نموذج نانسي عجرم... تنويعات على مقام "دكر ابن دكر"

24 ابريل 2019
"الراجل" في كاريكاتير لـ كريس وير (Getty)
+ الخط -
مع أغنية نانسي عجرم "راجل ابن راجل" تفكّر بأن تفتح باب أرشيف طويل عريض من الغناء الوظيفي، الدعائي (الرخيص والغالي) أو الذي يتطوع محبة وإيماناً أو تزلفاً، لمديح التيجان، والبلاطات، والعروش.

فكما يمكن الافتراض أن الرسام الشهير سلفادور دالي يعرب عن إيمانه من القلب، بالجنرال فرانكو بوصفه رمز إسبانيا، وقوله للمقارنة: "ماذا تساوي فرنسا من دون لويس الرابع عشر؟"، يمكن الافتراض أيضاً أن المغني يذهب بكامل قواه الروحية لمديح من يؤمن به، أو أنه يستدعى فيلبّي الطلب، دون أن نكشف عن قلبه ونقيس منسوب الإيمان فيه.

قد يؤمن الفنان بأنه صنو الزعيم. الزعيم إله على جبل، والمبدع على جبل يقابله، ويتبادلان الاعتراف والتقدير. حدث هذا مع نموذج المتنبي الذي حافظ على غروره وتمجيد الزعيم في المقابل. ويحدث ألا يكون المبدع على جبل عالٍ، بل في متناول اليد، مثل أي سكين فواكه في المطبخ.

يمكن أيضاً للمغني أن يذهب برجليه ويغني للسلطة، القائمة بأجهزتها ومؤسساتها، أو القائمة بأحلامها (غيفارا).

 فهذه الآنسة أم كلثوم تغني عام 1937 في عيد ميلاد الملك فاروق من كلمات أحمد رامي، وألحان رياض السنباطي:

طلع السعد عليها يوم ناداها البشير، قائلاً فاروق هلَّ

ونمى البشر إلينا يوم وافانا السرور بهلال قد تجلّى

غير أن نانسي، وهذا الباب الذي ينفتح، قد تدفعك للقول إن الأمر كله معيب ولا يستحق. فأنت ذاهب نحو ورطة، لا محالة، في المقارنة التي تضع نانسي مقابل أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب ونجاة الصغيرة، على سبيل المثال، وأغاني هؤلاء للزعماء بالمعيار التقني، وليس الفني، بما هو فن، أي أنه ضمير ثقافي وأنفة إبداعية، تقف على مسافة من أي فخامة أو جلالة أو سموّ.

والحال أنك تورطت، فستسأل: كيف أبدع محمد عبد الوهاب عام 1933 لحنه الباذخ الملعون، لقصيدة "يا شراعاً وراء دجلة يجري في دموعي تجنبتكَ العوادي"؟ ولمن؟ لأمير الشعراء أحمد شوقي. ويظل شراع عبد الوهاب سائراً على النهر "كالمسيح رويداً"، حتى يصل، بعوده فقط، وصوته السماوي إلى القول في تبجيل الملك فيصل ملك العراق:

تحت تاج من القرابة والملك على فرق أريحيٍّ جواد

ملكُ الشط والفراتين والبطحاء أعظم بفيصل والبلاد

وفي بداية سبعينيات القرن الماضي ستغني نجاة الصغيرة للملك حسين، ملك الأردن من كلمات الشاعر حيدر محمود وألحان محمد الموجي "نحبّه كما تحب الزهرةُ الندى، والنغمةُ المدى، والنهرُ ماءه الذي تعوّدا".

وستتبعها فايزة أحمد عام 1975 من كلمات الشاعر نفسه، ولحن محمد سلطان في العيد الأربعين للملك، تغني:

تزهو بعباءات الفرح الأخضر والشالات الوردية

يا هاشم فاسهر بين رماحك راية عز نبوية

وهذه نماذج تحفل بأسماء من الطبقة الأولى، شعراً وغناء وموسيقى، والنتيجة أغنيات رفيعة، مشغولة، لكنها لا تصلح غالباً لعبور الزمن، كما تعبر دائماً أغنيات فيروز، الموجهة للأوطان والمدن العربية.

ذلك أن الموقف من الأغنية التي تخاطب زعيماً، محكوم بوجوده، وبالتالي وجود السلطة. فإذا غاب وغابت تضاءلت فاعلية الأغنية، حتى تختفي أو تتراجع إلى الأرشيف.

ورغم ما قد يكون فيها من إبداع عال، تظل خارج السيرة الذاتية، أو على هامشها البعيد، ويحرص المغني على الزهد في ذكرها، ولا يحرص محبوه على تذكيره بها.

هناك صفقة غير مرئية وغير مسموعة، بين الفنان ومريديه، تقضي بأن تكون صورته وصوته شراكة بين الطرفين، وخالصة لوجه الفن. هناك حبيب "زرتُ يوماً أيكه" يبقى إلى الأبد حبيباً، ويبقى الأيك عامراً بخضرته.

ثم أين مكمن الحرج؟ إنه بالضبط حين يضم الأرشيف تمجيداً للزعيم، ويموت، أو يطرد من الحكم، أو يسجن، ولا يموت المغني، ويأتي زعيم آخر، ويغنى له بوصفه هدية من السماء مكتوبة في اللوح المحفوظ.

ففي بعض الأحيان تكون هدية السماء ملكية، ثم تندلع ثورة فتصبح جمهورية، وفي كلا الحالين يغني المغني، على مقام عفا الله عما سلف، وإذا كان مصطلح "التطبيل" حاضراً، فإن الطبلة التي طبلت في العهد "البائد" سخّنوها من جديد لخدمة العهد "الزاهر".

خذ مثلاً، الموسيقار الموهوب والمثقف عمار الشريعي، الذي تُذكر معه موسيقات مسلسل "رأفت الهجان"، وفيلم "البريء" والكثير الكثير، هو ذاته من لحّن أوبريت "اخترناه" للرئيس المخلوع حسني مبارك. وقتها عقب انتخابه لولاية رابعة عام 1999، كان المسرح يعج بالمغنين من محمد العزبي حتى لطيفة التونسية.

"ده ابن بلدنا وهوه قائدنا وبدانا المشوار وياه واحنا معاه لمشاء الله" لكن الله شاء أن يأتي بثورة يناير، ويشاء أن ينزل عمار الشريعي إلى ميدان التحرير، داعماً شباب الثورة، وهو الذي كان تحت العلاج من جلطة أصابته، وأن يبرر تلحين الأوبريت قائلاً إنه كان في سبيل تعزيز اللحمة الوطنية، عقب سلسلة تفجيرات إرهابية هزت مصر.

 ولكن، ما شأن نموذج نانسي عجرم، وأغنية "راجل ابن راجل"؟ إن في الأغنية من الناحية الفنية، غناءً وكلاماً ولحناً وإخراجاً، من السماجة، حتى أن مجرد الحديث فيها يشكّل مأخذاً على أي صحافي.

الأمر هنا، أنه لم يحدث في التاريخ العربي المعاصر أن استخدم الخطاب السياسي للأنظمة ثنائية الفحولة والإخصاء، مثلما يستخدمها النظام المصري. ولا تزال أذرعه الإعلامية مثابرة على استعمال مفردة "دكر" (ذكر) التي تشتهر في صيغة "دكر بط" تمجيداً للحاكم.

فالسيسي "دكر"، وهذا تصنيف بيولوجي. فأنا وأنت من الثدييات. لكن الدول لا تديرها ثدييات من ذكور وإناث، ولا يجيَّش مواطنوها برموز سفلية، بل بأنا جمعية عليا.

ونحن كائنات عاقلة لا نحدد حدود دولتنا بالبول كما يفعل الذئب. إن الله أعطى للذئب غريزة تعيين موطنه بالبول، حتى تعرف الذئاب الأخرى حدودها. لكن الرموز البشرية العالية ذات هوى أسطوري، أي أنها إبداع عقل وخيال محترمين.

تقول الأغنية:

اللي قلبه على البلد ده يبقى راجل وابن راجل

واللي هيعدّي البلد ده يبقى راجل وابن راجل

وبالطبع، فإن لا نانسي من دون فيديو كليب، وأبعد الله عنها، وعنّا، أي بث حي مباشر. هنا سيكون على المخرجة بتول عرفة تركيب مشاهد الأغنية التي تقوم كلها على "راجل وابن راجل".

ماذا ستفعل بتول في هذه الأغنية "الوطنية"؟ وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قبل أشهر، إن عدد المصريين بالداخل 98 مليون نسمة، منهم 50.5 مليون نسمة ذكوراً، و47.5 مليون نسمة إناثاً.

والأغنية مطلوبة أساساً لدعم الاستفتاء على تمديد حكم السيسي إلى الأبد تقريباً، وعلى نصف المجتمع غير "الدكر" أن يقترع أيضاً.

كل مشهد، يظهر فيه بكثافة ذكور من العمال والفلاحين والصنايعية والطلاب، وتظهر بالطبع مشاهد للرئيس "الدكر". ومن لا ينتمي لهذا النوع، ليس مواطناً. هو حالة وسطى، بين الذكر والأنثى لا تصلح لعبور الكادر.

تورطت المخرجة. إنها تريد حشر نساء في المشهد، ونانسي لا تترك أي فرصة، وهي تنط وتهتف "راجل وابن راجل".

حاولت مخرجتنا استغلال ثوان قليلة كجملة "واللي يهعلّي البلد" لتُسقط امرأة ما في المشهد، لكن تحت ضغط ونط نانسي، ظهرت- سهواً- امرأة مسكينة، وهي يشار إليها بالبنان كلّه "راجل وابن راجل".

إذا أردت أن تطل على المأزق، فستجده في لقاء نانسي مع المذيع سيئ الصيت، عمرو أديب. فمن فرحته الوظيفية اتصل هاتفياً بها. ولأن المناخ راجل وابن راجل، أخذته الحماسة وقال لها إن مصر وكل "رجّالة" مصر يحبونك، فأصيبت نانسي بالحرج، وقالت إنها تريد الحب من رجال ونساء مصر.

زمان ليس بالبعيد، لحظنا الحساسية النضالية تجاه عبارة "امرأة بمئة رجل"، والمطالبة بإدانتها.

لم نكن نتخيل أن الزمن سيجود بشاعر مصري، لا يجد في قائده الأعلى إلا أنه "دكر"، وأن يستلهم أحد المذيعين من مثله (دكره) الأعلى، فلا يبقى في حدود رقاعة الأغنية، بل يجعلها مجال تحرّش جماعي.

هذا زمان عربي مخرّب، ويتجاوز الدركات التي بحثها مصطفى حجازي في كتابيه "الإنسان المقهور" و "الإنسان المهدور".

إن السيسي بلا ماء في الثلاجة طَوال عشر سنوات، وهناك من يصدق ذلك، وربما دمعت عينه. وإن نانسي تظهر على الشاشة، وتحكّم بين المتسابقين في "أراب آيدل"، وهناك من يصدق، وربما لمعت عينه.

ولو وقعت فوضى زمنية وجاءت آمال الأطرش (أسمهان) إلى برنامج المسابقات، لأبلغتها نانسي بضرورة أن تنتبه أكثر إلى العُرب، ولشجعتها على المضي قدماً.

البنية العربية بلغت مستوى من التخلف، حتى أن الواحد وهو في مواجهة تسونامي رداءة في كل الصعد، يترحم على زمان- وإن لا تجوز عليه الرحمة- كانت تُطرّز فيه المدائح لزعماء محفوفين بالاستعمار، والنكبة، والنكسة.

المساهمون