استمع إلى الملخص
- التحديات الداخلية والخارجية: يواجه النظام تحديات كبيرة داخليًا وخارجيًا، حيث يعاني الشعب في مناطقه من بؤس شديد، بينما أصبح عبئًا على حلفائه مثل روسيا وإيران، مما يضعف موقفه.
- سيناريوهات المستقبل لسوريا: تتنوع السيناريوهات بين تقسيم البلاد أو استمرارها كدولة فاشلة أو سيطرة المعارضة، مع الحاجة إلى برنامج سياسي شامل لتحقيق الاستقرار والوحدة الوطنية.
تداعى إلى الذاكرة مشهد سينمائي ينطبق على ما يجري في سورية هذه الأيام، وما كشفته الأحداث من حال ومآل جيش بشار الأسد المتراجع أمام قوات المعارضة المسلحة بسرعة لافتة لا بد أن تدرسها الأكاديميات العسكرية مستقبلاً في علم "التولي يوم الزحف والاحتفاظ بحق الرد"، الذي برع فيه آل الأسد أباً وابناً، ففي فيلمه "الهلفوت" يصف السيناريست وحيد حامد، على لسان الفنان عادل إمام، القاتل عسران الضبع (الفنان صلاح قابيل)، بعدما شاهد حقيقته أثناء خلع ملابسه واكتشف أنه ضعيف ومريض ويعيش في رعب دائم وخوف الناس منه وهم كبير، قائلاً "عالم عايشة بالأونطة، راجل مخوّخ (تعنى بالعامية المصرية فارغ وهش) من جوّه وراعب بلد بحالها".
كعسران الضبع، اسماً وفعلاً اقتات الأسد على خوف السوريين مطيلاً حكماً تجاوز كل معاني "الأوتوقراطية"، لما يمكن أن نصفه بـ"بالمافيوقراطية"، نسبة إلى عائلات المافيا وكارتيلات المخدرات التي نافسها الأسد في إنتاج الكبتاغون، ليحول الدولة إلى مصنع ومتجر مخدرات كبير، في نمط من الحكم سبقه إليه الجنرال لويس غارسيا ميزا بعد انقلابه في بوليفيا عام 1980، إذ لم يستطع تحسينَ اقتصادِ بلاده أو إيجاد سبل لرفع المستوى المعيشي للمواطنين، فما كان منه إلا أن ولغ في دماء شعبه ومن ثم تفتق ذهنه إلى حل سريع، فجعل بلاده أكبر منتج ومصدر للمخدرات في أميركا الجنوبية، مسخراً مؤسسات الدولة في تجارته، لكنه على عكس الأسد لم يعمر طويلاً، وانتهى حكمه بعد عام واحد وتمت محاكمته لاحقاً بعد 15 عاماً.
خلاص بوليفيا السريع من ميزا جنّب البلاد تكلفة خطيرة لبقاء هذا النوع من الحكام، الذي تعرفه منطقتنا جيداً، وتدفع ثمناً هائلاً جراء استمرارهم طويلاً، إذ "يجلب الطغاة الغزاة" كما قال ابن خلدون، وهو ما شاهدناه في عراق صدام حسين، وليبيا معمر القذافي، ويمن علي عبد الله صالح، لكن النسخة الأكثر فجاجة قتلاً وتعذيباً وتهجيراً للشعب، كانت في دمشق على يد جيش "أسدها" الذي صار رابع أقوى قوات مسلحة داخل البلاد بعد الروس والأتراك والإيرانيين.
عالمياً يشبه حكم الأسد دولاً مثل كوريا الشمالية وكوبا، لكن مع الفارق أنه عاد بالبلاد إلى عهد ما قبل الاستقلال ليفقر مختلف مكونات الشعب ويفرقها إلى شيع وجماعات عبر تمزيق نسيج المجتمع وخلق العداوات بين الإثنيات والأديان والطوائف التي فشل المحتل الفرنسي في اللعب على وترها، فيما أجج المحتل الداخلي النيران وسطها، ومن ثم رهن البلاد لكل من قدم له دعماً يطيل بقاءه في قصر المهاجرين، بينما بيونغ يانغ، وإن كان شعبها جائعاً، صارت دولة نووية لديها ما يخشاه العالم، وهافانا قدمت نظاماً صحياً راقياً لشعبها الذي يعاني على مستويات حياتية أخرى.
من هنا كان "ردع العدوان" و"فجر الحرية" ضرورة طال انتظارها ومن السخف سؤال السوريين عن توقيت أو غيره مما أثير للأسف من حسابات يتابعها الكثيرون على وسائل التواصل، تحدثت كمن يبدى اندهاشاً من عودة أحدهم إلى بيته المنهوب، بعد أعوام من استقرار السارق فيه، وهل ترك الأسد بديلاً عن الحل العسكري؟ فمنذ عام 2020، لم تحدث أي معركة واستقرت الأوضاع وخطوط الفصل بين الطرفين ضمن اتفاقات أستانة، التي حولها مندوبو الأسد إلى مكلمة على الطريقة الإسرائيلية في مفاوضات من أجل المفاوضات وليس للوصول إلى حل حقيقي، ولم يقبل بشار أي مبادرة أو يبد أي رغبة في الحل، واستمر في عدم اكتراثه حتى أنه "تبغدد" كما يقول المصريون، أي أفرط في دلعه وتكبره، ورفض دعوات لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أجل الوصول لتسوية كانت ستحميه قبل شعبه، إن كان يهمه أصلاً، مما يجري حالياً، وتعامل كالهر يحكي انتفاخاً صولة "الأسد" مصدقاً حاله رغم أن الزمان دار وصار الرجل عبئاً على الجميع، فالروس مشغولون بما يجري في أوكرانيا وليست دمشق بالأمر الهام في مقابل كييف، والإيرانيون ورديفهم حزب الله، "فيهم اللي مكفيهم"، ولديهم معركة أهم حفاظاً على وجودهم المهدد أميركياً وإسرائيلياً، ولم يقدم لهم الأسد شيئاً يذكر خلال حربهم الأخيرة، بل ثارت الظنون عن لعبه بالجميع وإمكانية تسريب معلومات استفادت منها دولة الاحتلال في استهداف ممثليهم ومواقعهم المنتشرة داخل الحدود السورية.
يعرف الجميع أن المناطق التي سيطر عليها الأسد أحوالها كانت شديدة البؤس مقارنة بتلك الخارجة عن حكمه على جميع المستويات، فطوابير الخبز والبنزين لا تنتهي وغياب الكهرباء صار مسلماً به، ومع هذا ليس من حقك أن تنبس ببنت شفة، على العكس مما كان يحدث في مناطق المعارضة التي شهدت تظاهرات واسعة استمرت أسابيع ضد "هيئة تحرير الشام" التي تخوض المعركة الأكبر مع النظام حالياً، ومع ذلك ثمة مخاوف كبيرة لدى قطاعات وازنة من السوريين في سيناريوهات المستقبل في حال انتصار الهيئة الكامل، ولعل هذا ما جعل أنصارها وقائدها أحمد حسين الشرع (والده قومي عربي فليس الجميع في سورية إسلاميين) المعروف بأبو محمد الجولاني يقدمون خطاباً مختلفاً لطمأنة الطوائف المختلفة، لكن الكلام لا يكفي، فالجميع ضحايا الأسد، وأولهم العلويون الذين زج النظام فقراءهم مع غيرهم من الطوائف في معاركه وخلق لهم عدوات وصورة ذهنية غير حقيقية، ولذلك تحتاج سورية إلى برنامج سياسي حقيقي يحاكي في حده الأدنى ما يجري في الجارة تركيا، بانفتاح السوريين بمختلف طوائفهم على بعضهم ومشاركة الكل في إدارة شؤون المناطق المحررة، ففيها مسيحيون وعلويون ودروز وغيرهم إذا وجدوا أنفسهم في قلب المسؤولية وتعاملوا مع الآخر وتعامل معهم فسيخلقون نموذجاً يمكن أن يعمم في سورية ويقيها شر التقسيم، وما رشح من أفكاره التي أول ما خرجت إلى العلن كانت على يد الأسد عندما تحدث في 2016 عما يسميه "سورية المفيدة".
سيناريوهات التقسيم أولها قد يكون غير معلن، أو ما يمكن أن نطلق عليه "لبينة سورية"، فتصبح بها ثلاث حكومات على غرار ما حدث في ليبيا المنقسمة شرقاً وغرباً وجنوباً، بينما في الحالة السورية تستمر حكومة الأكراد شرقاً وأخرى في الوسط للمعارضة وثالثة على الساحل للأسد. الثاني تدخل الروس والإيرانيين كما حدث عام 2015 بعد سيطرة المعارضة على حماة حالياً وإعادة قواتها إلى الوراء بقصف وحشي كما كان قبل الأحداث الأخيرة وبعدها يبقى الوضع على ما هو عليه، دولة فاشلة. الثالث تقدم المعارضة وسيطرتها على البلاد كلها ما عدا مناطق النفوذ الروسي، إلى حين الوصول إلى حل معهم أو توافق أميركي ومقايضة في عهد ترامب.
الانقسامات كبيرة وكثيرة في سورية، لكن ما يجري وحالة الفرحة التي وحدت الجميع مع عودة المهجرين إلى بيوتهم لن تكتمل دون لم شمل كل الطوائف، وتقديم نموذج مختلف عما كان يجري في إدلب أو تحت حكم الأسد الذي لن يستمر للأبد كما كان أنصاره يقولون، فما يجري كشف أنه "من ورق" والنهاية قد تكون قريبة.