- الانتحال يشمل صفات رجال الأمن ومسؤولين في القضاء والإدارات العمومية، مع تحليل يربط بين اختيار هذه الصفات والطلب المرتفع على هذه المهن، وتشير الدراسات إلى ثقة الشباب المغربي الكبيرة في مؤسسات الجيش والأمن.
- المحتالون يستخدمون أساليب متنوعة لإقناع ضحاياهم بما في ذلك خلق شخصيات وهمية واستخدام شبكات الأصدقاء ومنصات التواصل الاجتماعي، مع تحذيرات من استخدام الصفات المنتحلة في أعمال غير شرعية كتهريب المخدرات، ويعاقب القانون المغربي على انتحال الصفة بالحبس والغرامة.
يقع مغاربة ضحايا لمحتالين يدعون عملهم في الشرطة والقضاء والمؤسسات العمومية، ويستغلون آمال كثر في نيل عمل أو حل مشكلة، لكن الأمر لا يقتصر على المواطنين، إذ يقع مسؤولون كذلك في شراك النصابين الذين ينسجونها بإحكام.
-بحث العشريني المغربي عز الدين برزاز والذي يقطن في مدينة سلا غرب البلاد طويلا عن طريقة لنيل وظيفة في سلك الشرطة منذ حصوله على شهادته الثانوية عام 2020، محاولا الوصول إلى وساطة تسهل أمره، وعبر سؤال معارفه أرشدوه إلى شخص وصفوه بأنه "نافذ وأفلح في توظيف شبان متعددين"، وبالفعل التقاه برزاز عدة مرات قدم خلالها نفسه بأنه موظف سابق في وزارة العدل ويمتلك شبكة علاقات جيدة في جهاز الأمن، كما أظهر له بطاقات أشخاص زعم أنه توسط لتوظيفهم.
وبعد عدة لقاءات ومساومات "اتفقنا على توسطه لتعييني مقابل 50 ألف درهم (5 آلاف دولار)، ودفعت 20 ألفًا منها (ألفي دولار) مقدمًا، لكن مرت شهور قبل تهربه مني تدريجيًا وسرعان ما غيّر رقم هاتفه واختفى، لأكتشف أني وقعت ضحية لمنتحل صفة"، كما روي برزاز لـ"العربي الجديد"، مستدركا: "المحتال ضُبط لاحقًا وحكم عليه بالسجن 18 شهرا بحسب قرار الحكم الصادر عن محكمة سلا الابتدائية رقم 16/م س/ 2020"، والذي أطلع برزاز معدّ التحقيق عليه.
ويدخل ما وقع للضحية السابقة ضمن ما يعرفه القانون باحتيال عبر ادعاء صفة حكومية، إذ رصد معد التحقيق 24 بلاغًا أمنيًا رسميًا نشرتها الصفحات الرسمية لمديرية الأمن الوطني على مواقع التواصل المختلفة، تفيد باعتقال 64 متهما بانتحال صفة موظفين حكوميين منذ مطلع عام 2023 وحتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويتوزعون على 10 مدن، هي الرباط وسلا والدار البيضاء والرشيدية وطنجة وتطوان وفاس ووادي زم ومكناس ومراكش.
صفة رجل الأمن الأكثر استخداماً
يكشف تحليل البلاغات التي رصدها معد التحقيق وتجارب الضحايا الخمسة الذين التقاهم أن صفة رجل الأمن تعد الأكثر انتحالا، تليها صفة مسؤول في قطاع القضاء ثم صفة مسؤول في إدارة عمومية.
64 موقوفاً بتهمة انتحال صفة موظفي جهات حكومية خلال عام 2023
وتعزو الباحثة وأستاذة علم الاجتماع بجامعة الرباط ابتسام العوفير اختيار هذا الأسلوب إلى ارتفاع الطلب على هذه المهنة في سوق العمل وانجذاب الشباب المغربي إلى ممارسة مهنة الشرطة. ويتطابق رأيها مع نتائج دراسة بعنوان "مؤشر ثقة الشباب في المؤسسات لعام 2022"، أصدرها في يونيو/حزيران 2023 مرصد الشمال لحقوق الإنسان (منظمة حقوقية غير حكومية)، ووجدت الدراسة أن مؤسسات الجيش والأمن والدرك والقضاء تحظى بثقة كبيرة لدى الشباب المغاربة، إذ أبدى 75% من المشمولين في عينة الدراسة ثقتهم في مؤسسة الجيش وأبدى 72% منهم ثقتهم في مؤسسة الأمن الوطني. ويوضح مصدر أمني في وحدة محاربة جرائم النصب والاحتيال التابعة للشرطة القضائية في مديرية الأمن الوطني، طلب عدم ذكر اسمه كونه غير مخول بالتصريح لوسائل الإعلام، بأن الحصيلة السنوية للجرائم المرصودة لا تتضمن جميع جرائم انتحال الصفة، لأنها هذا النوع يدخل ضمن سياق ما يسمى "جرائم الظل"، إذ قد لا يبلغ الضحايا، ولا يقدمون شكاوى إلى الجهات الأمنية المختصة، إما خشية الوصم الاجتماعي أو نتيجة للمصالحة التي قد يعقدها أطراف القضية حتى لا تصل للأمن والقضاء، ويقدر المتحدث ذاته بأن ما يضبط من جرائم الظل تصل نسبته إلى 20 %.
وبالفعل كان عدم الإبلاغ، خيار الأربعيني إبراهيم أوترغيت، والذي يملك محلًا للبقالة بمدينة تمارة جنوبي الرباط، مبررا عدم لجوئه إلى الشرطة فور اكتشافه دفع 10 آلاف درهم (ألف دولار) إلى محتال ادعى أنه يعمل في إدارة الضرائب التجارية وأقنعه بقدرته على تجنيبه تأدية جبايات سنوية بمبالغ كبيرة، بـ "خشيته من القيل والقال"، ويبين أوترغيت لـ"العربي الجديد" أن المحتال كان يحضر إلى مكان عمله في الشهور الأولى من عام 2023 برفقة آخر يحمل ملفات شكلها يبدو مثل من ملفات المديرية العامة للضرائب وقدم نفسه عبر بطاقة تعريفية مهنية لاحقًا أدرك أوترغيت أنها كنت مزورة، قائلا: "دفعت المبلغ مقابل وصل اكتشفت أنه مزور وبعدها عرفت أنه محتال وأن اسمي لازال ضمن لائحة التجار المطالبين بسداد الجبايات".
كيف ينجح المحتالون في خداع الضحايا؟
نجح الثلاثيني حميد، والذي اكتفى بذكر اسمه الأول لأنه سبق وأن سجن بعد إدانته بانتحال صفة موظف في وزارة المالية والاقتصاد، بالاحتيال على 10 شبّان في 4 مدن مختلفة خلال عام واحد، زاعما قدرته على التوسط لإلحاقهم بوظائف عمومية، وجمع من الضحايا ما يزيد على 200 ألف درهم (20000 دولار) قبل القبض عليه. ويكشف حميد لـ"العربي الجديد" النهج الذي يتبعه هو وغيره من منتحلي الصفة، إذ يعمدون إلى خلق شخصية جديدة تمامًا يستخدمونها في النصب وإقناع الضحايا، كما ينتقلون إلى أحياء بعيدة عن سكنهم حتى لا يتعرف إليهم أحد، مؤكدا أن المنتحل لا ينجح وحده، إذ يتحدث حميد عن شبكة الأصدقاء التي يعمد المحتال على إحاطة نفسه بها ويكونون شركاء له، ويبدأ أعضاء هذه الشبكة بنشر الشائعات بين دوائرهم وبشكل مكثف حول علاقات المنتحل القوية وقدراته على التوسط في خدمات عمومية صعبة كالتوظيف في سلك الشرطة أو التدخل لدى المحاكم أو إنهاء معاملات إدارية، ولا ينجح الأمر دون إحاطة المنتحل نفسه بمظاهر الثراء الملازمة لهذه المكانة الاعتبارية، وفي النهاية وفقًا لحميد تأتي مرحلة لقاء المنتحل بضحيته، تجمعهما جلسة منفردة يبذل خلالها جهده لإقناع الضحية بقدرته على إنهاء الخدمة مقابل مبلغ مالي يتم الاتفاق عليه.
ولا يوفر النصابون وسيلة للوصول إلى ضحاياهم، إذ ينشطون على منصات التواصل الاجتماعي خاصة فيسبوك، لاصطياد الشباب الباحثين عن وظائف أو لديهم مشاكل أو قضايا منظورة أمام المحاكم، ويعرضون عليهم خدماتهم المزعومة من حسابات وهمية وهو ما حدث مع رشيدة أعمى، التي كتبت في يونيو الماضي على صفحتها في موقع فيسبوك تفاصيل حول دعوى رفعتها وتخص ملكية عقار تنظرها محكمة فاس وسط المغرب، بعد ذلك تواصلت معها سيدة انتحلت صفة محامية وحاولت إقناعها بقدرتها على مساعدتها في المحكمة ونيلها لحقوقها، "ولحسن الحظ، أدركت أنني كنت أتعرض للاحتيال مبكرًا بعدما علمت سوابق السيدة القضائية وقطعت علاقتي نهائيا بها"، تقول رشيدة.
استهداف البسطاء وكذلك المسؤولين
يعد التوظيف من أبرز الخدمات المزعومة التي توقع الضحايا في شراك المنتحلين، خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة إلى 13.5% في الربع الثالث من عام 2023 مقابل 11.4% خلال الفترة نفسها من عام 2022، وفق تقرير المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة حكومية) المنشور في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. واستنادا إلى بلاغات الشرطة التي رصدها معد التحقيق، فإن المحتالين كانوا يقنعون ضحاياهم بقدرتهم على تدبير وظيفة لهم.
و"يوهم المحتالون البسطاء بقدرتهم على تقديم خدمات عمومية عدّة أو يزعمون أنهم مراقبون يتبعون مؤسسات حكومية"، ويتضح ذلك عبر تحذير مؤسسة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (عامة) في فبراير/شباط عام 2023 من شخصين انتحلا صفة مراقبين في الصندوق واحتالا على 6 من أرباب العمل. وبحسب تصريح مسؤول في المؤسسة لـ"العربي الجديد"، طلب عدم نشر هويته لأنه غير مخول بالحديث إلى وسائل الإعلام، فإن الشخصين قدما لأصحاب الشركات بطاقات مهنية مزيفة وحصّلا مبالغ تراوح بين 5 و10 آلاف درهم (بين 498 و996 دولاراً)، من كل منهم مقابل التغاضي عن مخالفات عدم إشراك العاملين لديهم في التأمين الصحي.
كما يستهدف المنتحلون المسؤولين أيضا، ففي 26 يونيو الماضي قضت المحكمة الابتدائية بالرباط بسجن محتال 5 أشهر، انتحل صفة مسؤول مكلف بمهمة التشريفات والأوسمة الملكية بالديوان الملكي، كان من ضحاياه وزراء ونواب برلمانيون طلب منهم مساعدة مالية لمريض مفترض يسعى إلى إجراء عملية جراحية طارئة ومعقدة. وبحسب توضيح أحد البرلمانيين المنتمين إلى الأغلبية الحكومية والذي تحدث لـ"العربي الجديد"، وطلب عدم الكشف عن هويته لحساسية منصبه، فإن "النصاب انتحل صفة مسؤول في وزارة التشريفات والأوسمة، عبر الحديث معه في البداية عبر الهاتف، وبعد ذلك، قدم المنتحل له بطاقته المهنية التي اكتشف لاحقا أنها كانت مزورة، وأظهر نفسه كفاعل خير يقوم بجمع الأموال لإجراء عملية جراحية مكلفة لمريض، مزودا النائب بصوره ووثائقه الطبية، ليقدم له مبلغ 20 ألف درهم (2000 دولار)، قبل أن يتناهى إلى سمعه أن نفس القصة تكررت مع نواب آخرين، ليتم عمل كمين له واعتقاله، وقضت المحكمة الابتدائية بالرباط في 26 يونيو/حزيران الماضي بحبسه 5 أشهر سجنا، نظرا لأنه أعاد الأموال للضحايا، وأيضا لعدم وجود سوابق قضائية له"، وفق ما أوضح النائب.
ويحدد الفرع السابع من قانون العقوبات (مجموعة القانون الجنائي) المعدل بتاريخ 14يونيو/حزيران 2021 عقوبات مرتكبي جريمة انتحال الوظائف أو الألقاب، إذ تنص المادة 381 على الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وغرامة من 120 إلى 25 ألف درهم (من 12 إلى 2492 دولاراً)، أو بإحدى العقوبتين كل من استعمل أو ادعى لقباً متعلقاً بمهنة نظمها القانون، أو صفة حددت السلطة العامة ظروف اكتسابها دون أن يستوفي الشروط اللازمة لحمل ذلك اللقب. وتقضي المادة 382 من القانون نفسه بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وغرامة من 120 إلى 1000 درهم (بين 12 و100 دولار)، أو بإحدى العقوبتين كل من ارتدى علناً زياً نظامياً أو بذلة مميزة لإحدى الوظائف أو شارة رسمية وطنية أو أجنبية.
ما هي دوافع المنتحلين؟
لا يمكن حصر دوافع منتحلي الصفة في النهب فقط دون التطرق إلى الأسباب الاجتماعية والعاطفية والنفسية، كما يفسر الأمر إدريس الصالحي أستاذ علم النفس بجامعة الدار البيضاء، قائلا: "بعض المنتحلين يسعون إلى نيل مكانة أكبر"، كما لا يقتصر الخطر على نهب أموال الضحايا، بحسب إفادة المفتش الأمني السابق عماد بيضان والذي أشار في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أهداف أخطر منها التستر والتهرب من مراقبة السلطات الأمنية وتسهيل أعمال غير شرعية مثل نقل المخدرات.
صفة رجل الأمن الأكثر استخداماً من قبل المحتالين لخداع ضحاياهم
ويدلل بيضان على ذلك باعتقال شرطة إقليم تاونات في فبراير/شباط الماضي 3 أشخاص كانوا يهربون المخدرات داخل سيارتين وضعوا عليهما إشارة تحيل إلى مؤسسة صحافية، الأمر نفسه تكرر في يونيو المنصرم حينما اعتقل الدرك الوطني في ضواحي أغادير جنوب المغرب شخصا انتحل صفة صحافي كان متلبسًا بنقل مخدرات في سيارته التي وضع عليها إشارة الصحافة كذلك.