غادرت اللبنانية رندا سليم وطنها بعد حصولها قبل ثلاثة عقود على شهادة الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، باتجاه الولايات المتحدة الأميركية لتكمل دراستها وتتحصل على شهادة الدكتوراة من جامعة نورث كارولاينا جنوب شرق الولايات المتحدة.
أصبحت سليم، مديرة برنامج حوارات المسار الثاني وحل النزاعات في معهد الشرق الأوسط وزميلة غير مقيمة في معهد السياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز، كما تقول :"أتيت وزوجي إلى هنا من أجل الدراسة، هو أيضا درس الطب، ولم نحصل على أي دعم مادي، وعملنا وتعبنا وحين أنهينا دراستنا حصلنا على الفرصة للنجاح، الولايات المتحدة الاميركية تتوفر على فرص لا توجد في بلدان أخرى".
تجربة الدكتورة رندا سليم وغيرها من العرب الذين حققوا ما اصطلح على تسميته بـ"الحلم الأميركي"، تلهم آلاف الشباب العرب وتدفعهم للمشاركة في قرعة تأشيرة التنوع أو الهجرة العشوائية، بحثا عن الحصول على رخصة الإقامة الدائمة والمعروفة بإسم البطاقة الخضراء (Green Card)، إذ فاز في قرعة العام الجاري، 31323 عربيا، واحتلت مصر الصدارة بـ 6005 تأشيرات، تلتها الجزائر والسودان بـ 6001 ثم المغرب بـ 4138 والمملكة العربية السعودية بـ 944 حالة، وفق ما نشره موقع The American Dream غير الحكومي المختص في مساعدة الراغبين بالهجرة إلى الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من هذا الإقبال الكبير ونجاح عائلات مثل سليم في تحقيق الحلم الأميركي، فإن معاناة آخرين بحثا عنه خاصة مع تصاعد الشعبوية وما نتج عنها من عنصرية متفاقمة وتعقد الأوضاع الاقتصادية، تثير التساؤلات عن فرص تحقيقه، وهل ما تزال متاحة بنفس القدر السابق، كما تقول مصادر التحقيق.
ليس متاحا للجميع
يختلف تعريف الحلم الأميركى من فترة زمنية إلى أخرى وباختلاف الأشخاص ومكونات أميركا المتنوعة، لكن أول من صك المصطلح هو الكاتب والمؤرخ جيمس ترسلو أدامز في كتابه الأكثر مبيعا عام 1931 "الملحمة الأميركية" ، والذي عرف فيه الحلم الأميركي قائلا :"هو الحلم الخاص بالأرض التي يجب أن تكون فيها الحياة أفضل وأكثر ثراء لكل الناس، حيث تتيح لكل فرد الفرصة المناسبة طبقا لقدراته وإنجازاته"، واسترسل قائلا أن الحلم الأميركي يصعب أن تدركه الطبقات الاجتماعية الأوروبية العليا بشكل كاف، "وليس فقط الأوروبيين، نحن أيضا ترعرعنا على توخي الحذر من هذا الحلم وعدم الثقة به، ذلك أنه ليس مجرد حلم للحصول على سيارة أو مرتب مرتفع، ولكنه يسعى إلى تحقيق عدالة اجتماعية لكل رجل وامرأة، وبذلك يصلون إلى أفضل المستويات وتصبح لديهم القدرة الفطرية على الإنتاج، ومن ثم ينظر الآخرون إلى هويتهم دون أي اعتبار لظروف الميلاد أو الوضع الاجتماعي العارضة".
ويرتبط مفهوم الحلم الأميركي من وجهة نظر، البروفيسور لورانس إبارد أستاذ علم الاجتماع بجامعة شيبنسبورغ في بنسلفانيا، بعاملين أساسيين يتمثلان في إتاحة فرصة النجاح للجميع، وتمكين المجتهد في عمله من التمتع بالأمن الاقتصادي، أو بتعبير آخر "العمل الشاق يؤتي ثماره"، حسب مايكل سترين مدير دراسات السياسية الإقتصادية بمعهد American Enterprise Institute، والذي يقول أن الحلم الأميركي يعني أيضا تمكن الأبناء من تحقيق نجاحات أكبر من تلك التي وصل إليها أباؤهم لكن هل يقع هذا بالفعل؟
استنادا إلى دراسة نشرت في سبتمبر/أيلول 2020 على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، بعنوان "هل انتهى الحلم الأميركي؟ هذا ما تقوله البيانات"، فإن أبرز عناصر قياس المصطلح، تتمثل في مدى احتمال أن يتفوق الأميركيون على والديهم وصعود السلم الاجتماعي، ومدى صعوبة ذلك، وعلاقته بنمو الأجور.
وبالحديث عن الأجور فعلى مدار 54 سنة ومنذ عام 1964 إلى 2018، ارتفعت الأجور في الولايات المتحدة الأمبركية بنسبة 11.7 ℅ فقط، في حين ارتفعت تكاليف الخدمات الصحية و التعليمية بأكثر من 160℅ خلال الفترة الزمنية ذاتها، بحسب دراسة، "هل انتهى الحلم الأميركي؟ هذا ما تقوله البيانات".
وتسبب الارتفاع المتزايد لتكاليف الحياة في دفع الأسر الأمبركية إلى الحصول على قروض بنكية كبيرة، وبينما أدت القروض إلى زيادة القدرة الشرائية للأميركيين وساعدتهم على تملك المنازل والسيارات والسلع الأخرى، بلغ مجموع ديون المستهلكين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، 14.2 تريليون دولار فيما قدر متوسط دين الفرد الواحد بـ 92.727 دولارًا حسب موقع Bankrate (شركة خاصة للخدمات المالية مقرها نيويورك).
وعلى الرغم من تلك المؤشرات ، لا تزال الولايات المتحدة الأميركية الوجهة الأكثر شعبية، وفقا لموقع مؤسسة "Citizen Path" الخاصة والتي تعمل في مجال الهجرة، وحسب إحصائيات نشرتها المؤسسة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، يعيش في الولايات المتحدة 19℅ (51 مليونا) من عدد المهاجرين في العالم، مقابل 4.8℅ (13 مليونا) في ألمانيا، و4.7℅ (قرابة 13 مليونا) في المملكة العربية السعودية، و4.4℅ (12 مليون مهاجر) في روسيا، في حين تبلغ نسبة المهاجرين في المملكة البريطانية 3.7℅ أي نحو 10 ملايين مهاجر.
لكن افتقاد الولايات المتحدة الأميركية للمساواة، حسب ما يراه لورانس إبارد، يؤثر على فرص النجاح، ولعل أحد الأدلة على ذلك، الصعوبة التي تواجه الأطفال المولودين في أسر فقيرة وهم يحاولون تسلق السلم الاجتماعي ليغيروا وضعهم كبالغين، إذ إن 8% فقط من الأطفال الناشئين في وسط فقير يصبحون أغنياء كبالغين، مقابل ما يلامس الضعف 15% بالدنمارك.
وحسب تقرير لمعهد السياسة الاقتصادية، صدر نهاية 2019، فإن 1℅ من أصحاب الدخل المرتفع ارتفعت أجورهم بنسبة 157.8℅ منذ 1979، في حين أن الدخل السنوي لـ 90℅ من الأميركيين المنتمين للطبقات الفقيرة والمتوسطة، ارتفع من 30.330 ألف دولار سنة 1979 إلى 37.574 ألف دولار عام 2018، وهي نسبة ضئيلة جدا، حسب التقرير، مقارنة بدخل الأغنياء الذين يشكلون 1℅ من المجتمع الأيمركي، والذين ارتفع دخلهم السنوي في نفس الفترة الزمنية من 637.180 ألف دولار إلى 2.808.104 دولار أميركي.
على عكس ما سبق، يرسم مايكل سترين، صورة أقل سوداوية، قائلا: "على الرغم من أن البعض يحصل على فرص بطريقة أسهل من الآخرين، إلا ان أميركا لا تزال أرض الفرص، والرهان هو الدفع بهذه الفرص لتكون في متناول الجميع".
لكن دراسة أجراها مؤخرا الدكتور مارك روبارت رانك أستاذ علم الاجتماع بجامعة ويسكونسن، والدكتور لورانس إبارد، تحت عنوان The American Dream of upward mobility is broken. Look at the numbers، كشفت أن 50% من الأبناء في أميركا يرثون مناصب آبائهم، مقابل أقل من 20% فقط في كندا.
ويعتمد تكافؤ الفرص في الولايات المتحدة الأميركية، وفقا للدراسة، على عدة معطيات، أهمها المنطقة التي ينشأ فيها الفرد، بما في ذلك فرص التعليم، إذ تختلف نوعية التعليم باختلاف المستوى المعيشي في الحي الذي تعيش فيه الأسرة، كما أن إمكانية التعرض للاعتداء، وعدم الاستفادة من تأمين صحي يعانيها بشكل أكبر من يعيشون بالأحياء المعدومة.
وتعود أسباب الفقر المتفشي في أحياء دون أخرى بشكل كبير إلى سياسة الإسكان التي انتهجتها الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي سميت بـ Redlining، وهو مصطلح معناه الحرمان أو زيادة التكلفة في الخدمات كالتأمين والتوظيف والحصول على الرعاية الصحية، وحتى التسوق، للمقيمين في مناطق لها غالبية عرقية محددة، وصاغ المصطلح في أواخر ستينيات القرن الماضي، جون ماكنايت، الناشط الاجتماعي من جامعة نورثوستيرن.
وتنتشر الجريمة والفقر أكثر في أحياء كليفلاند التي واجهت قيود الإقراض منذ عقود، وفق مقال بعنون "إرث الريد لاين REDLINING'S LEGACY" والمنشور بالمجلة الإلكترونية Think التي تصدرها جامعة كيس وسترن ريسرف البحثية في أوهايو، وتوصل الباحثون إلى أن الأحياء التي تعاني الفقر، الجريمة والمشاكل الصحية في الوقت الحاضر، هي الأحياء نفسها التي رفضت البنوك قبل 90 عاما إقراض سكانها ذوي البشرة السوداء والأقليات من أجل شراء منازل، وهذا الإقصاء أدى بدوره إلى عدم الاستثمار في البنى التحتية والتعليم بها.
ومنذ ذلك الحين أصبحت المنطقة التي يولد وينشأ فيها الطفل تحدد مستقبله وصار من الصعب تغيير مسار حياة الملايين من الأميركيين خاصة غير البيض والذين يقطنون مناطق فقيرة، كما أصبح المستوى المعيشي للفرد الأميركي يعرف بالرقم البريدي لعنوان بيته، وعلى سبيل المثال فإن متوسط الدخل السنوي لسكان منطقة Downtown بولاية لوس أنجلس مثلا لا يتعدى عتبة 15 ألف دولار، في حين يقدر متوسط الدخل بـ Springfield في ولاية فرجينيا بـ 38 ألف دولار، فيما يصل دخل القاطنين بمنطقة Atherton في ولاية كاليفورنيا إلى 85 ألف دولار سنويا.
اتساع الهوة بين الأغنياء و الفقراء
من أسباب انخفاض النمو الإقتصادي في الولايات المتحدة، حسب دراسة مارك روبارت رانك و لورانس إبارد، تزايد صعوبة تسلق سلم الفرص، بسبب الهوة الواسعة بين درجاته، ودليل ذلك أن 20% ممن هم في أعلى السلم دخلهم أعلى بتسع مرات من الذين في درجاته السفلى.
وهذا الاختلاف في مستوى الدخل، كما يؤكد الباحثان، أكبر بكثير من الاختلاف الحاصل في دول الاتحاد الأوروبي أو المملكة المتحدة، ويقول الدكتور إبارد، لـ"العربي الجديد"، أن بيانات الدراسة، أثبتت أن 10℅ من الأميركيين الأغنياء كانوا يستحوذون على 62℅ من ثروات البلاد عام 1985، في حين يتقاسم 50℅ ممن هم في درجاته السفلى 3℅ فقط من الثروات، وفي الوقت الحاضر فإن 10℅ ممن في أعلى درجات السلم يمتلكون 71℅ من الثروة، مقابل 2℅ لـ 50℅ في الدرجات السفلى.
وتكشف نتائج بحث قاعدة بيانات عدم المساواة في العالم World Inequality Database، أن مستوى دخل الطبقة الفقيرة التي تمثل 50℅ من المجتمع الأميركي انخفض من 14.7℅ في عام 1913 إلى 13.3℅ عام 2019، في حين أن الطبقة المتوسطة المقدرة بـ 40℅ ارتفع دخلها بنسبة 0.5℅ (من 27.3℅ إلى 27.8℅)، خلال الفترة الممتدة ما بين 1963 و2019، وهي نسبة تعتبر ضئيلة جدا مقارنة بالـ 1℅ ممن هم في أعلى السلم الاجتماعي، والذين ارتفع دخلهم خلال الفترة الزمنية ذاتها من 28℅ إلى 34℅.
تواطؤ النخبة مع ذوي النفوذ
تؤدي سطوة النخبة ونفوذها في صنع السياسات والذي يتأثر بعلاقاتها مع جماعات المصالح الاقتصادية الكبرى، وقوى الضغط إلى إقامة المتاريس في وجه مسار الصعود إلى الحلم الأميركي بمفهومه التقليدي، كما يرى البروفيسور مارتن جيلينز أستاذ السياسة العامة في كلية لوسكين للشؤون العامة بجامعة كاليفورنيا، في كتاب تحت عنوان "Affluence and Influence أو الثراء والنفوذ صدر عام 2014، مشيرا إلى أنه حين تتعارض مصالح الأثرياء وجماعات النفوذ مع مصالح المواطن الأميركي العادي فإنه يصبح الخاسر الأكبر، وغالبًا ما تدور الخلافات، حسب البروفيسور جيلينز، حول السياسات والبرامج التي من شأنها مساعدة الأميركيين من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، ولعل أبرز مثال على ذلك المعركة التشريعية التي اندلعت في الكونغرس الأميركي أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، حول رفع أجر ساعة العمل من 7.25 دولارات إلى 15 دولارًا بحلول عام 2025.
ولطالما تبادل الديمقراطيون والجمهوريون التهم بشأن عرقلة تحقيق الحلم الأميركي، كما يقول الدكتور نصير العمري أستاذ العلوم السياسية والمختص في شؤون الشرق الأوسط بجامعة نيويورك سيتي، مشيرا إلى أن الديمقراطيين ينتهجون سياسة مساعدة الطبقة الفقيرة وتوفير التعليم والرعاية الصحية لتسهيل تحقيق الحلم الأميركي، في حين يرفض الجمهوريون هذا التوجه الذي يقولون إنه يهدر المال العام ويؤثر سلبا على المؤسسات الاقتصادية ويعيق فتح المزيد من مناصب الشغل وبالتالي إتاحة فرص تحقيق الحلم الأميركي.
تراجع البحث العلمي وحماية الحقوق والحريات
على الرغم من استمرار تصدرالولايات المتحدة الأميركية في مجال البحوث العلمية عالية الجودة، إلا أن الفارق بينها وبين الصين يتقلص بتقدم هذه الأخيرة، وتشير الجداول السنوية للبحوث العلمية المنشورة في 29 أبريل/نيسان 2020 على موقع Nature العلمي، إلى أن حصة الولايات المتحدة بلغت 20.152.48، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 4.2٪ في الإنتاج مقارنة بالعام السابق، في حين قفز نصيب الصين من 11.372.26 إلى 13.566.11خلال نفس الفترة ، بزيادة قدرها 15.4٪، كما عرفت الولايات المتحدة تأخرا في نشر المقالات في مجالي العلوم والهندسة بالمجلات الدولية المحكمة عام 2018، وفق ما جاء على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير 2020، إذ نشرت الولايات المتحدة 422.808 مقالا، في حين نشرت الصين 528.263.
وعرفت الولايات المتحدة الأميركية تراجعا فيما يتعلق بمهارات الطلبة في مادة الرياضيات وفق ما نشر في 28 أبريل الماضي على موقع The Balance، وتؤكد دراسة الموقع أن الولايات المتحدة جاءت في المرتبة 11 من بين 79 دولة في مجال العلوم وفق الاختبار الدولي لتقييم الطلبة البالغين من العمر 15 عاما، وكان أداؤها أسوأ في الرياضيات، إذ أتت في المرتبة 30، وسجلت الولايات المتحدة 478 نقطة في مادة الرياضيات، وهي النتيجة التي تعتبر أقل بكثير من نتائج الدول التي احتلت المراكز الخمسة الأولى، إذ تحصلت سنغافورة 569 نقطة، وماكاو 544، إستونيا 530، اليابان 529، و فنلندا 522 نقطة.
ولم يقتصر التراجع على الجانب التعليمي فقط، إذ يؤكد تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، عن العام الماضي، الصادر تحت عنوان "الولايات المتحدة أحداث 2019"، أن الولايات المتحدة تتأخر في مجال حقوق الإنسان، بفعل السياسات التي انتهجتها الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترامب، فيما يتعلق بالعدالة، الهجرة، حقوق المرأة، الرعاية الصحية و حرية التعبير.