كيف تكون مخرجاً معادياً للاحتلال... وموزع فيلمك صهيوني؟

19 فبراير 2020
"عرب بلوز" من الأفلام المدرجة في المهرجان (تويتر)
+ الخط -
انسحب فيلم "حديث عن الأشجار" من مهرجان "سينما الشرق الأوسط" الذي أطلقه الاحتلال الإسرائيلي على أرض مدينة القدس. يبدو هذا الأكثر وضوحاً حتى الآن، مع تسريبات بانسحاب فيلم "ما زلت أختبئ كي أدخن".

لكن زيارة للصفحة الإلكترونية للمهرجان، تشير إلى حذف فيلمين إلى جوار فيلم "حديث عن الأشجار" للمخرج صهيب قسم الباري، وهما "ما زلت أختبئ كي أدخن" للجزائرية ريحانة، و"أريكة في تونس" لمنال العبيدي.

كل هذه الاصطدامات وردود الفعل تطرح القصة ذاتها في كل مناسبة ثقافية للاحتلال، مفادها "نحن لم نكن نعلم".
المخرج السوداني صهيب، نفى أي علم له بمشاركة فيلمه في الدورة الأولى من المهرجان الذي دشنه الاحتلال من الإثنين الماضي ولمدة ستة أيام.

تدوينة طويلة على صفحته في فيسبوك قبل أيام، تشرح تغييبه عن تحرك الفيلم، الذي أخرجه برشح الأفكار والجبين، إذ يراه يدور العالم مع الشركة الفرنسية المنتجة، دون أن يعرف أين وكيف ومتى. كذلك استنكر صهيب بقوة دعم الاحتلال، مستعيداً عبارة نيلسون مانديلا "إن حريتنا منقوصة من دون حرية الفلسطينيين".

سحب الفيلم، لكن بالتساوق مع ذلك حذفت التدوينة من فيسبوك، ورفض صهيب الإدلاء بأي تصريح صحافي.

العقد في الدرج
والحال في مصر تفيد بأن عرض فيلم "المومياء" في المهرجان غداً الخميس، قد يكون عن طريق مؤسسة World Cinema Foundation التي أسسها المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي، وقد وقعت عقداً مع وزارة الثقافة المصرية لترميم الفيلم في معامل سينماتك بولونيا بإيطاليا، مع تصريح مصدر في الوزارة بأنه ينبغي الرجوع للعقد، الموجود في دُرج ما من أدراج الوزارة، لمعرفة إن كان فيه بند يعطي هذه المؤسسة الحق في عرضه.

ويستطيع المتابع بجهد قليل (أقل من العثور على دُرج في وزارة ثقافة عربية) أن يلحظ سعي الاحتلال الإسرائيلي الحثيث إلى تسجيل نقاط اختراق، في كل مناسبة ثقافية يقيمها، ومن ذلك المهرجانات السينمائية.

إنه ككل كيان استعماري استيطاني، لا يترك طريقاً إلا سلكه ليجعل من وجوده أمراً طبيعياً، مألوفاً.

لا تصف كلمة "تطبيع" بورتريه على حائط، وتمضي، بل هي متحركة، متعلقة كل يوم بقوة استعمارية تفحص المناطق الرخوة للاختراق، فيكون الربح والخسارة بحسب قوة الضغط وإمكانية الاستجابة.

لكن، أيضاً ككل مناسبة سينمائية للمحتل، هناك مناطق معتمة، يطلع منها المخرج ليقول إنني لا أعلم.

ونسبة الذين لا يعلمون أكثر بكثير من الذين يعلمون. الأمر هنا لا ينطبق مثلاً على المخرج اللبناني زياد دويري، الذي ببساطة يقول في لقاء قبل سنوات بشأن فيلم "الصدمة" الذي صوره في إسرائيل، إنه بحث عن مكان لإنجاز فيلمه، فوجد أن لا لبنان ولا الأردن ولا مصر، تستطيع التحدث بالعبرية اللازمة للفيلم،  لذلك لا بد من تل أبيب.

بيد أن جل المخرجين ممن تتكرر حكاياتهم في المهرجانات الإسرائيلية، يقولون إن هناك من خبير أكثر منا: المنتج، والموزع.

دور الموزع
يقول المخرج السينمائي الأردني إيهاب الخطيب، والمدير الفني لمهرجان "كرامة" السينمائي إن مشاركة أي فيلم في أي مهرجان، لا بد أن تكون بموافقة الموزع أو المخرج، أو المنتج.

يضيف "عادة يكون للفيلم أكثر من موزع، لعرض الفيلم في دور السينما والمهرجانات والتلفزيونات... إلخ. كل موزع يغطي منطقة معينة في العالم. فمثلاً هناك موزع للشرق الأوسط، وهذا ليس بالضرورة موزع الفيلم في أميركا، أو شرق آسيا، كما يمكن أن يتفق على موزع للفيلم محدد فقط للمهرجانات". 

ويفيد الخطيب بأن الاتفاق قد يتضمن حق المخرج في المشاركة بالمهرجانات من دون الرجوع إلى الموزع والمنتج، أو بالتنسيق معهما حسب شروط العقد.

ويرى المتحدث أن على الموزع إخبار المخرج عن مشاركة فيلمه بالمهرجانات، وغير ذلك من أمور، حتى يكون على معرفة، يان يتحرك فيلمه، وله بالتالي حق الاعتراض أو رفض المشاركة والحضور.

"إلا أن الخلافات التي تنشأ في هذا الشأن، مردها إلى تصرّف الموزع في الفيلم منفرداً (أو هكذا يقال أحياناً) لذلك أرى أنه ينبغي البحث عن موزع يتوافق مع وجهة نظر المخرج وبالتالي الفيلم، هذا الأمر يختلف عن تثبيت التفاصيل الحقوقية في العقد. إذ كيف يكون مخرج الفيلم معادياً للاحتلال، وموزعه صهيوني الهوى؟"، يضيف الخطيب.

جرجرة فيلم
بخصوص الفيلم الذي أعلن سحبه من مهرجان الاحتلال الإسرائيلي، يقول الخطيب إن موقف المخرج صهيب الباري الرافض للاحتلال والمشاركة بمهرجان في القدس المحتلة، "كاف للرد على المشككين. وفيلمه -بالمناسبة- مهم وحساس ويعبر عن ثراء الثقافة السودانية ونضال مثقفيها وثباتهم. وإذا كان من أحد ينبغي سؤاله، فهو موزع الفيلم الذي أوصله لمهرجان الاحتلال. أراه فخاً قصد منه جرجرة الفيلم، في غمرة التطبيع الرسمي الذي حدث في لقاء عنتيبي".

أما في شأن فيلم "المومياء" (1969) فيقول الخطيب إنه بات إرثاً إنسانياً، بوصفه من عيون السينما العالمية، إلا أن "سخافة الاحتلال، جاءت من توقيت عرضه، بُعيد وفاة الفنانة نادية لطفي، والإعلان الإسرائيلي أن الفيلم بمشاركتها، وهي التي عاشت وماتت ثابتة على موقفها من القضية".

وأخيراً دعا المخرج الخطيب إلى إعادة النظر في العلاقة بين صناع الأفلام العرب والموزعين الأجانب "لأننا دائماً نسمع ذات الرد في عدم معرفة كيف ومن أرسل أفلامنا؟ لكأن المخرج أو المنتج ليسا صاحبي قرار. هناك وقحون وهناك من يتورطون في مستنقع التطبيع، والتاريخ لا يحمي الغافلين"، على حد تعبيره. 

كين لوتش
في عام 2016 سجل تاريخ السينما حصول فيلم "أنا دانيال بليك" للمخرج البريطاني كين لوتش على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي. 

ولوتش يعرفه الاحتلال الإسرائيلي كما يعرف العرب مواقفه الصلبة الداعمة للشعب الفلسطيني، ولمقاطعة إسرائيل، أسوة بالمقاطعة السابقة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. 

في العام الموالي، 2017، عرض فيلمه في إسرائيل، وسئل وقتها عن التناقض بين مواقفه المقاطعة وبين عرض الفيلم في دور السينما الإسرائيلية، فقال لصحيفة "ذا غارديان" البريطانية "طلبنا بشكل صريح عدم بيع الفيلم لإسرائيل، لكن ممثلين شباباً لشركة الإنتاج تسرعوا وباعوا الفيلم في أجنحة المهرجان بسرعة، دون الرجوع إليه.

غير أن المخرج البريطاني، وقد خرج الأمر من يده، قرر أن يستلم عائدات فيلمه من دور السينما الإسرائيلية، والتبرع بها لحركة مقاطعة إسرائيل BDS، دعماً للنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. 

"لا تظهروا في بلد يقوم على الفصل العنصري"، هذه العبارة اشتهرت على لسان كين لوتش.
ومع ذلك هناك من يظهرون سواء بإراداتهم أو بسبب زحلقة فكرية غير محسوبة.

وفي الجملة، لا تكف إسرائيل عن محاولاتها استغلال ما تراه مناطق سهلة العبور، إما عن طريقها مباشرة، وهذا سهل مع الأنظمة وصفقات ما تحت الطاولة وفوقها، وإما عن طريق تمييع الثابت، وجعل الظلم نسبياً، واستدراج الإبداع ليكون عالمياً، باسم الهوية المفتوحة على الكون، أو ميكروسكوبية تابعة، بينما تبقى هويتها الاستيطانية مقدسة، ذات عمود فقري محسوب فقرة فقرة، وفوق المقارنات.

المساهمون