التصويت الإلكتروني في موسكو...قلب موازين القوى لصالح مرشحي السلطة

03 أكتوبر 2021
توسيع دائرة التصويت الإلكتروني ليشمل كافة أنحاء روسيا مستقبلاً (Getty)
+ الخط -

توثق "العربي الجديد" آلية التلاعب في انتخابات "الدوما" الروسي، إذ تغيرت النتائج ليلاً بعد تزايد حاد في أعداد الأصوات الإلكترونية، لتفقد المعارضة تقدمها لصالح الموالين للكرملين، بينما جرى حجب تطبيق "التصويت الذكي".

- رصد المرشح الخاسر في انتخابات مجلس الدوما أليكسي كرابوخين تغيرا مفاجئا في نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت خلال الفترة بين 17 و19 سبتمبر/ أيلول الماضي، عقب إضافة نتائج التصويت الإلكتروني التي قلبت موازين القوى لصالح مرشحي السلطة في عدد من دوائر العاصمة الروسية.

ويشكك مسؤول البحوث بوكالة "داتا إنسايت" الروسية المتخصصة في البيانات والتجارة الإلكترونية بوريس أوفتشينيكوف هو الآخر في دقة نتائج التصويت الإلكتروني بعد رصد تزايد حاد لأعداد المصوتين لصالح السلطة، حصل ليلاً في آخر أيام التصويت (من حوالي 33 في المائة إلى 50 في المائة)، بينما يعتبر رئيس مركز الدراسات السياسية (مؤسسة استشارات) في موسكو بوريس ماكارينكو أنه لا مفر من توسيع الاعتماد على التصويت الإلكتروني مستقبلا لمجاراة التقدم التكنولوجي، داعيا إلى الالتزام بإجراءات التصويت السليمة لعدم توسيع الفجوة بين السلطة والشعب.

ومنذ عام 2003، توجد أربعة أحزاب "نظامية" في البرلمان الروسي، هي روسيا الموحدة والحزب الشيوعي والحزب الليبرالي الديمقراطي وروسيا العادلة، في ظل غياب تمثيل المعارضة "غير النظامية"، بما فيها حزب "يابلوكو" (تفاحة) الليبرالي، والذي ترشح كرابوخين عنه في الدائرة 210 بموسكو، غير أن حزبه بعدما حصل بعض مرشحيه على نتائج مبشرة، لم ينل أي مقاعد بالتشكيلة الجديدة للبرلمان، الذي جدد روسيا الموحدة هيمنته عليه.

تغيير مفاجئ

اطلع معد التحقيق على خريطتي نتائج التصويت بموسكو، واللتين نشرهما المعارض الروسي إيليا ياشين، في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي قبل إضافة الأصوات الإلكترونية وبعدها.

وتظهر الخريطة الأولى فوز مرشحي "التصويت الذكي" باللون الأخضر، قبل أن تتحول جميع الدوائر إلى اللون الأزرق، الذي يعني فوز المرشحين المدعومين من السلطة بعد فرز الأصوات الإلكترونية، وهو ما يطابق ما كشفت عنه البيانات الأولية التي أوردتها لجنة الانتخابات المركزية الروسية بحلول صباح 20 سبتمبر الماضي، إذ أعلنت عن تقدم لعدد من المرشحين المدعومين من المعارضة بالدوائر الفردية في موسكو (نصف الدوائر فردية والباقية قائمة نسبية)، ولكن فرز الأصوات الإلكترونية أسفر عن تفوق كبير لمرشحي "قائمة سوبيانين"، أي المدعومين من عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، المعروف بولائه للكرملين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبذلك خسر ثمانية من أصل 15 من مرشحي سوبيانين بواسطة التصويت الورقي في اللجان الانتخابية، ولكنهم فازوا بعد إضافة الأصوات الإلكترونية، وفق ما رصده معد التحقيق عبر بيانات لجنة الانتخابات المركزية.

ارتفاع هائل في التصويت الإلكتروني الليلي بموسكو في 18 سبتمبر

يعلق كرابوخين على ما سبق قائلا في إفادته لـ"العربي الجديد": "كانت النتائج الأولية تشير إلى فوز مرشحنا سيرغي ميتروخين، بالدائرة رقم 208 في موسكو، بالإضافة إلى تقدم مرشحي تطبيق (التصويت الذكي)، ولكن إضافة نتائج التصويت الإلكتروني أسفرت عن تقدم مرشحي روسيا الموحدة، أو المستقلين المدعومين من السلطة".

ويقوم "التصويت الذكي" على آلية استحدثها المعارض المعتقل، مؤسس "صندوق مكافحة الفساد" أليكسي نافالني، لدعم المرشح الذي يأتي في المرتبة الثانية ويعد الأكثر قدرة على إلحاق هزيمة بمرشح روسيا الموحدة في كل دائرة انتخابية، ويصب في أغلب الأحيان لصالح الحزب الشيوعي، كونه يأتي في المرتبة الثانية من جهة نسبة التأييد، وفق استطلاعات الرأي، إلا أن شركتي غوغل وآبل حذفتا تطبيق نافالني من متجريهما تحت ضغوط السلطات الروسية، التي قالت إن جميع الشركات الضالعة في وضع هذا المشروع مرتبطة بشكل أو بآخر بوزارة الدفاع الأميركية، كما أن معظم عناوين بروتوكولات الإنترنت والخوادم التي تدعم تطبيق "التصويت الذكي" على الهواتف النقالة توجد في الولايات المتحدة.

لكن كرابوخين شكك في نزاهة التصويت الإلكتروني، مضيفاً: "هناك شبهات تشير إلى أنه تم تزوير النتائج، إذ تم رصد حالات لأصوات إلكترونية وهمية، كما استمعت إلى شكوى من موظفة حكومية أكدت لي أنه تم إجبارها مع زملائها على التصويت إلكترونيا. إلا أن ممثلا عن "روسيا الموحدة" زعم في حديث معي أن الناخبين الموالين اختاروا التصويت الإلكتروني، ولذلك تغيرت النتائج".

الصورة
انفو روسيا2

وحول تأثير اعتماد التصويت الإلكتروني على الحياة السياسية الروسية، يتابع: "جرت بروفة اعتماد التصويت الإلكتروني أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 1 يوليو/ تموز من العام الماضي، وفي هذه السنة، تم اعتماده على نطاق واسع بعدد من الأقاليم، بما فيها موسكو، ومن المنتظر أن يتم توسيعه ليشمل كافة أنحاء البلاد مستقبلا".

قفزة في التصويت الليلي

يقول أوفتشينيكوف، في حديث لـ"العربي الجديد": "تقييم نتائج التصويت الإلكتروني مسألة صعبة ومعقدة. أعتقد أن الفارق بين نتائج التصويتين التقليدي والإلكتروني قد تكون ناجمة عن أسباب طبيعية، مثل عزوف أنصار المعارضة عن التصويت إلكترونيا، مع إجبار قسم من الناخبين على التصويت إلكترونيا، ليقرروا منح أصواتهم لصالح مرشحي السلطة خوفا على الخصوصية ومن تسرب البيانات عمن صوتوا لهم".

ومع ذلك، يلفت إلى مجموعة من المؤشرات قد تدل على تزوير نتائج التصويت الإلكتروني، مضيفا: "تظهر جداول التصويت أن هناك زيادة هائلة في أعداد المصوتين بدءا من الساعة الثانية بعد منتصف ليل الأحد، 19 سبتمبر/ أيلول الماضي.

وأظهر تفكيك بلوك تشين (وهي كتل متتالية مشفرة بشكل متسلسل)، أن عدد أصوات مرشحي السلطة ارتفع خلال هذه الفترة الزمنية من الثلث إلى نحو النصف بجميع الدوائر، وهذا أمر مثير للدهشة، لأن الجمهور الذي يسهر ليلا يختلف كثيرا عن هؤلاء الذين يصوتون في الصباح (فئات عمرية واجتماعية مختلفة). صحيح أن ذلك ليس دليلا قاطعا على حصول تزوير من وجهة النظر القانونية، ولكن هذا بديهي من وجهة نظر معالجة البيانات".

من جهته، يدعو الصحافي بإذاعة "إيخو موسكفي" (صدى موسكو)، ذات التوجهات الليبرالية المعارضة، أليكسي بليوشيف، إلى عدم الدخول في نقاشات حول التصويت الإلكتروني لعدم إضفاء الشرعية عليه.

ويقول بليوشيف، في تعليق لـ"العربي الجديد": "من وجهة نظري، فإن النقاشات حول ما إذا كان التصويت الإلكتروني مزورا أم لا غير مجدية. إذا كنتم تتجادلون حوله، فأنتم تعترفون بشرعيته، ويتم الجر إلى ذلك بنجاح. مبدأ التصويت الإلكتروني في حد ذاته لا يضمن أن المصوت هو نفسه الشخص الذي يضغط على الزر، ولا يؤكد أنه إنسان إساساً، وأنه يفعل ذلك بإرادته لا تحت إشراف أحد، وهكذا. ولذلك هذا النوع من التصويت ليس له حق في الوجود".

78 ألف صوت زائد

رصدت حركة "غولوس" (الصوت)، غير المسجلة رسميا في روسيا والمعنية بالمراقبة المجتمعية على الانتخابات، مجموعة من الانتهاكات في التصويت الإلكتروني بموسكو، وأبرزها تفوق عدد الأصوات التي تم الإدلاء بها على عدد الاستمارات الإلكترونية بمقدار 78 ألفا.

137 شكوى من 45 إقليماً روسياً تتعلق بالإرغام على التصويت 

ونشر الرئيس المشارك للحركة رومان أودوت، على صفحته على "فيسبوك"، بعد يوم من الانتخابات، جدولا يظهر الفارق بين عدد الاستمارات التي تم إصدارها (باللون الأحمر) وتلك التي تم قبولها (باللون الأزرق)، قائلا: "من الواضح أنه بحلول نهاية التصويت عبر الاستمارات الإلكترونية في موسكو، أصبح عدد المصوتين يتفوق على عدد الاستمارات الصادرة بفارق بلغ 78 ألفا بحلول نهاية التصويت".

الصورة
انفو روسيا1

ويتم اعتبار جميع الاستمارات باطلة في حال وجود استمارة واحدة زائدة في صندوق الاقتراع عن العدد الذي تم إصداره قانونيا، بحسب أودوت، والذي تابع بسخرية: "وماذا إذا كان عددها 78 ألفا؟".

ويشرح أودوت ما جرى، قائلا في حديث لـ"العربي الجديد": "رصد المراقبون خلال الساعة الأولى من التصويت أنه تم تسليم 20 ألف استمارة، بينما تم احتساب نحو 100 ألف صوت إلكتروني. وبعد التزامها الصمت لنحو ساعتين ونصف الساعة، زعمت لجنة الانتخابات المركزية أن موقع التصويت تعرض لهجوم دي دوس (حجب الخدمة)، ولكن مثل هذا الهجوم كان سيعطل عمل الموقع بالكامل، وهذا لم يحدث".

ومن بين انتهاكات محتملة أخرى رصدتها الحركة، يذكر أودوت أيضا ارتفاعاً هائلاً في التصويت الليلي في 18 سبتمبر/ أيلول الماضي، معتبرا أنه من الواضح أن ذلك لم يكن "تصويتا بشريا"، مشيرا إلى أن التصويت الإلكتروني هو الوسيلة التي ستعتمدها السلطة لـ"رسم" أي نتائج تريدها في الانتخابات المقبلة.

بالمثل يعتبر أوفتشينيكوف أنه يجب في مثل هذه الحالة إلغاء جميع النتائج وليس الإلكترونية فقط، ويقول: "من وجهة النظر الديمقراطية، ليس من الصواب إلغاء نتائج التصويت الإلكتروني وحده، بل يجب إلغاء النتائج بكاملها، ولكن من المستبعد أن تقدم السلطات الروسية على ذلك لاعتبارات سياسية".

وتلقت لجنة الانتخابات المركزية 137 شكوى من 45 إقليماً روسياً تتعلق بالإرغام على التصويت، بما فيها 32 حالة إرغام على التصويت إلكترونيا عبر بوابة "غوس أوسلوغي" للخدمات الحكومية، بحسب ما أعلنت عنه رئيسة لجنة الانتخابات المركزية إيلا بامفيلوفا، لكن ماكارينكو يستبعد أن تشهد موسكو احتجاجات حاشدة على نتائج الانتخابات، مثل ما جرى في عامي 2011 و2012، والتي تعرف إعلاميا بـ"تظاهرات ساحة بولوتنايا"، رفضا لعودة بوتين إلى الرئاسة بعد شغله منصب رئيس الوزراء لمدة أربع سنوات.

ويضيف في السياق ذاته: "لا أتوقع خروج تظاهرات حاشدة، ولكن توجد حالة من الغضب بين قطاع عريض من السكان، كما أن الفجوة بين السلطة والسكان من أصحاب التوجهات المعارضة ازدادت".

فجوة بين المواطنين والسلطة

حصل حزب روسيا الموحدة على 324 من أصل 450 مقعدا بالدوما، 198 منها في الدوائر الفردية، بفارق هائل عن نتائج القائمة النسبية التي حصل بها على 49.82 في المائة من الأصوات، أو 126 من أصل 250 مقعدا، بحسب بيانات لجنة الانتخابات المركزية.

ويعتبر ماكارينكو أنه لا مفر من توسّع نطاق اعتماد التصويت الإلكتروني في الحياة السياسية، داعيا إلى وضع آلية واضحة لمراقبة نزاهته، تجنبا لتوسع الفجوة بين السلطة والروس من أصحاب التوجهات المعارضة.

الصورة
انفو روسيا 3

ويقول ماكارينكو، في حديث لـ"العربي الجديد": "أثّر التصويت الإلكتروني على النتائج بجميع الدوائر في موسكو، وحتى أدى إلى تغيير الفائزين بثمان منها. من الواضح أن المستقبل سيكون للتصويت الإلكتروني، ولكن مخالفة الإجراءات تؤدي إلى الشكوك في نزاهة الانتخابات واستياء الخاسرين".

و"انتشرت روايات وقوع التزوير هذه المرة بعد التأخر في إعلان النتائج لمدة 16 ساعة كاملة". كما يوضح ماكارينكو، مضيفا :"شكا المراقبون من تعذّر مراقبة عملية فرز الأصوات الإلكترونية بعد تكوين مفتاح الشفرة (بيانات سرية مستخدمة لتشفير الرسائل). ولهذه الأسباب، هناك دول مثل ألمانيا وهولندا تمتنع عن اعتماد التصويت الإلكتروني".