تحقيق بريطانيا1
01 مايو 2023
+ الخط -

يوثق التحقيق العلاقة القوية بين ارتفاع نسب الانتحار وإدمان المقامرة في بريطانيا التي تمتلك أحد الأسواق الكبرى الناشطة في المجال، وسط تلكؤ في مواجهة الأضرار الضخمة عن الظاهرة التي تنتشر بين الأقليات وتدمر حياتهم.

- يحمّل الثلاثيني البريطاني جيمس غرايمس رئيس قسم التعليم في منظمة المقامرة بالأرواح (توفر الدعم والتوعية بالآثار المدمرة لاضطراب القمار)، الحكومة والجهات المنظمة للرهانات على الألعاب، مسؤولية إدمان القمار وما يترتب على ذلك من تبعات خطيرة كما يصفها من واقع هدد حياته.

تعافى غرايمس من إدمانه على القمار الذي دمر حياته لمدة 12 عاما، إذ انزلق إلى المراهنات على ألعاب كرة القدم منذ أن كان في السادسة عشرة، ومع الوقت بدأ يقترض المال من الأهل والأصدقاء، حتى وصل إلى مرحلة الإدمان الذي دمر حياته الجامعية، وحاول الانتحار حين أصبح عمره 28 عاما، كما يروي لـ"العربي الجديد" قائلا: "لا أدري إن أردت الموت لكني لم أرغب في الحياة حينها".

ما مرّ به غرايمس من معاناة نتيجة الإدمان على القمار دفعه إلى قيادة مبادرة "المقامرة بالأرواح"، التي تهدف إلى إنهاء جميع إعلانات المقامرة على كرة القدم عبر تنظيم الحملات على المستوى الوطني ومنها حملة "ذا بيغ ستيب"، التي يترأسها، لما يخلفه إدمان القمار من أَضرار ليس على الأفراد فقط، وإنما تمتد للأسر وللمجتمع والدولة.

أضرار مادية ضخمة

تمتلك المملكة المتحدة أحد أكبر أسواق المقامرة في العالم، والمنظّمة وفق قانون المقامرة لعام 2005، وحقّقت أرباحا قدرها 14 مليار جنيه إسترليني في عام 2020 (17 مليار دولار أميركي)، بحسب ما جاء في خطاب أولويات وكالة الصحة العامة للفترة الممتدة بين عامي 2018 و2019.

وتنتشر أعلى معدلات المقامرة بين الحاصلين على مؤهلات أكاديمية عالية وكذلك تمتد إلى الفئات الأقل حرمانا، وعلى الرغم من أن قانون المقامرة يقضي بمنع تحوّل المقامرة إلى مصدر للجريمة، إلا أن الحكومة تتحمل مبالغ طائلة بسبب أضرار وجرائم مترتبة على إدمان المقامرة، إذ بلغت كلفتها 412 مليون جنيه إسترليني سنويا (512 مليون دولار)، كما تكشف مراجعة للخطاب منشورة على موقع الحكومة البريطانية في 11 يناير/كانون الثاني 2023، بعنوان (أدلة على الأضرار المتعلقة بالمقامرة).

الصورة
info

وتقدر وكالة الصحة العامة ما أنفقته الحكومة على الأضرار المترتبة على إدمان القمار خلال عامي 2021 و2022، بما يتراوح بين 241 مليون جنيه إسترليني (299 مليون دولار) و 962 مليون جنيه إسترليني (119 مليار دولار) بسبب الوفيات الناجمة عن الانتحار بسبب إدمان المقامرة، و508 مليون جنيه إسترليني (631 مليون دولار) على الاكتئاب الناتج عن ذلك الإدمان، و49 مليون جنيه إسترليني (60 مليون دولار) على التشرد و3.5 ملايين جنيه إسترليني (4.351 ملايين دولار) على إدمان الكحول. ومبلغ 1.8 مليون جنيه إسترليني (مليوني دولار) لتعاطي المخدرات غير المشروع من قبل أشخاص تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاما.

التكاليف السابقة، دفعت وكالة الصحة العامة إلى المطالبة في المراجعة التي جرى تحديثها في 11 يناير الماضي، بدعم الإجراءات المتعلقة بأضرار المقامرة، كجزء من متابعة المراجعة الرقمية والثقافية والإعلامية والرياضية للألعاب والمسؤولية الاجتماعية.

وكما هو الحال مع جميع مشاكل الصحة العقلية، لا يوجد سبب واضح لاضطراب القمار، إذ يرتبط الأمر بأسباب بيولوجية وجينية ونفسية تؤدي إلى إدمان الشخص، وفق ما يوضحه مقال بعنوان اضطراب القمار، نشرته الكلية الملكية للأطباء النفسيين في ديسمبر/كانون الأول 2021.

إدمان المقامرة يقود إلى الانتحار


توثّق منظمة "المقامرة بالأرواح"، حالات لشبان دفعهم القمار إلى الانتحار ومن بينهم لوك آشتون، والد لطفلين، والذي كان قد بدأ المقامرة عام 2018، ثمّ توقف بمساعدة زوجته عام 2019، لكنه عاد خلال فترة انتشار كوفيد - 19 حتى قادته إلى الانتحار في إبريل/نيسان 2021، عن عمر يناهز 40 عاما.

كما انتحرت الثلاثينية كيمبرلي وادسوارث، في عام 2018 عقب 12 عاما من الإدمان على لعب القمار، أما جاك ريتشي، فكان في السابعة عشرة من العمر عندما بدأ المقامرة، وبعد فوزه بضع مرات، وجد صعوبة كبيرة في التوقف إلى أن دفعه الإدمان إلى الانتحار في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017، في عمر الرابعة والعشرين.

الصورة
تحقيق بريطانيا 2

ويظهر ملخص بحثي بعنوان المقامرة بالأرواح، نشره موقع اللجان البرلمانية بالاستناد إلى 3 دراسات أجريت في المملكة المتحدة وهونغ كونغ والسويد، أنّ هناك رابطا قويا بين المقامرة وارتفاع معدلات الانتحار وكذلك التفكير بالانتحار، وتثبت هذه الدراسات التي يستند إليها موقع اللجان البرلمانية كأدلة على دور القمار في زيادة حالات الانتحار أن هناك ما يتراوح بين 250 إلى 650 حالة انتحار مرتبطة بالمقامرة كل عام في المملكة المتحدة، وهو ما يوازي 4% إلى 11% من إجمالي حالات الانتحار، واشارت مراجعة على موقع اللجان البرلمانية لـ 13 دراسة بريطانية ودولية منشورة بين عامي 1990-2019، أن 42% في المتوسط من المقامرين الذين يسعون إلى العلاج تراودهم أفكار انتحارية، وتبين نتائج الدراسات أن 30% من المقامرين ممن يعملون على العلاج في المملكة المتحدة عام 2015 حاولوا الانتحار، وهو ما يدلّ على أن مشكلة المقامرين ومحاولات الانتحار لديهم  تزيد 5 مرات عن متوسط عامة السكان.

وبحسب ذات الملخص، يتلقى 9 آلاف شخص سنويا علاجا لاضطراب المقامرة في المملكة المتحدة، وهو ما يكشف حجم المشكلة، وهناك 340 ألف شخص صُنفوا على أنهم مقامرون بمشكلة، (أي أن المقامرة تضر بهم أو بأسرتهم وتعيق حياتهم اليومية)، و1.7 مليون شخص معرضون للخطر، وتشير التقديرات إلى تسجيل ما بين 10 و25 محاولة انتحار مقابل كل محاولة انتحار ناجحة، والمشكلة أنّه من النادر ما يتم تشخيص اضطراب القمار كسبب للانتحار في بريطانيا، بسبب نقص الممارسين العامين، ولأن العلاج يتم تقديمه خارج الخدمات الصحية الوطنية.

وحول إجراءات الحكومة ومسؤوليتها للحد من أضرار المقامرة، توضح وزارة الشؤون الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة "أنها مصممة على حماية الأشخاص الأكثر تعرضا للمخاطر المرتبطة بالمقامرة، كما أنها تعمل على إنهاء تفاصيل مراجعة الكتاب الأبيض (وثائق تحدد مقترحات لتشريعات الحكومة المستقبلية)، والذي سيحدث الإطار التنظيمي للمقامرة لضمان ملاءمته مع تحديات العصر الرقمي، بحسب الرد المكتوب الذي وصل "العربي الجديد" من صمويل وورد من مكتب اتصالات وزارة الشؤون الرقمية والثقافة والإعلام والرياضة، موضحا أن الوزارة تسعى إلى تحقيق التوازن بين حماية المعرّضين لخطر الأذى المرتبط بالمقامرة مع السماح لأولئك الذين يختارون المقامرة للقيام بذلك بأمان.

علامات اضطراب القمار

يميل المقامر إلى العزلة، ويصبح مهووساً بالمال، وشديد القلق حول ما ينفق أو عكس ذلك، وفي أسوأ الحالات يتحوّل إلى شخص متسلّط ومتقلّب وسريع الانفعال والتوتر والغضب أو يزيد استخدامه للكحول، كما يوضح ريتشارد ستيفنسون؛ معالج نفسي متخصص في علاج الإدمان بمستشفى Nightingale للصحة العقلية وسط لندن، مؤكداً أن هناك علامات عديدة لاضطراب القمار، مثل النفاق وإنكار السلوك وإلقاء اللوم على الآخرين.

ووصل ستيفنسون إلى هذه النتائج من خلال عمله مع مجموعة متنوعة من المرضى، بما في ذلك أصحاب الدخل المرتفع، ويوضح أنّ العديد من هؤلاء يجدون في المقامرة وسيلة لتخفيف التوتر الناجم عن وظائفهم، بالتالي، فإن العامل المهم في العلاج هو مساعدة الشخص على فهم ممارساته اللاواعية ومساعدته على تعلّم المزيد من استراتيجيات التأقلم الصحية للتعامل مع اضطرابه العاطفي.

ووجد ستيفنسون أن ضغط الوالدين والأقران تسبب في اختيار العديد من المرضى مسار حياتهم المهنية، وفي بعض الحالات لجأوا إلى القمار من دون وعي، كوسيلة للهروب من الواقع وأحياناً رأوا فيه خياراً يسرّع وصولهم إلى هدفهم من دون ضغوط العمل اليومية، وينصح ستيفنسون مدمني القمار الذين يعانون من حالات أخرى، مثل القلق والاكتئاب واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، بـ "العلاج التخصصي للمرضى الداخليين"، كما يمكن أن يساعد العلاج السلوكي المعرفي (CBT) في فهمهم لكيفية التأثير على سلوكياتهم عبر الأفكار والمشاعر الناجمة عن المقامرة، مؤكداً أهمية استخدام نهج شامل في العلاج، ما يستلزم النظر في بيئاتهم الاجتماعية وعلاقاتهم مع الذات والآخرين والمال.

ويمكن أن يكون الوصول إلى مجموعات المساعدة الذاتية، ومجموعات الدعم، أمراً بالغ الأهمية في رحلة التعافي المستمرة، وفي بعض حالات العلاج يمكن للأدوية أن تخفف الاضطرابات العاطفية الشديدة مثل الاكتئاب التي قد تدفع إلى اللجوء إلى القمار كما يؤكد ستيفنسون.

الأقليات أكثر عرضة لمخاطر القمار

يظهر بحث بعنوان "المقامرة بين البالغين من السود والآسيويين والأقليات العرقية: تحليل بيانات ثانوي لدراسة علاج ودعم القمار"، منشور في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، أن واحدا من كل خمسة، أي ما نسبته 20٪ من البالغين السود والآسيويين والأقليات العرقية سجلوا درجة واحدة أو أعلى على مقياس مؤشر خطورة المقامرة، متفوقين في ذلك على البالغين البيض، إذ بلغت نسبة المصنفين ضمن ذات الفئة من حيث خطر الإدمان على المقامرة 12%.

ويعزو المعالج النفسي جاريل بيمبونغ، عبر خبرته من واقع عمله في موقعه الإلكتروني Bempong Talking Therapy تعرّض الأقليات العرقية لمخاطر القمار بشكل أكبر في المملكة المتحدة، إلى فقرهم وتبعيتهم المالية، ويمكن وفق توضيحه، أن يبدأ إدمان القمار لأسباب مختلفة، مثل القلق أو الملل، أو التعرّف على القمار في سن مبكرة والشعور بضغط الأقران للتنافس في المقامرة، مضيفا أن هناك علاقة بين إدمان القمار من قبل أحد الوالدين أو الأقارب، وتطوير المقامرة بداخل نفوس الأشخاص.

والعلامات المحتملة لمشكلة القمار وفق ما رصده بيمبونغ، فقدان السيطرة واللعب بأموال أكثر مما يستطيع المرء تحمّله ومحاولة إخفاء المقامرة عن الأصدقاء أو الطاقم الطبي واللجوء إلى السرقة والخداع وطلب قروض لسداد ديون القمار، ويمكن أن يساعد العلاج النفسي في تحديد واستبدال أنماط التفكير التي تؤدي إلى مشكلة إدمان القمار، كذلك تساعد مضادات الاكتئاب ومضادات المخدرات في العلاج، نظرا لأن من يعانون من إدمان القمار غالبا ما يعانون من الاضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أو اضطراب الوسواس القهري.

ويستحضر بيمبونغ حالة ثلاثيني بريطاني أسود البشرة، أشرف على علاجه عقب أن ساورته أفكار انتحارية وعاش في صراع ما ساعد في انزلاقه إلى إدمان المقامرة بخاصة بعد أن شعر بأنه خذل عائلته ومجتمعه لفشله في تحقيق توقّعاتهم، إذ بدأ المقامرة أثناء الاحتفال بيوم ميلاده الـ 21 في إحدى الكازينوهات مع أصدقائه، وفاز بمبالغ جيدة من المال، واستمر حتى وصل إلى حالة الإدمان.

ويوضح بيمبونغ أن والدي الشاب، نقلا صدمات جيلهما إلى ابنهما، تلك الناجمة عن القمع وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، لكن على مدار ستة أشهر من العلاج، بدأ الشاب في عملية الشفاء وأصبح اليوم مؤلفا لعدة كتب.