استسلم رائد العدوان، أمين عام وزارة الداخلية الأردنية السابق (أحيل على التقاعد في 28 أغسطس/ آب 2019)، لضغوط من قبل وزير داخلية، (رفض ذكر اسمه تجنبا للخلافات)، أثناء عمله في عام 2016 محافظا لمدينة الزرقاء، شرق العاصمة عمّان، من أجل تكفيل متهم بالاعتداء على رجال أمن أثناء إلقاء القبض عليه بينما كان يهرب زيوت سيارات من المنطقة الحرة.
في تلك الليلة، رفض العدوان تدخلات نواب من الزرقاء لتكفيل الشخص ذاته، لكنهم، وفق روايته، تمكنوا من التأثير على الوزير الذي أجبره على العودة من منزله لتكفيل المتهم نزولا عند رغبة النواب والوساطات.
لم تكن تلك الواقعة الوحيدة التي واجه فيها العدوان ضغوطا من متنفذين اجتماعيا وسياسيا، أبرزهم النواب، للإفراج عن مرتكبي جرائم من ذوي السوابق، وهم من فئة "الزعران" ممن تمادوا في أفعالهم بسبب صمت الناس خوفا منهم، في ظل توفير غطاء وحماية لهم في مقابل مصالح تجمع الطرفين، كما يقول.
مفاتيح المجرمين
"للأسف عنا ناس مجرمين بأثروا على حياة المواطن، وفي للأسف مرات واسطات من المفاتيح اللي عند المجرمين داخل المحافظة أو داخل الدولة... وهذا بالنسبة إلي خط أحمر مافي شي اسمه واسطة".
يؤكد تصريح ملك الأردن عبد الله الثاني، خلال لقائه مع الحكام الإداريين في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وفق ما جاء في ملخص نشاطاته الأسبوعي المنشور على الموقع الإلكتروني للديوان الملكي، وجود تراخ وقبول وساطات متنفذين ورجال دولة من أجل تكفيل مجرمين، إذ تناط للحاكم الإداري مهمة التحقيق مع أي شخص إذا وجد أسبابا كافية، كأن يكون الشخص ممن اعتادوا ارتكاب مخالفات قانونية فصلها قانون منع الجرائم رقم 7 لعام 1954، وله كذلك أن يقوم بتكفيله بواسطة شخص يرضى كفالته.
وجاءت تصريحات الملك عقب حادثة اعتداء 10 من أصحاب السوابق الجرمية وفارضي إتاوات على فتى في مدينة الزرقاء بتقطيع يديه وفقء عينيه، وهؤلاء وفق ما جاء في قرار التجريم الصادر في 17 مارس/ آذار 2021، ارتكبوا عملا إرهابيا سبب حالة من الفزع سادت المجتمع المحلي في مدينة الزرقاء بصورة خاصة، وفي المجتمع الأردني على وجه العموم، لتقضي محكمة أمن الدولة، في 17 مارس الماضي، بإعدام 6 من المدانين، أحدهم محمد مفيد أحمد منصور، الملقب بـ(أبو علي الزنخ)، صاحب 172 أسبقية جرمية، وكان يحال إلى القضاء لدى اتهامه، أو يجري تكفيله من قبل المحافظ حسب القضية، لكنه وقت الجريمة لم يكن بحقه أي طلب رسمي، وفقا لبيان الأمن العام الصادر في 13 أكتوبر الماضي.
نمو الجريمة وتغير عقلية الناخب
شهد عام 2018 ارتفاعا بعدد الجرائم المرتكبة في الأردن بعدد 24654، ووصلت إلى 26521 عام 2019، بينما سُجلت 22556 جريمة في عام 2020، ويبين التقرير الإحصائي الجنائي، الصادر عام 2020 عن إدارة المعلومات الجنائية، أن أكثر المتورطين في ارتكاب جرائم القتل العمد هم من المنتمين إلى فئة الأعمال الحرة، بنسبة 26.87% من مجمل الجناة، تليها فئة العاطلين من العمل بنسبة 12.44%، وكانت الخلافات الشخصية أو السابقة أعلى أسباب ودوافع ارتكاب جرائم القتل العمد بنسبة 47.78% من مجمل الدوافع، تلتها الجرائم بسبب الخلافات العائلية بنسبة 31.11%، والثأر 1.11%، والانتقام بنسبة 2.22%. وسُجلت 1129 جريمة اعتداء على الأشخاص في 2020 من مجموع الجرائم الكلي، وكان عددها 1177 في 2019، و1148 عام 2018.
سُجلت 22556 جريمة في الأردن خلال عام 2020
ونمت ظواهر جرمية منظمة يرعاها "الزعران" ممن يحظون بحماية المتنفذين، ومنها على سبيل المثال أعمال غير قانونية على شكل بسطات متنقلة أو خدمة ركن السيارات، كما يقول العدوان، موضحا أن نوابا يشكلون حواضن شعبية لهؤلاء الزعران، وهذا ما ثبت لديه من خلال زياراته لمقرات مرشحين خلال فترات الحملات الانتخابية، ووصل لمعلومات مفادها أن بعض النواب يدفعون رواتب شهرية للزعران في مقابل مصالح مشتركة.
وباتت العلاقات التي تربط نواباً بالزعران مكشوفة وواضحة، ما أسفر عن أثر هائل، أبرز معالمه تغير عقلية الناخب الأردني، وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية، كما يضيف عمرو النوايسة، مدير برامج تحالف راصد (مؤسسة مجتمع مدني تعمل على تعزيز المساءلة والحوكمة)، مستدلا على ما سبق بنسبة المشاركة في انتخابات مجلس النواب الأردني التاسع عشر، والمعلنة في نهاية العام الماضي من قبل الهيئة المستقلة للانتخابات، والتي بلغت 29.9%.
الإفلات من العقاب
حصل "العربي الجديد" على كتاب رسمي صادر عن النائب العام في عمان الدكتور حسن العبداللات موجه إلى مدعي عام عمان عبد الله أبو الغنم، في 26 أكتوبر 2020، لإيداع ملف القضية التحقيقية رقم 2020/6274 للمستدعي محمد عبد الحافظ العموش، الذي تعرض للضرب المبرح والتهديد وإطلاق النار من قبل شقيقه عامر عبد الحافظ العموش، لإجباره على التنازل عن حصته في ميراث والده له.
ووفق رواية الضحية لـ"العربي الجديد"، فإن شرطة محافظة الزرقاء ألقت القبض على المتهم بإطلاق النار عليه، لكن تم تكفيله على يد النائب السابق، المرشح في الانتخابات النيابية التي أجريت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 حمود الزواهرة، ما دفع محامي الضحية إلى استئناف القرار الصادر عن مدعي عام عمان والمتضمن ترك المستأنف حرا طليقا بدون توقيف رغم شروعه في القتل، وعدم وجود مصالحة أو إسقاط للحق الشخصي.
ويقول محمد إن النائب ذاته سبق أن قام بتكفيل شقيقه مرتين في عدة قضايا، ولدى تقديم محمد الشكوى، وصلت إليه رسالة تهديد، وبمواجهة "العربي الجديد" النائب السابق حمود الزواهرة نفى تدخله لتكفيل العموش نهائيا، قائلا إن لا علاقة له بالقضية ولا توجد أي صلة بينهما، وأن العموش لم يكن مديرا لمكتبه وليس من عشيرته أيضا.
وفي حالة أخرى وثقها معد التحقيق، يكشف ذوو العشريني عمر سامر (اسم مستعار بناء على طلبهم)، أنه تم تكفيله أكثر من مرة خلال السنوات الماضية من قبل شخصيات متنفذة، إثر توقيقه على ذمة جرائم سرقات وفرض إتاوات ومشاجرات وتعاطي مخدرات. وتربط سامر علاقة جيدة بأحد النواب الذي يتدخل لمساعدته قبل أن تتعقد القضايا التي يتورط فيها، لكنه موقوف منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، في سجن باب الهوى بمحافظة إربد، شمالي الأردن، على خلفية مشاجرة كبرى، بحسب العائلة.
ولا يستبعد مدير الأمن الوقائي الأسبق العميد المتقاعد زهدي جانبك (شغل منصبه خلال الفترة بين عامي 2013 و2014)، أن النواب أنفسهم ربما يكونون خاضعين لابتزازات هؤلاء الزعران، أو يحتوونهم من باب "اتقاء شرهم"، إذا كانوا يشكلون خطراً على مصالح النواب أو على حملاتهم الانتخابية.
تهديد الخصوم
يجند نواب أصحاب السوابق كأذرع تهديد للمنتقدين، كما حدث مع الصحافي أشرف الرفاعي، مدير وكالة أبشر نيوز المحلية، الذي تعرض للتهديد في مرات عديدة من قبل فارضي الإتاوات بسبب نشره مواد صحافية تتناول شكاوى ووقائع يتورط فيها متنفذون، ومنهم نواب أردنيون ورؤساء بلديات ممن يدعمون هؤلاء ويحمونهم ويكفلونهم بعد توقيفهم.
أحدث تلك الوقائع، يقول الرفاعي، هجوم تعرض له منزله، عقب حادثة فتى الزرقاء في أكتوبر المنصرم، إذ وقف أصحاب سوابق مشهرين أسلحتهم أمام البيت، والتقطوا صورا لسيارته، لإيصال رسالة له بأنه تحت أعينهم.
المجني عليهم يصمتون خوفاً من الزعران وعلاقاتهم بالمتنفذين
ولم يلجأ الرفاعي وغيره من الضحايا إلى القضاء، خوفا من تقديم شكوى بحق أحد هؤلاء "البلطجية"، وهو ما يعني الدخول في متاهة، لأن الطرف الآخر سيتقدم بشكوى يدعي فيها أنه أيضا تعرض لاعتداء وقد يضرب نفسه مثلا ليثبت زعمه.
وتكرر الأمر مع الصحافي خالد عياصرة، المقيم في الولايات المتحدة، والذي تعرض لتهديدات بالقتل بعد نشره خبرا عن شراء مرشح برلماني في محافظة جرش، شمال البلاد، عام 2013، أصوات الناخبين، ليفاجأ بمؤيدي المرشح في منزله يهددون بقتله، محجما عن التقدم بشكوى، كما يقول، خوفا من تطور الأمر إلى ما لا تحمد عقباه.
ظهور علني
بعد الحملة الأمنية التي أطلقتها مديرية الأمن العام في أكتوبر المنصرم، تداول رواد منصات التواصل الاجتماعي صوراً، نشرها أصحاب أسبقيات وفارضو إتاوات تجمعهم مع نواب وشخصيات متنفذة، منهم البرلماني في المجلس الحالي خليل عطية والذي يرد على ذلك بالقول، لا علاقة لي بأيٍّ منهم، مضيفا لـ"العربي الجديد" :"أنا شخصية عامة، ولا أستطيع منع أي شخص من التقاط الصور معي خلال مشاركتي في اللقاءات والمناسبات"، مستدركا: "ما بقدر أطلب شهادة عدم محكومية من كل شخص بتصور معي".
انتشار الصور قبل الانتخابات يرجعه عطية والنواب إلى حملات كانت تستهدف عدم نجاحهم، ويقول البرلماني رغم ذلك، الناس صوتوا لي في الانتخابات، ونجحت رغم كل شيء،.
ولا يملك عطية صلاحية التدخل للإفراج عن شخص أو تكفيله في قضايا جرمية أو فرض إتاوات كما يقول، معيدا الأمر إلى القضاء وهو صاحب القرار لا غيره، لكنه أوضح أن النواب قد يتدخلون في قضايا بسيطة مثل الإصلاح بين شخصين على خلفية مشكلة ولا يوجد بها أي جرم أو تجاوز للقانون.
ويعلق النائب الحالي أندريه مراد حواري على صور شبيهة لما وقع مع النائب عطية، قائلا: "هؤلاء ليسوا أصحاب إتاوات وإنما أشخاص محترمون وأتشرف بعلاقتي معهم ولا أنكرها".
وتضم دائرة حواري الانتخابية الأولى بالعاصمة عمّان، كل الثقافات والألوان وفئات المجتمع على حد قوله، لـ"العربي الجديد"، مضيفا لا أمنع أي شخص، وإن كان قد ارتكب جريمة إيذاء أو ضرب قبل 10 سنوات من التقاط الصور معي أو إلقاء التحية علي ومقابلتي.
ورغم أن حواري مع محاسبة الخارجين عن القانون وفارضي الإتاوات، ويدعو إلى تشديد الإجراءات في التعامل معهم، محملا الدولة مسؤولية الأمر كما يقول، لكنه في ذات الوقت أوضح بأنه سبق وتدخل في بعض القضايا، مثل الإفراج عن شاب أوقفه المحافظ إدارياً بشكل احتياطي بعد صدور قرار المحكمة في قضيته، قائلا :"أتدخل لمصلحة "الغلابة" فقط".
استغلال النفوذ
تعرض الناشط الاجتماعي عامر راجحة للتهديد بشكل مباشر من قبل النائب السابق في المجلس الثامن عشر (2016-2020) عزيز العبيدي، بعدما نشر بطاقة أصدرها مركز راصد عن أداء النواب خلال الدورة البرلمانية.
وقال راجحة إن العبيدي، الذي ترشح أيضا لانتخابات المجلس التاسع عشر ولم يفز، تواصل معه هاتفيا بشكل مباشر وأساء إليه وهدده بالقتل، بينما سجل راجحة المكالمة، واستنادا إليها تقدم بالشكوى رقم 2020/16467 لدى محكمة صلح جزاء عمّان بتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 بحق العبيدي، والقضية منظورة أمام القضاء.
وبالمقابل يرد العبيدي نافيا تهديده لراجحة، قائلا لـ"العربي الجديد"، إنه لم يتصل به ولا توجد أي صلة بينه وبين الأخير، محملا إياه مسؤولية ادعاءاته.
ويعتبر أستاذ علم الاجتماع، الدكتور حسين الخزاعي، أن الزعران يستغلون القانون، بالإضافة إلى علاقاتهم مع المتنفذين، القائمة على المصلحة المتبادلة، إذ يقوم المسؤولون بمن فيهم النواب، بتسخير "البلطجية" للقيام بأعمال تعود عليهم بالمنفعة الشخصية، مثل توفير الحماية لمصالحهم أو الحراسة أو توكيلهم بالحملات الانتخابية أو قضايا التهديد والابتزاز، فيما يستفيد الطرف الآخر من الحماية والمساعدة في حال تم ضبطه وتوكيل محامين والضغط باتجاه الإفراج عنهم أو تخفيف العقوبة بحقهم، وهو ما كان واضحا قبل عامين عند ضغط نواب لشمول فئات أكبر من المجرمين في العفو العام وتخفيف الأحكام القضائية بحقهم في قضايا قتل واغتصاب ومخدرات.
وتعدّ الواسطة واستغلال النفوذ من الظواهر السلبية المنشرة في الأردن بحسب المحامي مشعل الرقاد، مقدم متقاعد من الأمن العام وقاضي شرطي سابقاً، ومحقق سابق في هيئة مكافحة الفساد، صاحب دراسة "جريمة المتاجرة بالنفوذ وإشكاليات التطبيق" التي أجريت عام 2017. ويوضح الرقاد أن قانون هيئة النزاهة ومكافحة الفساد رقم (13) لعام 2016 يجرّم الواسطة في المادة (16) فقرة (7) والتي تنص على أنه "يعتبر فسادا قبول موظفي الإدارة العامة للواسطة والمحسوبية التي تلغي حقا أو تحق باطلا". لكنه لم يضع أي إجراء قضائي لجرائم المتاجرة بالنفوذ.