- يُسلط الضوء على جهل بعض المصريين بتاريخهم وتنوعهم الثقافي والعرقي، مُنتقدًا الادعاءات بالنقاء العرقي أو الثقافي ومُظهرًا كيف أن هذه الادعاءات تُعد محاولة لاحتكار رواية خاطئة للهوية المصرية.
- يُحذر من خطورة النزعات العنصرية والشوفينية على النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية المصرية، مُشددًا على أهمية التنوع الثقافي والعرقي كمصدر قوة وداعيًا للانفتاح والتعايش لبناء مستقبل يحترم التنوع ويعزز الوحدة الوطنية.
على غرار سؤال الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنا آرندت هل يمكن للمرء أن يرتكب الشر دون أن يكون شريرًا؟ يتساءل هذا المقال هل يمكن للمصري أن يرتكب أفعالا عنصرية دون أن يكون عنصريا حقيقيا على طريقة النزعات الشعبوية التي تجتاح أوروبا وأميركا وتتحول من قول إلى فعل تقف وراءه أيديولوجية صلبة؟
ومنشأ هذا السؤال هو تلك الحالة التي تستعر افتراضيا ضد عرب وأفارقة يقيمون في مصر، إذ تجد تعليقات عنصرية مغلفة بـ"الوطنية"، تصم وجودهم بالاحتلال والاستغلال لموارد البلاد، ومن ذلك انتشار مقطع مصور لعدد من الأفارقة على أحد شواطئ الإسكندرية، أعادت حسابات ما يسمى بأبناء كيميت (تعني الأرض السوداء وهو اسم مصر في الحقبة الفرعونية) نشره مصحوبا بتلك الترهات التي لو ترجمها أحدهم (سبق أن جرى هذا في أزمة سد النهضة) بالتأكيد ستدمر كل محاولات الدولة المصرية للتقرب من شعوب القارة السمراء، والذين نحتاج إلى دعمهم في قضايا مصيرية، مثل حق مصر في مياه النيل أو تأمين مجال الأمن القومي المصري الحيوي، وكذلك التوسع الاقتصادي في منطقة يتصارع عليها الأميركيون والصينيون والروس والفرنسيون والإيرانيون والأتراك والإسرائيليون.
وإذا كانت الفيلسوفة آرندت قد صكت في كتابها "آيخمان في القدس" مصطلح "تفاهة الشر" للإشارة إلى أن آيخمان لم يكن شريرا بطبيعته، بل كان ضحلا وجاهلا، نشط في الحزب النازي بحثا عن غاية واتجاه، وليس من باب العقيدة الأيديولوجية العميقة، فإن خطاب هؤلاء يستحق أن يوصف بـ "تفاهة الجهل"، فشعوب العالم القديم كانت متداخلة ومتفاعلة، وازدهرت في بلاد الفراعنة (الذين ينسبون أنفسهم إليهم) مستوطنات يونانية، من أبرزها نقراطس التي نمت في القرن السادس قبل الميلاد، خصوصاً في عهد الملك أحمس الثاني، كما أسس مصريون معبدا لإيزيس (أكثر الآلهة الفرعونية عبادة) في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، وعمل يونانيون في الأسطول المصري، وفينيقيون في الأسطولين الفارسي والمصري، خلال القرنين الخامس والسادس.
ويكشف خطاب من يطلق عليهم اسم الكمايتة عن جهل مريع بأصول ومكونات الشعب المصري التي اختلط فيها السكان الأصليون مع اليونانيين والفرس والرومان والعرب، حتى إن ألوان المصريين المعاصرين متدرجة من البياض حتى السمرة الداكنة جنوبا، لكن بدلا من احترام تلك التعددية، يرفعون شعار مصري مش عربي، مصري مش أفريقي، وبالتالي يصح السؤال عن أصل تلك الخزعبلات التي لا يصح تسميتها أفكارا وبالتأكيد لا تقوم الأيديولوجيات على "بوستات" تويتر وفيسبوك.
وبينما يصمت الكمايتة عن وجود غربي لروس وأوكرانيين وأميركيين وإيطاليين وغيرهم ممن نقلوا حياتهم إلى مدن مثل دهب وشرم الشيخ والأقصر وأسوان ومحافظات مصر المختلفة، يمكن الرد على خطابهم المتهافت، أن مصريين يعيشون في تلك البلاد وغيرها بالملايين، حتى إن عددهم في السودان التي يستهدفون القادمين منها هذه الأيام بسبب الحرب، سبق أن وصل قبل عدة أعوام إلى نصف مليون، فما هو الحل إذا تعاملت شعوب تلك البلاد مع المصريين بالطريقة نفسها؟ وعلى سبيل المثال، هل التضاد مع المحيط العربي يعني أنك لن تذهب للعمل في الإمارات مثلا، وترفض أن تحصل على راتب بالدرهم؟
ويؤشر استدعاء الفرعونية انفصاليا وتضاديا وإقصائيا مع المحيط العربي بدلا من أن تكون عامل تقريب في حال استخدامها من منظور حضاري وثقافي ومتحفي، إلى محاولة هؤلاء للتقوقع حول ذات مصرية متخيلة ما يخدم هدف احتكار رواية خاطئة بالكلية لهوية الحاضر، والتلاعب بالتاريخ، فالمصري مسالم منفتح وميال للتعايش مع الجميع، والفراعنة بلا شك أصحاب منجز حضاري لا مراء فيه، لكن ماذا قدم الكمايتة أحفادهم المتخيلون جبرا وقسرا، غير هذا الاستدعاء لأمة قديمة من أجل أغراض غير واضحة وشعبوية وتافهة وسطحية، تجد من يرددها خاصة في فترات الضعف والتردي والعجز عن الفعل الحالية، بما لا يعدو كونه محاولة بائسة ويائسة للفخر بماضٍ لم يشترك أحدنا في تشييده، وكذلك للهرب من استحقاقات الحاضر التي تعني بذل كل ما يمكن من أجل الخلاص من الحالة المتراجعة على جميع المستويات، ما يدل على غياب الأولويات لدى هؤلاء، ولدى النظام الذي يسيطر على المجال العام ماديا ورقميا بكل حزم، لكنه لا يتخذ موقفا صارما تجاه تجليهم الأبرز في حملات العنصرية التي تستهدف السوريين والسودانيين والأفارقة، والتي يمكن استغلالها من مؤسسات ودول لتخريب علاقة البلاد والعباد وتوسيع الفجوة بين المصريين ومحيطهم العربي والأفريقي.
بلا شك، تتطور الهوية على الدوام في الشعوب الحية، ولا تجمد وتذوي إلا في الشعوب المحتضرة العاجزة التي في سبيلها للانقراض، لذا فإن النزعة الكيميتية نوع من تجليات العنصرية الشوفينية التي تحاول أن تؤسس امتدادا تاريخيا عبر رؤية ماضوية متخيلة ووهمية، ولا تختلف كثيرا عن الأحلام الرجعية للمنادين بعودة الملكية مثلا، وكل هؤلاء يغفلون أن الامتزاج والتفاعل بين المواهب من كل جنس ولون ودين وعرق أساس بناء الحضارات وهذا ما تدركه أميركا ويميزها مثلا عن الصين، سبق أن تحققا في فترات ازدهار مصر، التي كانت أمة هاضمة للثقافات، وهويتها متنوعة خليط من الفرعونية والقبطية والعربية الإسلامية وحضارات شعوب البحر المتوسط، وراكمت منجزات القوة الناعمة والصلبة، مع أن من حكموها كانوا من الفرس واليونان والأكراد والألبان والأتراك والمماليك من كل فج عميق، ومن بعدهم الفرنسيون والإنكليز، واختلطت وعاشت شعوبهم فيها غير أنها بقيت وأهلها، وكوّنت هوية جامعة للحضارات والمعتقدات، وهذا هو سر قوتها الباقية حتى اليوم، والذي تهدده ترهات مثل جهل الكمايتة.