الإخفاء القسري في باكستان... فشل حكومي يرسخ الإفلات من العقاب

06 فبراير 2023
لجنة حكومية فشلت في حل مشكلة الإخفاء القسري (Getty)
+ الخط -

تستهدف ظاهرة الإخفاء القسري في باكستان الصحافيين والأساتذة الجامعيين والطلاب والناشطين الحقوقيين، منذ عام 1971، وتفاقمت بعد الانخراط في الحرب على الإرهاب، في ظل الهيمنة العسكرية على الحكم وفشل حكومي في حل الظاهرة.

- تُواصل عائلة الباكستاني فلك ناز خان، البحث عنه منذ اعتقاله في 16 سبتمبر/أيلول 2009 من قبل الشرطة الباكستانية بالقرب من منزله في منطقة بره بانده بوادي سوات (شمال غربيّ باكستان)، بتهمة ارتباطه بحركة طالبان باكستان. 

وفي 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2009، تلقت العائلة خبراً من الشرطة التي احتجزت فلك لمدة 19 يوماً بأنها سلمته لفيلق بيشاور (شمال غرب) العسكري، وفق رواية شقيقته غول، التي قالت لـ"العربي الجديد":" ذهب أبي المسن إلى كل مراكز الجيش في المنطقة، للبحث عنه دون أن يجد له أثراً". لاحقاً، توجه والد فلك إلى محكمة بيشاور، ثم المحكمة العليا، ليعرف مكان احتجازه، دون فائدة أيضاً، حسب قول غول، مضيفة: "أخي ليس له أي انتماءات، وكل همّه الحصول على الرزق من خلال عمله الصباحي معلماً في مدرسة ننغلي الخاصة، ومواصلة دراسته مساءً في معهد سوات للعلوم والتقنية، الحكومي في مدينة مينغورا في وادي سوات". 

ويكون "الضحايا في أغلب الأحيان من الفئات المهمشة في المجتمع، وبمجرد اختفائهم قسراً يكونون عرضة لخطر التعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء"، وفق توثيق منظمة هيومن رايتس ووتش، المنشور على موقعها الإلكتروني في 22 يونيو/حزيران 2022، بعنوان "محكمة باكستانية تحمّل الدولة مسؤولية الإخفاء القسري".

8463 حالة اختفاء قسري

بعد عجز عائلة فلك عن العثور عليه، سجلت حادثة اختفائه لدى لجنة التحقيق في حالات الإخفاء القسري (شكلتها الحكومة الباكستانية في 13 مارس/ آذار 2011 لمعالجة قضايا المختفين قسراً)، التي وعدتهم بالإفراج عنه عدة مرات، لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، كما تقول غول، مضيفة: "إذا كان أخي مذنباً، يجب مثوله أمام المحكمة، وإذا قُتل في السجن فليخبرونا بذلك، بدلاً من البحث عنه". 

وتلقت لجنة التحقيق في الإخفاء القسري منذ تشكيلها حتى منتصف العام الجاري 8463 شكوى تتعلق بحالات الإخفاء القسري، وفق رصد منظمة هيومن رايتس ووتش المنشور في 22 يونيو 2022، وتتبعت "اللجنة ثلث الحالات المسجلة لديها، لكنها لم تبذل أي محاولة لمحاسبة المسؤولين عن عدم امتثالهم لأوامر تقديم الأشخاص المحتجزين بشكل غير قانوني"، وتشير إلى أن "اللجنة أخفقت في تحقيق العدالة للضحايا".

8463 حالة إخفاء قسري موثقة في باكستان

وتتفق الناشطة الحقوقية آمنة جنجوعة، التي أسست منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان بعد اختفاء زوجها مسعود جنجوعة في 30 يوليو/ تموز 2005 خلال مروره على طريق بين مدينتي بيشاور ورالبندي (شمال شرق)، مع ما وصلت إليه هيومان رايتس ووتش، وتقول لـ"العربي الجديد": "لجنة التحقيق في حالات الإخفاء القسري لم تتمكن من القيام بمعالجة قضايا ضحايا الإخفاء القسري، وزوجي منهم"، وتردف: "صارت لجنة التحقيق عبئاً على ذوي المختفين قسراً، إذ كلما تقدموا بدعاوى للمحاكم، يقال لهم اذهبوا إلى اللجنة وقدموا شكواكم، رغم أنها لم تٌنصف الضحايا، كما يقول أهالي المختفين".

مراحل تطور الظاهرة

بدأت ظاهرة الإخفاء القسري في باكستان في عام 1971 عندما أطلقت حكومة ذو الفقار على بوتو (من عام 1971 إلى 1977) حملة أمنية ضد قبائل مري (من القبائل البلوشية التي تعيش في شمال شرق إقليم بلوشستان)، وخطفت كل من كان يقف في وجهها، لكنها تفاقمت بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، وتحديداً في عام 2001 إبان عهد حكومة الجنرال برويز مشرف (من 1999 حتى 2008)، كما يقول الزعيم القبلي في بلوشستان (غربيّ باكستان) محمد رمضان لـ"العربي الجديد"، وتصاعدت الظاهرة في عام 2006 بعد مقتل الزعيم البلوشي نواب أكبر بكتي (قتل في عملية عسكرية في بلوشستان في 29 أغسطس/ أب 2006)، حسب تأكيد تانية فيروز، المحامية الحقوقية التي تعمل في محكمة إسلام أباد.

ما سبق يتطابق مع تقرير "ترسيخ الإفلات من العقاب والحرمان من الانصاف: لجنة التحقيق في حالات الإخفاء القسري" الصادر في الثامن من سبتمبر 2020 عن لجنة الحقوقيين الدولية (منظمة غير حكومية)، والذي أوضح أن "ظاهرة الإخفاء القسري موجودة في باكستان منذ السبعينيات من القرن الماضي، لكن تصاعدت مع بداية تورط باكستان في الحرب على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في عام 2001، إذ اتهم مئات الأشخاص بارتكاب أعمال إرهابية، وبالتالي بدأت الظاهرة تنتشر، وخاصة في إقليم خيبر بختونخوا، (شمال غرب)، وبأعداد كبيرة في إقليم بلوشستان، حيث يُخفى النشطاء السياسيون والأشخاص الذين يعتبرون متعاطفين مع الانفصاليين أو القوميين".

تفاقمت الظاهرة مع انخراط باكستان في الحرب على الإرهاب

وخلال الفترة من عام 2011 وحتى نهاية عام 2021، بلغ عدد المخفيين قسراً من عرقية البلوش في إقليم بلوشستان، 5 آلاف شخص، كما تقول الناشطة الحقوقية، سمرين بلوش، التي تعمل من أجل الدفاع عن حقوق المختفين قسراً من عرقية البلوش، مضيفة لـ"العربي الجديد": "الظاهرة ستظل مستمرة طالما لا يوجد قانون يعاقب المسؤولين عن الإخفاء القسري".

الصورة
إفلات من العقاب

 

من يتحمل المسؤولية؟

تمددت ظاهرة الإخفاء القسري عقب عام 2011 إلى مدن باكستان كافى، بعدما كانت مقتصرة على مناطق العرقية البلوشية (جنوب غرب)، ومناطق العرقية البشتونية (شمال غرب)، كما تقول الناشطة جنجوعة، مضيفة أن الإخفاء القسري طاول الصحافيين والأساتذة الجامعيين، وطلاب الجامعات، ورواد منصات التواصل الاجتماعي والتجار، والناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومنهم المدافع عن حقوق الإنسان والناشط في المجتمع المدني، إدريس ختك، الذي اختطفه رجال الأمن في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وتعرض للاختفاء القسري والتعذيب لمدة سبعة أشهر.

و"في 16 يونيو/ حزيران 2020 أقرت السلطات بأنه محتجز، من دون الكشف عن مكان احتجازه"، وفق ما نشره موقع الأمم المتحدة في 15 ديسمبر/كانون الأول 2021، بعنوان "باكستان: خبراء أمميون يدينون الحكم بالسجن على مدافع حقوقي من الأقليات ويدعون إلى الإفراج عنه"، لكن "محكمة عسكرية وجهت له تهمة التجسس وأنواعاً أخرى من الاتهامات التي تضر بأمن الدولة أو مصالحها، بما في ذلك الكشف المزعوم عن معلومات تتعلق بالعمليات العسكرية في عام 2009 في المنطقة، وبناءً عليه صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 14 سنة".

وتُحمّل المحامية في محكمة اسلام آباد إيمان زينب، المؤسسة العسكرية مسؤولية الإخفاء القسري، وتقول لـ"العربي الجديد": "المؤسسة العسكرية والاستخبارات هي التي تقوم بأعمال الإخفاء القسري"، وتضيف: "هذا الأمر أصبح شبه بديهي لدى كل الباكستانيين". وهو ما تؤكده الناشطة بلوش، قائلة: "خلال العقود الماضية تعاقبت على باكستان حكومات عسكرية وأخرى مدنية، لكن الحكومات العسكرية هي التي تشرف على عمليات الإخفاء القسري. أما الحكومات المدنية فليس لها سلطة كما هو حال المؤسسة العسكرية والاستخبارات".

يعزز هذه الفرضية، قضية زاهد أمين، الذي اعتقل في يوليو/ تموز 2014، بعد مداهمة عناصر من الاستخبارات العسكرية منزل العائلة في منطقة أدياله رود بمدينة راولبندي في إقليم بنجاب (شمال شرق)، كما يقول سلطان محمود، الأخ غير الشقيق لزاهد، مضيفاً لـ"العربي الجديد" أن عناصر الاستخبارات أخبروا العائلة حينها أنهم سيحققون مع زاهد ويطلقون سراحه، لكن "منذ ذلك الحين وهو مفقود".

وفي الثالث من مارس 2021، جاء شخصان من الاستخبارات إلى منزل عائلة زاهد، وأوهموهم بأنهم يريدون معلومات عنه، وبعد حصولهم عليها اعتقلوا شقيقه صادق، المختفي حتى الآن، بحسب محمود. 

ويدافع اللواء المتقاعد من القوات الخاصة الباكستانية، محمد نعيم ممتاز، عن الجيش بالقول: "المؤسسة العسكرية تدرك أضرار قضية الإخفاء القسري، لكنها تقع بسبب أن المحاكم الباكستانية يكثُر فيها الفساد والرشوة، إذ يمكن إطلاق سراح أي شخص ما دام ذووه يصرفون المال من أجل ذلك"، مضيفاً لـ"العربي الجديد": "الأجهزة الأمنية تقوم بذلك لإحلال الأمن، ومنع تدخل أجهزة الاستخبارات الناشطة في المنطقة في البلاد، من خلال دعمها للجماعات المسلحة التي تزعزع أمن باكستان".

محاولة لم تكتمل لمواجهة الظاهرة

يعترف خواجة آصف، وزير الدفاع الباكستاني، والقيادي في حزب الرابطة الإسلامية، بعدم إمكانية حل القضية بهذه البساطة، لأنها متجذرة، قائلاً أمام البرلمان بعد وصول حزبه إلى الحكم في إبريل/نيسان الماضي، إن "الإخفاء القسري مرتبط بالملف الأمني والحرب على الإرهاب".

وقدمت وزارة حقوق الإنسان الباكستانية في يناير/كانون الثاني 2019، مشروع قانون إلى وزارة القانون والعدل لتجريم الإخفاء القسري من خلال تعديل في قانون العقوبات الباكستاني، كما تقول فوزية أرشد، عضو في مجلس الشيوخ الباكستاني عن حزب حركة الإنصاف بزعامة عمران خان، مضيفة لـ"العربي الجديد" أن البرلمان الباكستاني أقر القانون في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وتتابع: "كان من المفترض عرض القانون أمام مجلس الشيوخ لإقراره، لكن الحكومة الحالية لم تفعل ذلك".

ولا يمكن احتواء هذه الظاهرة إلا بعد تفعيل القانون الذي يجرّم الإخفاء القسري ويأمر بمثول المتهمين أمام المحاكم، وينص على عقوبات تصل إلى السجن لمدة خمس سنوات وفرض مائة ألف روبية باكستانية (416 دولاراً أميركياً) كغرامة على أي شخص ثبت ضلوعه في أحداث الإخفاء القسري، مهما كان منصبه، حسب تأكيد أرشد.