عادت أعداد قليلة من أبناء المواطنين الروس الملتحقين بداعش إلى وطنهم، بينما يبحث الآلاف عن أمل ينتشلهم من الأوضاع المتردية في مخيمات شمال سورية، كما تحاول عائلاتهم دفع السلطات إلى إزالة عراقيل تبطئ لمّ شملهم.
-تواصل الداغستانية جنة إيريجيبوفا، طرق أبواب المؤسسات الحكومية الروسية أملا في الحصول على عون لإعادة ابنتها وأطفالها بعدما غادرت برفقة زوجها إلى العراق للالتحاق بتنظيم "داعش" الإرهابي، رغم مرور نحو خمس سنوات على آخر اتصال بين الأم والابنة.
وعلى عكس جنة حالف الحظ سيدة داغستانية أخرى تدعى زيمفيرا، فضلت عدم ذكر اسمها الكامل، إذ تشعر بارتياح كبير بعد عودة كنتها وأحفادها الثلاثة الذين غادروا برفقة ابنها للالتحاق بداعش، مطالبة بتكثيف جهود إعادة آلاف الأطفال من أبناء المواطنين الروس الملتحقين بداعش، وهو أمر تؤكد المخرجة الروسية، يفدوكيا موسكفينا، هي الأخرى ضرورته بعد زيارتين إلى مخيم روج الكردي شمال شرقي سورية، وإخراجها فيلما وثائقيا عن قاطنيه قبل نحو عامين.
وبحسب الأرقام الرسمية الروسية، فإن العمل المنهجي على إعادة القاصرين الروس، وينحدر أغلبهم من الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة في شمال القوقاز، والذي تنسقه حاليا المفوضة الرئاسية لحقوق الطفل، آنا كوزنيتسوفا، أسفر عن عودة 341 طفلا حتى الآن، بينما ينتظر 110 آخرون موافقة المخيمات على ترحيلهم بعد استكمال الأوراق المطلوبة، بالإضافة إلى آلاف آخرين لم تستخرج لهم الأوراق المطلوبة للعودة حتى الآن.
فقدان الاتصال
تروي إيريجيبوفا تجربة ابنتها المريرة في الالتحاق مع زوجها بـ"داعش"، قائلة في حديث لـ"العربي الجديد": "في عام 2015، ذهبت ابنتي التي كانت تعمل مدرسة للغة الإنكليزية، برفقة زوجها وطفليهما وكانت حاملاً في الطفل الثالث، إلى تركيا للاستجمام، ولكننا فقدنا الاتصال معهم إلى أن تبين أن زوجها أخذهم جميعا إلى العراق".
تضيف: "بعد فترة، تلقيت اتصالا من ابنتي، وكانت تبكي وتقول إنها لم تكن تعلم إلى أين سيأخذهم زوجها وأنها في العراق، وكانت تردد عبارة "الدولة الإسلامية"، ولم أكن أفهم ماذا تقصده. وبعد ثلاثة أشهر تلقينا خبر مقتل زوجها في واقعة إطلاق نار وتحويلهم إلى دار ما لإيواء الأرامل".
4500 طلب تقدم بها أجداد وجدات روس للبحث عن أحفادهم في سورية والعراق
وفيما يتعلق بالمعلومات الأخيرة التي تلقتها حول ابنتها، تتابع: "ابنتي وأحفادي الثلاثة مفقودون في العراق، والاتصال معهم مقطوع منذ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وشوهدوا لآخر مرة في مدينة تلعفر العراقية في أغسطس/آب 2017، وتردد أنهم حاولوا العبور إلى سورية، ولكن لم يتسن لهم ذلك".
وتصف جهودها للبحث عن ابنتها وأحفادها، قائلة: "تواصلت مع جميع السفارات العربية، وكنت أتمنى الذهاب إلى تلعفر بنفسي، ولكن الدولة الروسية لا تسمح لنا بذلك وتضع عراقيل، وهذا الوضع مستمر للعام السادس على التوالي، ربما نظرا للتعامل معنا كـ"آباء الإرهابيين" رغم أن ذلك لم يُقل لنا بشكل رسمي ومباشر. نستنجد بوزارتي الخارجية والعدل الروسيتين لمعرفة لماذا لا تتواصل عملية البحث. إذا كان مطلوباً دفع فدية، فاسمحوا للوالدين بدفعها قبل أن يُقتل أبناؤهم هناك وحتى يعودوا أحياء. صحيح أنهم أخطأوا، ولكنهم قد ندموا على ذلك، وقد دفعوا ثمنا غاليا".
تحقيق حلم العودة
لا تخلو قصص هروب المواطنين الروس إلى "داعش" من نهايات سعيدة، فبعد مرور نحو شهرين على عودة كنتها وأحفادها من سورية، تقول زيمفيرا في حديث لـ"العربي الجديد" من مدينة محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان جنوب روسيا: "يبلغ عمر حفيدي الأكبر تسع سنوات، والثاني سبع سنوات، وحفيدتي التي ولدت في سورية ثلاث سنوات ونصف السنة. غابوا عن بلدهم منذ عام 2014، ولم يعودوا سوى في 3 يوليو/تموز الماضي".
وتروي تفاصيل تجربة عودتهم إلى وطنهم مضيفة: "منذ عام 2019، كانوا محتجزين في جرابلس بين أيدي قوات سورية موالية لتركيا. توجهت إلى تركيا، وتواصلت مع السفارة الروسية، وتم إجراء اختبار الحمض النووي، وتمكنت عبر المحكمة في روسيا من استخراج شهادة الميلاد لحفيدتي المولودة في سورية واستعادة شهادتي ميلاد حفيدي وغيرهما من الوثائق، وتم ترحيلهم إلى موسكو عبر أنقرة".
سوء مستوى اللغة الروسية والصدمات النفسية العميقة تحديان أمام العائدين
ولا تعلم زيمفيرا شيئا عن مصير ابنها الذي فقدت الاتصال معه منذ نحو ثلاث سنوات، وتتابع: "لم نتلق أي اتصالات من ابني منذ عام 2018، حين أبلغني بأنه تمكن من مغادرة "داعش" إذ اكتشف أنه لم يكن في الجانب الصحيح، ويفترض أنه أسير لدى الأكراد".
وتدعو زيمفيرا الدولة الروسية لبذل المزيد من الجهود لإعادة مواطنيها القاصرين، قائلة: "يجب تكثيف الجهود على مستوى الدولة لإعادة الأطفال من الرعايا الروس. حالتي نادرة، ولا يزال هناك آلاف الأطفال والنساء بالمخيمات الكردية يحلمون بالعودة إلى وطنهم".
الأطفال المحظورون
عملت المخرجة موسكفينا في سورية على توثيق متاعب الحياة اليومية لأبناء الروس الملتحقين بداعش، عبر فيلمها "الأطفال المحظورون"، والذي تم عرضه في الأمم المتحدة، كما ساعدت أيضا في إعادة خمس فتيات إلى جمهورية الشيشان، وتروي تجربتها المهنية والشخصية، قائلة في حديث لـ"العربي الجديد": "كنت أصور فيلمي في سورية، ذهبت إلى مخيمات يقطنها أبناء المواطنين الروس، هؤلاء ليس لهم ذنب فيما حدث. وعند ذهابي إلى روج، بدأت بمتابعة قصة الفتيات الخمس، وتسنى إجلاؤهم".
وتدعو إلى ضرورة الإسراع في إجلاء الأطفال الآخرين قبل فوات الأوان، مضيفة: "مؤخرا سافرت إلى المخيمات مرة أخرى في إطار إعداد فيلم وثائقي آخر سيكون من إنتاج استوديو "غوركي" الروسي، ورصدت تدهورا لحالة الأطفال العالقين هناك، ازدادوا شراسة في ردود أفعالهم وتعاملاتهم الاجتماعية في ظل عدم تيقنهم متى ستتم إعادتهم إلى وطنهم".
تتابع: "يجب مساءلة النساء وإعادة تأهيل الأطفال وتعيين أولياء أمور لهم أو تسليمهم لأقربائهم. صحيح أن الأطفال العائدين كانوا في حالة نفسية صعبة للغاية بعد العودة، ولكنهم تعافوا في ظرف عام على عودتهم".
وفي غياب إحصاءات رسمية دقيقة، تشير موسكفينا إلى أن مخيمي الهول وروج يضمان 9 آلاف خيمة تقطنها نساء وأطفال بالإضافة إلى أعداد قليلة في دمشق، وتقول: "أبلغتني إدارة المخيمات بأن هناك 8500 خيمة تقطنها نساء أجنبيات في مخيم الهول، بالإضافة إلى 500 أخرى في مخيم روج، وأغلبهن من الناطقات بالروسية. وغالبا ما تُؤوي الخيمة الواحدة امرأة وثلاثة أطفال في المتوسط. بعد مقتل أزواج النساء وآباء الأطفال، لا سيما أثناء القصف في مارس/آذار 2019".
وتأسف لبطء وتيرة إعادة الأطفال إلى روسيا، مضيفة أن "عدد الأطفال العائدين لا يتجاوز بضع مئات، وهذه نقطة في البحر، إذ إن هناك نحو 4500 طلب تقدم بها أجداد وجدات للبحث عن أحفادهم بحلول مارس/آذار الماضي حتى وفاة هيدا ساراتوفا، العضو في مجلس حقوق الإنسان التابع للرئاسة الشيشانية، والتي كانت تتولى البحث عن النساء والأطفال المفقودين في الشرق الأوسط.
تحديات نفسية للاندماج
في تقرير بعنوان "خطوة واثقة إلى المستقبل؟"، ذكر مركز تحليل ومنع النزاعات (مشروع بحثي وحقوقي مستقل)، أن حرب الشيشان الأولى والتي جرت خلال الفترة بين 1994 و1996، والثانية منذ 1999 وحتى 2009)، ومغادرة المسلحين إلى الشرق الأوسط بين أعوام 2012 و2017، أسفرت عن تكون ثلاثة أجيال من المقاتلين خلف كل منها آلاف الأرامل والأيتام، لكن اختلافات أبناء "داعش" عن أبناء المقاتلين داخل الشيشان، يمكن حصرها في تعرضهم لصدمات نفسية أعمق وسوء مستوى اللغة الروسية لدى الصغار وسقوط الأطفال الكبار من العملية التعليمية لفترات طويلة، بالإضافة إلى عزلة أمهاتهم لا سيما في حال تزوجن من رجل غير شيشاني في ظل التنديد السائد للزواج من خارج القومية.
ويلفت المعالج النفسي المستقل، يفغيني إدزيكوفسكي، إلى مجموعة من التحديات النفسية التي يواجهها الأطفال العائدون من مناطق الحروب، قائلا في حديث لـ"العربي الجديد": "هذه الحالات تتطلب برامج خاصة لمعالجتها، يفترض أن تتولاها وزارة الطوارئ الروسية. يتكون الأطفال بسرعة في تلك المرحلة العمرية وقد يعيشون في نوع من العزلة بعد عودتهم، مما يشكل قنبلة موقوتة، كونهم قد يعجزون عن الاندماج في المجتمع ويسقطون من الدورة الطبيعية للتعليم والعمل، ما يجعلهم خطرين اجتماعيا، لا سيما في ظل ضبابية مفاهيمهم للمسموح به والممنوع".
وحول تقبل هؤلاء الأطفال والمراهقين للعنف، يضيف: "توجد احتمالات عديدة من بينها، ردود الأفعال العكسية ورفضهم النفسي المطلق للسلاح"، مشيرا إلى أنه "يجب الاستعانة بعلماء نفس للعمل مع هؤلاء الأطفال، وإذا كان عددهم كبيرا، ينبغي تنظيم هيئات خاصة أو معسكرات أو دور أيتام لهم، ولكن ذلك لا يغني في جميع الأحوال عن البيئة المثالية مثل الأسرة، سواء أكانت أصلية أم متكفلة".
وبدوره، يشير الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية (منظمة غير ربحية)، سيرغي بالماسوف، إلى واقعية إعادة اندماج الأطفال العائدين، ويضرب مثالا بتجربة الأطفال الشيشانيين بعد الحربين المدمرتين في التسعينيات من القرن الماضي وبداية القرن الجديد.
ويقول بالماسوف في تعليق لـ"العربي الجديد": "من السهل أن تضع في رأس الطفل أو المراهق الصغير دون الـ16 من العمر، المفاهيم الحقيقية للصواب والخطأ، وبعد بضع سنوات ينسى الأطفال ما عاشوه، ومثال على ذلك اندماج الأطفال الشيشانيين. ولكن هذه المهمة تزداد صعوبة كلما تقدم الشخص في العمر".