الحرب مع فنجان قهوة

08 ابريل 2016
(Getty)
+ الخط -
إلى جانبي الطريق البيروتي، الذي كان سابقاً خط تماس "حربياً" وصار خطاً سوسيولوجياً، تحتشد الطوائف، في سياراتها. إلى جانب الطريق، هناك مقابر ــ للطوائف طبعاً ــ وهناك كنيسة، وصوت المسجد يصل واضحاً بدوره إلى طريق الشام. تعايش تام. إخوة يتعايشون في الثانية ظهراً. إنها الطريق إلى وسط المدينة: آذان الظهر من رأس النبع، أجراس "المشرق" تُقرع في الأشرفية، وأبواق العالقين في الزحمة (وهم الأغلبية) تأتي من كل مكان. المخفر القريب لطيف، عمارته تراثية، تعود إلى فترة الانتداب، أو تذكر بهذه الفترة لسبب مجهول. ربما لوجود أرزة في الواجهة. الزحمة معقولة، كي لا نبالغ، والجميع بإمكانه معاينة "مبنى بركات" بوضوح. وهذا المبنى، ما زال على حاله، رغم محاولات ترميمه الجبارة.
المبنى ليس قصة. يصرّ المجتمع المدني على أنه "إكزوتيك". فريد من نوعه، ولكن باللبناني يمكننا أن نقول "إكزوتيك". سمعت من أكثر من شخص، أن الوقوف هناك، على شرفة الحرب، في المكان الذي كان يقف فيه القناصون، سيبعث على الرعب. وسمعت أيضاً، أن الذين تسنى لهم الدخول إلى المبنى، ومعاينة آثار القناصين، قد تُظهر أي نوعية من العدميين كان هؤلاء. ولم أستطع موافقة أحد من الذين يتلون هذه الردّيات عن الحرب الأهلية. أشعر دائماً أن هذا مبالغ فيه، وأن أسطرة الحرب هي محاولة بائسة لإنكارها. سكنت منزلاً في فرن الشباك، يحوي من الثقوب أكثر مما يحويه مبنى بركات الإكزوتيكي. الجيران لطفاء، إذْ كان جاري يضع صورةً في منزله لبشير الجمّيل، ويدعوني دائماً إلى شرب فنجان قهوة. كان في سن والدي تقريباً، وأفترض أنه شارك في الحرب. لا أقول إنه كان مقاتلاً بالضرورة. حسناً، لقد غادرها، طالما أنه دعاني إلى فنجان قهوة بصدقٍ لا يمكنني التشكيك به، ولكن الحرب لم تغادره إذ إن الشيخ بشير يقيم في منزله. وجاري هذا لا يحتاج الوقوف على شرفة مبنى بركات. في منزله صورة لبشير، إلى جانب صورة لأمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله. كان يدعونني دائمًا إلى شرب القهوة، وكان يفترض، في حساباته، كما أفترض الآن، أنه يمثل بشير الجميّل، وأنه يتوجب علي أن أمثل نصرالله، وأن نشرب القهوة. الآن فقط أشعر بالرعب.
الوقوف على شرفة الحرب، النظر إلى الحرب، ليس مرعباً. المرعب هو الرغبة بالبقاء على الشرفة، بالإقامة في الحرب.
نحن الآن، قرب مبنى بركات. توقفت النملة على تقاطع رأس النبع. وعندما لوّح شرطي السير نحوها بيده، انطلقت باتجاه السوديكو. والنملة، هي مرسيدس، من طراز 230، ويتفق اللبنانيون على تسميتها نملة. وكان السائق شيخاً. رجل دين يضع عمامة ناصعة البياض، ويرتدي عباءة بنية دينية، تشعر الناظر إليها بالتعاطف مع صاحبها، لشدة الحرّ. للأمانة، الرجل احترم الإشارة الضوئية، رغم أنه أطلق البوق اعتراضاً على حظه التعيس. إذاً، لدينا شيخ يقود نملة، من رأس النبع، باتجاه السوديكو. يمكننا أن نضيف التفاصيل، لجهة الإشارة، وشرطي السير الذي كان مستغرقاً في الحديث عبر الهاتف مع شخص هام، ولكن يبقى العنصر الهام في القصة، هو أن الشيخ كان يقود نملة. قبل ذلك بأسبوع، وعلى الطريق نفسه، مرّت راهبة في "شبح". لكي نكون منطقيين، المكان ليس نفسه، الطريق نفسه. أمام رأس النبع بقليل، بمفترق واحد، عند السوديكو تماماً، في الطريق إلى الأشرفية صعودًا. غالبًا، تكون أمكنة اللبنانيين هي ذاتها، لكن الطرق مختلفة. الطريق إلى الأشرفية هي ما نقصده هنا، والسائقة كانت راهبة، في "شبح". والشبح، هي مرسيدس أيضاً، على الطريقة اللبنانية، من نوع 300، وتسمّى بالشبح، لأن أضوائها الخلفية معقوفة، رغم أنها مستطيلة، ما يجعلها تبدو كعيني شبح. وهذا يعني، أنه صار لدينا شيخ يقود نملة، وأمامه، راهبة تقود شبحاً. على مهلكم، هذا ليس ذماً بالمؤسسة الدينية، أو محاولة لفعل ذلك. إنه مجرد مشهد آخر للطوائف القادرة على العيش، تحت شرفة الحرب، من دون أن تكون هناك حرب. الوقوف على الشرفة، أو النزول إلى تحتها، ليس موضوعاً بحد ذاته. المهم، هو نزع الصور، من الذاكرة، ومن المنازل، ومن الشوارع. وإلا، الحرب، مع فنجان قهوة.


المساهمون