبع عربيا، ومن ذلك هراء مؤامراتي روجته نخب بأن حرب أكتوبر 1973 كانت باتفاق أميركي مصري لتحريك الأوضاع، وأن كيسنجر عراب هذا الاتفاق، وكذلك كتاب بروتوكولات حكماء صهيون الذي حظي بانتشار واسع بعد ترجمته في عشرينيات القرن الماضي إلى لغات عديدة منها العربية، وواضح من اسمه أنه يلقي اللوم على اليهود في العديد من المشكلات العالمية، كما يمنحهم قدرات خارقة غير منطقية، إذ يزعم أن لديهم خطة لغزو العالم، وتتضمن 24 بروتوكولا بوصفها تعاليم وتوصيات مسبقة، وكان أن دفعت الأحداث المتوالية ضمن الصراع العربي الإسرائيلي إلى استخدامه، على الرغم من أن المفكر المختص في دراسة اليهود واليهودية والصهيونية (اسم موسوعته) الدكتور عبد الوهاب المسيري ظل يكرر منذ عام 1977 أن الكتاب خرافة مضللة، وأن الترويج له مضر بالعرب قبل غيرهم، غير أن هذا الرأي المتخصص لم يجد آذانا صاغية عند الفنان محمد صبحي الذي مثل وألف مسلسلا يعتمد على كتاب بروتوكولات حكماء صهيون (فارس بلا جواد)، زاعما أن تداوله كان ممنوعاً، وقراءته كذلك، بحسب ما قاله في سبتمبر/أيلول 2020 عبر بث مباشر (لايف) عبر صفحته الرسمية على موقع فيسبوك.
ولا يقتصر الهراء المؤامراتي الغرائبي على الديكتاتوريات، إذ ينتعش في أعتى الديمقراطيات، ففي عهد ترامب مثلا نشط أتباع ما يسمى بـ كيو أنون وهي نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين الأميركي المتطرّف تتناول بالتفصيل خطّة سرية مزعومة لما يُسمّى "الدولة العميقة في الولايات المتحدة" ضدّ الرئيس الأميركي ترامب وأنصاره، وما يزال المنتمون لتلك الحركة يبتدعون المزيد من الخزعبلات مثل أن جون كينيدي سيعود من الموت، والآن هم يعتقدون أن موته هو نفسه مجرد خدعة، وحتى 7 أكتوبر نفسها جرى الحديث عن كونها مسرحية لتدمير غزة وتهجير سكانها.
في مواجهة هؤلاء حاول بعضهم عقلنة النقاش والتفكير المركب بعيدا عن التبسيط المخل، فالرد الإيراني يحتاج إلى تقييم منطقي، ينطلق من أنه لأول مرة تستهدف طهران من أراضيها دولة الاحتلال مباشرة دون الزج بوكلائها العرب وقودا للمعركة، كما أن طبيعة مواجهة الرد الكبيرة واشتراك فرنسا وبريطانيا ومن قبلهما أميركا مع جيش الاحتلال في إسقاط 185 طائرة بدون طيار "مسيرة"، و36 صاروخ كروز و110 صواريخ أرض أرض، تحتاج تقييما بالإضافة إلى توقيت الرد وسط حرب غزة، وتكلفته التي تقدر بـ 5 مليارات شيكل (نحو 1.35 مليار دولار) خلال ليلة واحدة، كما نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن قيادي عسكري سابق. وليس هذا بالأمر المهم بمقدار ما كشف من قدرات الدفاع الجوي لدى الاحتلال أمام دولة لديها قدرات وإمكانيات معلنة وخفية.
اللافت أن أي مختص عربي يحاول التفكير بتلك الطريقة يستهدف ويعتبر مطية لطهران، بينما تجد المتخصصين الغربيين لا يستهدفهم أحد رغم أنهم يحللون الأبعاد العسكرية والاستراتيجية والتكلفة الاقتصادية والتداعيات المستقبلية والتحالفات الأمنية ودورها في المواجهة.
غير أن من يريدون موقفا واحدا مطلقا ضد إيران لا يرون ذلك في ظل البحث عن إشباع رغبة الوصول إلى إجابات سريعة حاسمة وبسيطة، إما مع أو ضد، وفي هذا يتنافس أكاديميون يروجون روايات الأنظمة عن المؤامرة الكونية وبسطاء يتلقفون ويعيدون إنتاج الهراء ليتداوله المزيد منهم، فالمطلوب هو أن تعيد بعض النخب إنتاج رغائبيات المؤامرة والمسرحة التي تسكن عقولا مأزومة بالتفكير المبسط بشكل مخل غير عقلاني سرعان ما تتلقفه مكائن إعادة النشر، والتي لا أجد وصفا لها أفضل، من ذلك الذي صاغه المفكر والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو، في حوار لصحيفة "لا ستامبا" الإيطالية، عام 2016، قائلا هذه الوسائط (يقصد السوشيال ميديا) "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من الخمر، من دون أن يتسببوا بأي ضرر للآخرين، لكن الآن فإنهم يتمتعون بحق التحدث للعموم مثل من يحمل جائزة نوبل".