في ظل هذه الظروف، فإننا نجد أنفسنا على أعتاب فقدان مجموعة من الثقافات المهمشة في سورية، التي كان الضامن الوحيد لاستمرارها هو ممارستها، ومنها الثقافة البدوية السورية، التي تم التعاطي معها على مدار تاريخ البلاد الحديث كثقافة أدنى، فأُغفل توثيق معظم مكوناتها.
اقتصر توثيق فنون هذه الثقافة على توثيق الشعر، بما فيه أبيات الشعر المغنى، عن طريق مجموعة من الكتب، التي ساهمت وزارة الثقافة السورية بنشرها، من دون أن تعطى أي أهمية للموسيقى التي ترافق الكلمات، ولم يتم حتى اليوم تسجيل أغاني البدو السوريين وحفظها في أقراص مدمجة أو ما شابه؛ فأغاني البدو التراثية تنتقل من جيل لآخر من خلال التواتر الشفوي، ولذلك فإن بقاءها كإرث ثقافي مقترن باستمرار حياة أبناء البدو، وتمسك هؤلاء بثقافة آبائهم والدفاع عنها، وعدم انخراطهم بالتغييرات الديموغرافية في الداخل، وعدم اندماجهم بالثقافات التي تعتبر عليا في الخارج.
وبالنسبة للأغنية البدوية السورية، أو الأغنية الصحراوية، كما يحلو للبعض تسميتها، فهي أغنية تشيع في البادية السورية الشرقية والجنوبية، وترافقها في الغالب آلة الربابة الوترية، وآلتا المزمار والمجوز النفخيتان، وكذلك آلة الدف الإيقاعية؛ وأشهر أنواع الأغاني البدوية "القصيد"، وكلماته أقرب إلى اللغة العربية الفصحى، وتنظم على البحر الطويل أو بحر الرمل، وله أكثر من عشرة ألحان مختلفة بحسب توزع القبائل، ومنه "الشروقي" و"الهجيني".
ورغم أن توثيق "القصيد" اقتصر على توثيق بعض أشعاره، وبعض الدراسات النظرية عن أنواعه وبحوره، ولم يتم تسجيله وتوثيقه كمادة سمعية، إلا أن بعض الفنانين السوريين اجتهدوا في إحياء ونشر هذا التراث، مثل الكاتب السوري عدنان العودة، الذي روّج لهذا النوع من الفن في أمسياته الثقافية التي قدمها في أماكن متعددة من العالم؛ وكذلك ساهم بعض المغنيين بتسجيل بعض أغاني التراث البدوي السوري، ابتداءً من اللبنانية سميرة توفيق التي أدت العديد من أغاني التراث البدوي السوري، مثل "يا عين موليتين"، وكذلك رشا رزق، التي قدمت أغنية "بيا ولا بيك"، وحافظت فيها على اللهجة البدوية الأصيلة، وغنت مقطعاً كاملاً من الأغنية بالطريقة التقليدية، قبل أن تقحم على الأغنية آلات هجينة على الثقافة البدوية؛ وكذلك ساهم بإحياء هذه الفرق العديد من فرق "الأندرغراوند" السورية، وأهمها فرقة "الصعاليك"، التي تقيم حفلات بشكل مستمر في بيروت، وتقدم في حفلاتها أغاني من التراث البدوي.
وفي لقاء خاص مع محمد خياطة، عضو في فرقة "الصعاليك" السورية ورسام يقيم معارض فنية آخرها كان معرض "أم الزلف" الذي استوحى فيه لوحاته من حياة البدو، تحدث عن أهمية توثيق أغاني البدو، وقال: "إن أهمية أرشفة وتوثيق الأغاني البدوية تتعلق بناحيتين، الأولى أرشفة الأنماط الموسيقية التراثية السورية، والألحان والمقامات، والثانية هي توثيق اللغة والشعر العربي الذي ينقله ويتداوله البدو، ويعبرون به عن معيشتهم وسفرهم وحياتهم التي تعد من أصعب أنواع طرق العيش؛ ومن خلال هذه اللغة نستطيع معرفة آلية تفكير البدو، الذين تتناقص أعدادهم بشكل مستمر إلى زوال، فهم يستخدمون أسماء النجوم كإشارات مكانية أو زمانية، ولهم خصوصية لغوية. وتوثيق هذه الحضارة أمر بغاية الأهمية، ولا سيما أن البدو يعتبرون أنفسهم العرب الوحيدين الحقيقيين، وأنهم وارثوا المجد العربي".
ولكن، ورغم وجود عدد كبير من الأغاني البدوية التي سجلت وحفظت بفضل جهود الفنانين الفردية، إلا أن أغلب هذه التسجيلات لم تحافظ على الأغنية بشكلها الأصلي، وشوهت الموسيقى البدوية من خلال إجراء بعض التعديلات، لتسهل إدخالها إلى عالم الحداثة والثقافة الاستهلاكية، فأدخلوا للأغنية البدوية عددًا كبيرًا من الآلات الموسيقية، كالعود والبزق والغيتار والكمان والدرامز والموسيقى الإلكترونية أيضًا، لتبدو الموسيقى البدوية، بحسب التسجيلات، مختلفة عن طبيعتها الأصلية، فهي لم تعد موسيقى متقشفة، ولم تعد تعبر عن حياة البدو المتقشفة أيضًا.
يقول خياطة في توصيف الأغاني البدوية التي تؤديها فرقته: "اللحن الذي نقدمه أكثر تعقيداً من ألحان تراث البادية، وذلك لأن الموسيقى التي تقدمها فرقتنا تعبر عن عصرنا وحياتنا دون أن ننسى إرثنا الثقافي، فنحن ندمج الموسيقى البدوية بأنماط موسيقية أخرى، ولاسيما أن طبيعة الفرقة قائمة على الدمج بين الأنماط الموسيقية الغربية".
ولذلك، فإن الموسيقى البدوية بحالتها الصرفة تبقى واقفة في مهب النسيان، ويقتصر حضورها بالحالة الصرفة على بعض المسلسلات الدرامية التي تناولت حياة البدو، وصورت في بعض المشاهد مقاطعاً من بعض الأغاني.
يقول خياطة بخصوص إمكانية تصوير حياة البدو: "إن تخلف العرب عن الغرب بضعة قرون، له فوائده كما له سلبياته، فهذا التأخر أو التخلف أتاح لنا فرصة تصوير حياة أجدادنا من خلال هؤلاء البدو الذين لا يزالون يعيشون خارج إطار الحضارة الصناعية؛ فوجود هؤلاء البدو يحمي ثقافتنا من النسيان، وبالتالي فنحن محظوظون لأننا نعرف أغاني تراثنا من خلالهم، في حين لا يذكر الأوروبيون أغانيهم التراثية، فلم يتح لهم التقدم الصناعي السريع المحافظة على تلك المكونات الثقافية".
هنا يكمن السؤال: لماذا لا يستفيد العرب من التقنيات الصناعية الحديثة من حفظ تراثهم؟ وهل سيمحى هذا الإرث الثقافي مع اندماج البدو في الحياة المدنية؟ وما العائق الذي يمنع المؤسسات الثقافية العربي من أرشفة وتوثيق فنون هذه الثقافة؟ أم أن المثقفين العرب يستعرون من إرثهم الحضاري؟