يروي "إرث الدم البارد ـ ذاكرة الدمّ (Cold Blood Legacy – La Memoire Du Sang)"، جديد الفرنسي فريدريك بوتيجان، قصّة هنري (جان رونو)، القاتل المأجور المنعزل عن الناس منذ أعوام، والمُقيم في كوخ خشبي على حافة بحيرة متجمّدة، تمّ تصوير مَشاهدها كلّها في فصل الشتاء. ذات يوم، تصل إمرأة مُصابة، تُدعى ميلودي (ساره ليند)، إلى جانب الكوخ، بعد سقوطها من عربة الثلج. تتوالى أحداث الفيلم (2019)، فيظهر أنّ ميلودي جاءت لقتل هنري، قاتل أبيها قبل أيام. لهذا، قامت بهذه الرحلة الصعبة في الثلج، للوصول إلى بيته، وتصفية الحساب معه. لكنها سقطت من العربة أمام كوخه، وهي تئنّ من الجرح والألم، بينما كان يصطاد سمك السلمون من البحيرة المتجمّدة. حاولت ميلودي مرارًا، وهو يعتني بها لأيام طويلة، إقناعه أنّها موجودة في هذا المكان لمغامرة أحبّت القيام بها. لكن هنري، بحدسه كقاتل مأجور، لم يصدّقها، وأيضًا بسبب وزن حقيبتها الفارغة، وانحراف عربتها الحادّ، فالهبوط أثناء القيادة يُجبرها على أنْ تنحرف تدريجيًا.
للشك دور كبير في فهم أحداث "إرث الدم البارد"، ومستوياته الجمالية والموضوعية. ففريدريك بوتيجان يترك المُشاهد أمام تأويل الأحداث بطريقة توقعه دائمًا في الخطأ، مخلخلاً يقينه إزاء القصّة، التي تأخذ مسارًا جديدًا كلّ مرة. هناك جهلٌ بالأحداث، كما بالنهاية، التي تصدم بموت هنري، بعد إثارة شعورٍ، عبر المسار الحكائيّ، بعزمه على مساعدتها في اجتياز البحيرة المتجمّدة، مخافةً ذوبانها قبل انتهاء فصل الشتاء، خلال أسابيع قليلة مقبلة. هذه الصدمة منحت الفيلم بُعدًا جماليًا، جعله دراميًا لا فيلم أكشن ومغامرة، كما يوحي ملصقه، لوهلة أولى.
بعد غضب ميلودي من هنري، بسبب قتله والدها، تحوّلت مشاعرها إزاءه إلى حبّ وحنان، واعتراف بما قام به معها عند إصابتها. تقول له في النهاية: "هنري. أحيانًا أنسى أنّك قتلته، وأكره نفسي على ذلك"، فيجيبها: "ميلودي، انتقامك لوالدك لا يجعل منك ابنته".
للألم ميسم خاص أيضًا، فهو المحرك الرئيسي والخفي لميلودي، التي فقدت والدها، ولهنري، الذي يعيش منعزلا عن الناس، ولضابط الشرطة الذي هجرته زوجته، ورفيقه في العمل الذي سيُنقل إلى مكان آخر. لحضور الألم بُعد "إستيتيكيّ" في صنع جمالية الشخصيات، فيجعلها منتمية إلى واقع نعيشه، وليس إلى فضاء المتخيّل السينمائي. هذا عائدٌ إلى قوّة السيناريو (فريدريك بوتيجان)، المحبوك بعناية فائقة، وإلى الاختيار الموفّق للممثلين.
في الفيلم، مشاهد جميلة، خاصة تلك المُصوّرة إلى جانب البحيرة، مع موسيقى تصويرية (كزافييه بَرْتيلو) عذبة، أضفت عليه سحرًا، يُظلِّل مشاهده المتتالية، وينضح بجمالية ألم مخبوء، يؤجّج الشخصيات، ويجعلها تبحث دائمًا عن خلاص ذاتي، وعن حقيقة العالم الخفيّ الذي تعيش فيه.
في عمله هذا، يكسر فريدريك بوتيجان شيئًا من نمطية صورة البطل وصنميته، المعروفتين في تاريخ السينما الأميركية، فهو البطل الملحمي الخارق، الذي يخلّص الناس من أحزانها وأوجاعها وحروبها المميتة. بوتيجان يرسم للبطل صورة جديدة لخلاصه وموته، فيكون شمعة تُضيء الطريق إلى من سيأتي بعده. ورغم صعوبة موت البطل في السينما، والتأثير الكبير لذلك على شبّاك التذاكر، إلا أن بوتيجان يغامر بقتله في النهاية، كنوعٍ من الثورة على تجارب سينمائية أميركية، جعلت البطل شخصًا لا يموت. بهذا، حقّق المخرج لنفسه مكانة مرموقة، إلى جانب مخرجين عالميين آمنوا بضرورة موت البطل في أفلامهم. كأنّ موت البطل يضمن ديمومته الحياتية وذكراه في المخيال الجمعي للمجتمع. فالموت في الفيلم صورة قبل أي شيء، تجعل البطل حقيقيًا ينتمي إلى الواقع.