مذاقات زائفة.. تسويق الطعام الفلسطيني كاسرائيلي

05 ابريل 2015
الأطباق العربية والفلسطينية في دائرة الاستهداف (حازم بدر/فرانس برس)
+ الخط -

قبل أيام كتبت في هذا المنبر عن اسم فلسطين ومحاولات إسرائيل، وحلفائها، المستميتة محوه من الوجود. يمكنهم قبول اسم "المناطق الفلسطينية"، التي تشير إلى الضفة الغربية، أو بالأحرى، بعض أجزائها، ولكن ليس اسم فلسطين.

الأسوأ بالطبع اسم الفلسطينيين. هذا الاسم لم يكن موجوداً، كما يقول "مؤرخو" الاحتلال، ومن لفَّ لفَّهم. كان هناك "عرب" في فلسطين، أو "أرض إسرائيل" ولكن لم يكن هناك فلسطينيون! لأنَّ هذه التسمية لا سند لها في التاريخ. وبما أن لا سند تاريخياً لهذه التسمية تسهل سرقة أرض لا اسم لها. وطرد شعب لا اسم له.

وتمكن نسبة كل ما هو موجود في هذه الأرض المسروقة إلى السارق الذي لا يجرؤ أحد في العالم على القول إنه سارق. وفي إطار هذه السلسلة الممنهجة من محو الاسم، وأناس هذا الاسم وثقافتهم، هناك اليوم سرقة كاملة وعلنية لمطبخه وأشجاره وأعشابه.

من يتسوَّق في المتاجر اللندنية الكبرى لا بدَّ أنه لاحظ، مؤخراً، وجود عدد خاص من مجلة تعنى بالطعام حمل عنوان "مذاق إسرائيل" وزعته سلسلة متاجر "ويت روز" البريطانية الشهيرة. هذا العدد من المجلة الصادر بالتعاون مع مكتب السياحة الإسرائيلي الحكومي، مكرس لما سمته المجلة "مذاق إسرائيل"، وهو مذاق متنوع يبدأ بالطعام والشراب والأشجار وينتهي بالأرض والمواقع التاريخية فيها.


هناك كل شيء يخص الفلسطينيين في هذا "المذاق" ولكن من دون إشارة إليهم. هناك كل شيء يخص العرب ولكن من دون لفظ اسمهم. ثمة ثلاث لحظات عرفتها هذه البلاد: الأزمنة التوراتية، الحكم العثماني، ثم الانتداب البريطاني الذي انتهى بالاحتلال الإسرائيلي. غير ذلك هي لحظات "فراطة" لا تشكل تاريخا يعتد به.

تقول المجلة، التي أثارت استياء النشطاء البريطانيين المؤيدين للحقوق الفلسطينية، إن المطبخ الإسرائيلي شاب مثل هذه البلاد الشابة، لكنه يعود في التاريخ، مثلها، إلى أزمنة التوراة. لكن ما هو المطبخ الإسرائيلي؟ ها كم الجواب: في الإفطار صباحا يمكنكم تناول "الشكشوكة"، فهي صحية ومغذية ففيها الخضار (بندورة) وبروتين (بيض) وتؤكل بالخبز (كاربو هيدرات)، فأي طعام "متكامل" تبدأ به نهار عملك مثل هذا؟ عندما تكون في الشارع وداهمك الجوع، ليس هناك أفضل من سندويشة فلافل أو شاورما تسكت بهما جوعك، ريثما تجلس إلى الغداء أو العشاء. إن كان لديك بعض الوقت وأردت أن تتناول غداء خفيفاً في المطاعم الشعبية فيمكنك أن تطلب، الفلافل، الحمص واللحمة المفرومة والفول وبعض المخللات.

وبما أن هذه البلاد "متنوعة"، وفيها شعب قادم من أربعة أركان الكرة الأرضية بوسعك، بالطبع، أن تتناول الكسكي أو الطواجين المغاربية على العشاء. وهذا طبعاً طعام يهودي من شمال أفريقيا!
"مذاق إسرائيل"، الموجه للسائح البريطاني، لا يتعلق بالمطبخ، فقط، وإن كان هذا يحتل موقعاً أساسياً في الحملة الترويجية للسياحة في "إسرائيل"، فهذا الطعام لا بدَّ أن يؤكل في مكان ولهذا المكان تاريخ بالطبع. سيسأل السائح البريء، الذي لا يعرف شيئاً عن تاريخ هذا المكان المتوسطي، المشمس، الذي يزوره هروباً من قتامة سماء بريطانيا، لمن ولأي تاريخ تعود هذه البيوت القديمة، الأحياء العابقة بعتاقة وتاريخ وبشر تركوا بصماتهم عليها، الآثار التي تلوح هنا وهناك؟ ستجتهد المجلة المكتوبة بوعي صهيوني شرير يتجاهل، كلياً، تاريخ المكان وأهله، بالقول: أوه.. هذه الأمكنة.. إنها عثمانية، فالعثمانيون، كما تعلمون، كانوا يحتلون "أرض إسرائيل" نحو خمسة قرون.


المثال الساطع على المراوغة الإسرائيلية الوقحة حيال تاريخ المكان الذي يتجول فيه السائح المدعوّ من قبل مكتب السياحة الإسرائيلي الحكومي، هو مدينة عكا. فلا شيء في عكا، التي هزمت حملة نابليون على بلاد الشام، عربي، ناهيك بالطبع أن يكون فلسطينياً. هناك وصف لمعالم المدينة، التي لو كانت تخشى هدير البحر لما جاورته، كما يقول المثل الفلسطيني، لكن ولا كلمة عن تاريخها العربي الفلسطيني. فهي إما ذات ملامح معمارية عثمانية، أو صليبية (مثل القلعة). ولكن لا شيء عن مظاهر من العمارة العربية الفاطمية، مثلا. تسمي المجلة، مدينة أحمد باشا الجزار، "عكو" موحية، ربما، بعبرية في الاسم فيما هو اسمها الكنعاني القديم الذي يعني الرمل الحار.

يقول محررو مادة عكا في "مذاق إسرائيل" إنها مدينة مستمرة في الوجود منذ أكثر من أربعة آلاف سنة. لكن هذا لا يعني أنها "توراتية"، حتى لو ورد اسمها في التوراة، فهي موجودة قبل التوراة، وقد تقلب عليها شعبان هما، في الواقع الإثني واللغوي، شعبان شقيقان: الكنعانيون مؤسسو المدينة وأهلها، والفينيقيون الذين ألحقوها بحكمهم بسبب الأصداف التي تستخرج منها الأصباغ الزرقاء والحمراء الموجودة بالقرب منها.

لم تبق قوة كبرى إلا احتلت عكا، بسبب موقعها الاستراتيجي الذي يربط بلاد الشام من جهة وبمصر من جهة ثانية، ولكن لم تدم قوة فيها: من الاسكندر المقدوني الذي سكَّ باسمها النقود، والبطالمة، خلفائه على مصر، مروراً بسنحاريب وأشور بانيبال العراقيين، وهيرودس ونيرون الرومانيين، والفرس لفترة وجيزة، وصولا إلى معاوية بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة العربيين. لكن الأنكى من كل ما سبق من تزييف، وغيره، مما لا يتسع المجال لذكره، هو حديث المجلة عن أشجار الزيتون التي تقول إنها تُشاهد في كل مكان في "إسرائيل" وبعضها يعود إلى نحو ألف سنة.

أتذكر أن محمود درويش قال لي مرة، ونحن نتحدث عن علاقة المحتلين اليهود بالأرض التي احتلوها، إن أكثر ما يكرهونه في أرض فلسطين هو أشجار الزيتون. فقد عمدوا منذ احتلالهم فلسطين عام 1948 إلى قطع أعداد هائلة منها، وزرع برتقال أو أشجار فاكهة أخرى مكانها.
لقد بقيت أشجار الزيتون في فلسطين الـ 48 بسبب تمسك الفلسطينيين بها. فهذه هي شجرتهم الوطنية وبيت مؤونتهم.
المساهمون