حكواتي: حقائب أختي وكيس الغسيل

10 ديسمبر 2014
انخلعت مسكات تلك الحقائب (Getty)
+ الخط -
انخلعت مَسكات تلك الحقائب وتمزّق سحّابها وانفجرت على الأرض، وتتطاير النعنع اليابس والسماق الكردي والأقراط والقلائد المُشتراة من حي الجديدة الشهير في حلب. وتفتّتت ألواح صابون الغار وتبعثرت أكياس الزعتر الحلبي والفريكة ودبس الفليفلة والملوخية المجففة وبهارات سوق المدينة قرب القلعة في وسط الشارع أمام فندق النيل وسط مدينة غازي عنتاب، فانفضحت أسرار العائلة الغذائية خصوصاً، المهرّبة عبر الحدود التركية ـ السورية. 

كان ينقص تلك الفضائح، حقيبتي الباريسية، التي راحت توبّخني إذ انخلع دولابها وأنا أحشر أوزاناً فائضة عن طاقتها، وأجرّها خلفي من باريس حتى مطار شارل دو غول، ثمّ من مطار أنطاكيا حتى الفندق، ولاحقاً من الفندق إلى كاراج أنطاكيا، ومن الكاراج إلى كاراج آخر في غازي عنتاب. فضيحة حقيبتي تُضاف إلى إرث العائلة الجديد، حيث ثقافتي المُكتسبة في سنوات المنفى في باريس، ميداليات برج إيفل وقلائد وعطر "جيفنشي" بناء على توصيات صبايا العائلة النازحات من حلب، و"البو غوليه" الفرنسي من دون شك.

توقّف السائق خاضعاً لصوتي الذي كاد " يفلجه" وأنا منهارة عصبياً تحت عبء الحقائب. هرع موظفو الفندق لنجدتي، أو نجدة السائق التركي ربّما، وهو يقذف بالحقائب على الأرض بعصبية، لأنني لم أسمع لنصيحته، بأن يأخذني إلى فندق رخيص، قلقاً على أموالنا، نحن المساكين اللاجئين القادمين من سورية! أختي، الحريصة على عدم تضييع الإرث الحلبي، كانت مهمتها توزيع حمل الحقائب علينا، وعدّها في كل مرة ننزل فيها من سيارة أجرة للفندق وبالعكس، في رحلة بحثنا عن مدينة نستقرّ فيها، إذا استطعنا الاستقرار.

أختي الحريصة إذن، لديها رهاب فقدان الحقائب، بعدما فقدت كيس الدواء و"كروزات" الدخان على معبر باب الهوى الحدودي ، في كل مرة، تصرخ بنا ونحن على وشك مغادرة المدينة. آخر صرخة كانت، "كيس الغسيل بقي في الأوتيل"!

كيس الغسيل الذي حشرَتْ أختي فيه ملابسي التي رأتني أرتديها ولو لمرة واحدة، من دون علمي، ظلّ عالقاً في الفندق لأكثر من أسبوعين، بعد أن ذهبنا إلى مدينة أورفا، ومنها إلى مرسين. وظلّ في عهدة " شوكت"، الموظف الكردي في الفندق الذي وعدني بالمحافظة على الكيس القماشي الهائل الحجم، الذي حوى ـ يا للحظ ـ أحذية راما!

بعد أسبوعين من التفتيش عن منزل في مدينة مرسين، ونحن نجرّ الحقائب ذاتها، من فندق إلى آخر، ثم إلى منزل صديقة سورية أصرّت على استقبالنا وتوفير مالنا، نحن السوريين المساكين. يا للحظ أيضاً، عندما قصدنا منزل صديقنا السوري الذاهب بدوره إلى فرنسا، سألته، ماذا عن البيت؟ فأجاب أنّ صاحبه سيؤجره. وهكذا صار بيت صديقنا لنا.

في ليلة الوداع، ونحن نتسلم البيت من الصديق السوري، كان كل تركيزي على الحقائب. حقائب زوجته وابنتيه وحقائبه، وحقيبتي، وحقائب أختي، وحقائب الأهل. كان حضور الحقائب والبقج المفلوشة وشراشف السرير والستائر وقطرميزات المربّى ودبس البندورة وأكياس المونة وأحذية الفتيات وكمبيوترات كثيرة وأجهزة هواتف محمولة، ومجموعة من الأدوات التكنولوجيّة، أكبر من عددنا نحن المنتظرين بين رحيل وإقامة.

إلا أنّني لا أزال أفكر، فيما إذا كان أحد أغراضنا دخل بين أغراض الصديق، وذلك بسبب زحمة الحقائب، بعد أن نسيت زوجته هاتفها المحمول في المنزل، وظلّ زوج حذاء ابنته المرمي في اللحظات الأخيرة للوداع، مستلقياً في الشرفة، ولا تزال حتى اللحظة، الكثير من أغراض الصديق والفتاتين، لا تعرف مصيرها في منزل سكنه سوريون جدد، ينتظرون دورهم للرحيل. وإلى أن يأتي هذا اليوم، وربّما قريباً، لا بدّ أن نكون علمنا ما إذا فقدنا إحدى حقائبنا وسافرت مع الصديق. أو ربّما سيعود ذلك الكيس، كيس الغسيل الذي نسيته أختي في الأوتيل.
المساهمون