يتفاقم إرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية خاصة في المناطق التي يسكنها الأكثر تطرفاً منهم أو ما يعرف بـ"جماعات تدفيع الثمن"، وبينما لا تحمي السلطة الضحايا تغيب سبل تعويضهم أو إمكانية محاسبة المعتدين.
- نجت أسرة الفلسطيني زياد ضميدي من الموت حرقا داخل منزلها في بلدة حوارة التي يخترقها طريق استيطاني جنوب مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية بعد ما حاصرته نيران أشعلها مستوطنون استولوا على أراضيهم وأقاموا عليها مستعمرة يتسهار.
"خسرنا كل شيء" هكذا يختصر ضميدي حاله هو و180 من جيرانه الذين أحرق الإسرائيليون مركباتهم ومنازلهم وممتلكاتهم ليلة 26 فبراير/شباط 2023، ويتابع بحسرة: "أصبحنا بلا منزل بعد أن أحرقه المستوطنون عبر إشعال الإطارات المطاطية في محيطه، وهذه ليست المرة الأولى التي نتعرض فيها للاعتداء".
ووثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) 591 اعتداء قام بها المستوطنون منذ بداية العام وحتى أغسطس/آب الماضي وأسفرت عن إصابات أو ضحايا بين الفلسطينيين وإلحاق أضرار بالممتلكات، أو كليهما ويعد الرقم السابق الأعلى منذ أن بدأ تسجيل هذه الحوادث عام 2006، بالإضافة إلى تهجير 1100 فلسطيني من 28 تجمعًا سكانيًا بسبب تصاعد أعمال العنف ومنعهم من الوصول إلى أراضي الرعي على يد المستوطنين.
"ويمثل الرقم السابق متوسط 99 حادثة كل شهر، وزيادة بنسبة 39% مقارنة بالمعدل الشهري للعام 2022 بأكمله، وهو 71 حادثة" كما قال المتحدث باسم أوتشا، ينس لايركه في تصريحات صحافية.
وتكثر جرائم المستوطنين في مدن الخليل ونابلس ورام الله والأغوار الفلسطينية، الأكثر قربا من المستوطنات ويسكنها الأكثر تطرفا، أو ما يعرف باسم جماعات تدفيع الثمن، أو فتية التلال، بحسب ما جاء في ورقة معطيات أصدرتها منظمة "ييش دين"، (حقوقية إسرائيلية)، في ديسمبر/كانون الأول عام 2022.
لا حماية ولا محاسبة ولا تعويض
بلغ عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس 3 ملايين و200 ألف نسمة، نهاية عام 2022 بحسب ما أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي) في مايو/أيار الماضي، بينما بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس 726 ألفا و427 مستوطنا، موزعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية (نواة مستوطنة).
20 شهيداً قتلهم المستوطنون منذ بداية العام في الضفة الغربية
و"يستمرّ عُنف المستوطنين تجاه الفلسطينيّين حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من روتين نظام الاحتلال في الضفة الغربيّة، وفي الوقت الذي تستولي فيه إسرائيل على أراضي الفلسطينيين، يمارس المستوطنون نفس الأمر عبر القوّة والعُنف اليوميّ، وظاهريّاً يبدو وكأنّ هناك مسارين منفصلين لا علاقة بينهما لكنّه في الواقع مسار واحد: عُنف المستوطنين جزءٌ من سياسة حكوميّة، القوّات الرسميّة للدّولة تسمح به وتُتيح تنفيذه وتشارك فيه، ضمن استراتيجيّة نظام الأبارتهايد الإسرائيليّ السّاعي إلى توسيع واستكمال عمليّة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية"، بحسب ما يقوله تقرير لمركز المعلومات الإسرائيليّ لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة "بتسيلم"، صدر في 25 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021 بعنوان: عنف المستوطنين = عنف الدولة.
ومن صور العنف التي يوثقها التقرير الضرب والرشق بالحجارة والتهديد وإحراق الحقول وإتلاف الأشجار والمزروعات وسرقة الثمار واستهداف المنازل وتخريب السيّارات وإغلاق الطرق وإطلاق النّار، والقتل، ويطرد مستوطنو المزارع الاستيطانيّة الرّعاة والمزارعين الفلسطينيّين من حقولهم ومن المراعي ويُبعدونهم عن مصادر المياه التي اعتادوا الاستفادة منها جيلاً وراء جيل، ويؤكد منسق لجان مواجهة مصادرة الأراضي الزراعية (أهلية) والناشط ضد الاستيطان بشار القريوتي، لـ"العربي الجديد" أن: "هجمات واعتداءات المستوطنين لا تتوقف، خاصة في القرى المحاذية للتجمعات الاستيطانية، الأمر الذي يلحق أضرارا وخسائر كبيرة في ممتلكات المواطنين وفي الأرواح، ولا يتلقى الضحايا تعويضات من أية جهة حكومية مختصة، وبعضهم يحصل على مساعدات بسيطة لا تغطي إلا جزءاً بسيطاً من الخسائر التي تكبدوها، وتأتي على شكل منح من دول أخرى، كذلك تقدم بعض المؤسسات الأجنبية دعماً بسيطاً لحماية الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين، مثل مساعدتهم في تركيب حمايات لنوافذ المنازل وبناء الأسوار في محيطها، وهذه المعاناة، دفعت العديد من الأسر في القرى التي تتكرر عليها الاعتداءات إلى ترك منازلها خوفا على أطفالها، والانتقال إلى مناطق أكثر أمنا".
وفي الوقت ذاته "يعمل جهاز إنفاذ القانون الإسرائيليّ كلّ ما في وُسعه للامتناع عن معالجة الأمر عقب أيّ هجوم يشنّه المستوطنون ضدّ الفلسطينيّين، ومن ذلك أنّه يضع العراقيل التي تتمثل في التعامل مع اعتداءات المستوطنين على أنها دفاع عن النفس، بالإضافة إلى التذرع بعدم وجود أدلة كافية، أو أن المعتدي مجهول، لتصعيب تقديم الشكاوى، وإذا تمّ تسجيل شكوى وفتح تحقيق، وهي حالات قليلة جدّاً، يُسارع الجهاز إلى طمس الحقائق بحيث يندر جدّاً تقديم لائحة اتّهام ضدّ مستوطن اعتدى على فلسطينيّ وتشمل في معظم الحالات تهماً بسيطة تافهة، وإذا انتهت محاكمة كهذه بإدانة المستوطن فتُلقى عليه عقوبة رمزيّة فقط"، كما وثق تقرير بتسيلم.
واعتبر الناطق الرسمي للاتحاد الأوروبي لويس بوينو، في بيانه الصادر بتاريخ 31 اكتوبر/تشرين الأول 2023، أن الوضع في الضفة الغربية بحاجة إلى تدابير عاجلة، حيث " أدى تصاعد إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية إلى سقوط أعداد كبيرة جدًا من الضحايا المدنيين وإجبار المجتمعات الفلسطينية على ترك منازلهم. وقد يخرج الوضع عن نطاق السيطرة ويسبب معاناة لا توصف للمجتمعات المحلية"، مضيفا أنه "من واجب إسرائيل حماية المدنيين في الضفة الغربية من عنف المستوطنين المتطرفين، ومحاسبة الجناة وضمان تدخل جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو التزام قانوني يجب الوفاء به".
وهم دولة القانون
تكشف شهد فاهوم، رئيسة قسم البيانات والبحث في مؤسسة ييش دين، أن المنظمة رصدت 1597 تحقيقا في أعقاب أعمال عنف نفذها مستوطنون في أراضي الضفة الغربية، منذ العام 2005 وحتى العام 2022".
وتم استكمال 1531 ملف تحقيق منها، لكن 1428 قضية منها أغلقت دون تقديم لائحة اتهام، أي ما يعادل 93% من ملفّات التحقيق، وانتهت 107 ملفات بتقديم لائحة اتهام فقط أي ما نسبته 7%. وبحسب ورقة المعطيات الصادرة عن المنظمة، فإن 47% من القضايا تمثلت بتخريب ممتلكات، و39% جرائم عنف ضد الأشخاص، و14% استيلاء على الأراضي.
%93 من ملفات التحقيق في الاعتداء على الفلسطينيين أغلقت دون لائحة اتهام
ويمثل ما تكابده عائلة الشهيد سعد دوابشة، من قرية دوما جنوب نابلس شمالي الضفة الغربية، والمحاطة بمستوطنتي "شفوت راحيل" و"ومعالي أفرايم" وثلاث معسكرات للاحتلال الإسرائيلي، مثالا واضحا على الطريقة التي تتعامل فيها سلطات الاحتلال مع جرائم المستوطنين، إذ تخوض معركة قانونية منذ 7 أعوام ضد مستوطنين أحرقوا منزل العائلة في 31 يوليو/ تموز 2015، ما تسبب باستشهاد ثلاثة منهم، وعقب تمكنها من انتزاع قرار من محكمة الاحتلال في 14 سبتمبر/أيلول عام 2020 يقضي بمحاسبة الجناة والحكم على المتهم الرئيسي في القضية، ودفع تعويض قدره مليون و200 ألف شيكل (295.955 دولارا أميركيا)، تنصلت الحكومة الإسرائيلية من قرار المحكمة، بحجة أنه عمل فردي، وطالبت في جلسة المحكمة المنعقدة في يوليو 2023 بإعادة النظر في الشق المالي، بشرط تحويل الجريمة لحادث عمل يتم التعويض عنه، ما يعني أنهم يحاولون حرف المسار والتراجع عن الاعتراف بأن ما وقع للأسرة عمل إرهابي"، كما أوضح نصر دوابشة، شقيق الشهيد سعد والمتحدث باسم العائلة.
ويبلغ عدد القضايا التي فُتح تحقيق فيها خلال الأعوام الثلاثة الماضية 198 ملف تحقيق، منها 95 خلال عام 2021، تتوزع كالآتي: 11 ملفاً ما زالت قيد التحقيق لدى شرطة الاحتلال الإسرائيلية، فيما أغلق 81 ملفاً دون تقديم لوائح اتهام بحق المعتدين، وقُدمت لوائح اتهام في 3 ملفات فقط، وفي عام 2022 بلغ عدد ملفات التحقيق 66، منها 14 قضية ما زالت قيد التحقيق، و50 أغلقت دون لوائح اتهام، وملفان جرى تقديم لائحة اتهام فيهما، ومنذ مطلع عام 2023 لا يزال 29 ملفاً قيد التحقيق، وأغلقت 6 ملفات دون تقديم لوائح اتهام، وملفان قدمت لوائح اتهام فيهما، كما أوضحت فاهوم.
لماذا لا يتم إنشاء صندوق فلسطيني لتعويض المتضررين؟
تصاعدت حدة اعتداءات المستوطنين خلال عام 2023 حسب ما تؤكده هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (حكومية)، في تقريرها لشهر يوليو 2023، إذ وصلت إلى مستوى قياسي من بداية العام وحتى صدور التقرير بلغ 1623 اعتداء راح ضحيتها 20 شهيدا.
وخلال يوليو الماضي، وثقت الهيئة 202 اعتداء تخللها شنّ هجمات منظمة وخطيرة في مناطق المعراجات قرب مدينة أريحا وقرية أم صفا شمال رام الله، وبلدة كفر الديك في سلفيت، وقريتي جالود وعقربا في نابلس، وتجمع القبّون شرق رام الله وغيرها، إلا أنه حتى اللحظة لم يتخذ قرار حكومي بإنشاء صندوق لتعويض المتضررين.
وتكشف شهادات الفلسطينيين العشرة الذين يوثق "العربي الجديد" ما جرى لهم، أن بعضهم لم يحصل على أي تعويضات من أي جهة حتى اليوم، والبعض حصل على مبالغ بسيطة ومن بينهم ضميدي الذي يؤكد أنه خسر أكثر من 10 آلاف دولار نتيجة الأضرار التي لحقت بالمنزل، ولم يعوض سوى بمبلغ قدره خمسة آلاف دولار من قبل لجنة التعويض التابعة لبلدية حوارة وبإشراف الحكومة الفلسطينية.
وتتشابه حالة ضميدي مع محمد راضي، من بلدة ترمسعيا شمال رام الله، القريبة من مستوطنتي شيلو وعيلي، والذي قرر العودة إلى مسقط رأسه عقب غربة استمرت 20 عاما، وبنى منزلا ومشروعا، إلا أن اعتداءات المستوطنين في 22 يونيو/حزيران 2023 ونيرانهم طاولت كل ما يملك لتدمر منزلا وصالون تجميل وأربع مركبات، بعدما هاجمهم 300 مستوطن بالزجاجات الحارقة؛ وتقدر خسائر العائلة بنحو 300 ألف دولار، و"بالرغم من ذلك لم نعوض بدولار واحد حتى اللحظة، رغم أننا تقدمنا بشكوى في محكمة رام الله، وفوضها المتضررون جماعيا، لترفع قضية عبر وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية إلى هيئات الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية" كما يقول.
وتؤكد الوقائع السابقه أن إنشاء صندوق وطني لتعويض المتضررين من اعتداءات المستوطنين ضرورة، بحسب البروفسور هيثم عويضة، المتخصص في الاقتصاد النقدي والمالي ورئيس قسم الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، موضحا أن وضع حد لهذه الجرائم يجب أن يكون له شقان، أولهما توفير الحماية بناء على اتفاقيات بروتوكول باريس الاقتصادي، وعدم الاكتفاء بالشجب والاستنكار، والشق الثاني هو التعويض المالي، وهو الذي تعترضه العوائق بسبب تدني إيرادات السلطة واعتمادها على معونات خارجية، إلى جانب الاقتطاع من أموال المقاصة، مشددا على ضرورة تبني استراتيجية واضحة، تحصي فيها السلطة الانتهاكات على الأرض وتقيمها ماليا، لكن على أرض الواقع هناك تقصير من قبل الجانب الفلسطيني في اتخاذ هذه الإجراءات وهذا له انعكاسات مالية وسياسية.
ولا بد من شمول تلك الاعتداءات ضمن إطار عمليات التأمين المحلية في فلسطين ضد المخاطر والكوارث وأحداث الحروب، والعمليات العسكرية ضمن اقتطاعات معينة، وهذا ما يجب أن تدفع الحكومة الفلسطينية باتجاهه ليكون هناك تعويضات للمتضررين بآلية معينة تسهم فيها وزارة المالية وشركات التأمين وهيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بحسب عويضة.
وفي ظل نقص الخدمات التي تدعم صمود الفلسطينين في مواجهة المستوطنين، أطلقت شركة التأمين الوطنية الفلسطينية (خاصة) برنامجا جديدا في يونيو الماضي، يمنح صاحب البوليصة تعويضا عن إضرار المستوطنين بالمركبات لكنه لا يشمل الاعتداءات الجسدية، حسب ما يقول مدير عام الشركة بشار حسين، موضحا لـ"للعربي الجديد" أن :"المؤمن عليه يتحمل زيادة في سعر بوليصة التأمين، ويتم تعويضه في حال تعرضت مركبته لضرر لكن الأضرار الجسدية لا تشملها البوليصة وفي حال خسر مركبته بشكل تام يتحمل 20% من قيمتها والشركة 80%، على أن يصل أعلى سقف للتعويض إلى نحو 20 ألف دولار".
وبلغ عدد المشتركين منذ إطلاق الخدمة 500 شخص، وهناك 1500 في انتظار الموافقة، كما يقول حسين مشيرا إلى أن الشركة بصدد إطلاق خدمة جديدة للتعويض عن أضرار المنازل والمحال التجارية.
لكن ماذا عن الإجراءات الحكومية لدرء خطر المستوطنين؟ يردّ السفير عمر عوض الله، مساعد وزير الخارجية للأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، بأنه "منذ يونيو لعام 2015، قدمت الحكومة الفلسطينية أكثر من 100 بلاغ مباشر أمام الجنائية الدولية بخصوص انتهاكات واعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال"، بالإضافة إلى التقرير الشهري الذي تقدمه الخارجية لمكتب الادعاء العام في محكمة الجنايات الدولية، لإطلاعهم على آخر الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وتكليفها قانونياً بناءً على ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية. لكن الأمر لم يسفر عن نتيجة على الأرض حتى اليوم.
ووسط غياب أي استراتيجيات واضحة لتعويض الضحايا، لا يزال المواطن الفلسطيني بلال الأقرع من بلدة قبلان في نابلس شمال الضفة الغربية، يحاول توفير مبلغ مالي، بعد فقدانه الأمل بالحصول على أي تعويض، من أجل اقتناء مركبة جديدة عوضا عن التي أحرقها المستوطنون قرب بلدة اللبن الشرقية على الطريق الواصل بين نابلس ورام الله أثناء عودته إلى منزله في يونيو الماضي.