مانهانت: يونابامبر... على إشارة حمراء في طريق خال

23 نوفمبر 2018
نشر كازينسكي بياناً بالصحف بعنوان "المجتمع الصناعي ومستقبله" (نتفلكس)
+ الخط -
"لا مخرج من طريق الحاضر المسدود. إذا استفقنا كلياً سنصعق على الفور بالفظائع التي تحيط بنا. سنترك أدواتنا ونستقيل من أعمالنا وننكر كل التزامٍ ونتوقف عن دفع الضرائب والتقيد بالقوانين. هل يمكن للرجال والنساء المتيقظين بحق أن يقوموا بكل فعل مجنون متوقع منهم في كل لحظة من اليوم؟".

يورد هنري ميلر هذا السؤال في "عالم الجنس". وربما تكون إجابته - أو عجزنا عن إيجادها - هو ما يغذي توقنا إلى تلقي قصص أولئك الذين خرقوا النظام بنهم لا تشبعه كل الأعمال التي تحاول تفسير وتسجيل وعرض ما قاموا به.

عندما عرضت قناة ديسكفري المسلسل القصير "مانهانت: يونابامبر Manhunt: Unabomber" العام المنصرم (يُعرض الآن على نتفلكس)، كانت الظروف كلها في صالح عملٍ كهذا. ولمَ لا؟ فقد تعاظم الشعور الجمعي عند كثيرين بأن مفاهيم، كالحرية، باتت في خطر، وبأننا مراقبون على الدوام. وفي ظل هذه المخاوف، عادت "نبوءة" تيد كازينسكي، الـUnabomber، لتطاردنا على شكل عناوين مقتضبة في شتى المواقع، مبتدئةً بأن شيئاً ما (كالآيفون إكس مثلاً) أثبت أن كازينسكي كان على حق، وقس على ذلك.

ولأجل الدقة، فإن نسيان عالم الرياضيات تيد كازينسكي (1942) ليس بالأمر السهل؛ إذ نحن أمام محددات شخصية مثالية لصنع اسمٍ لا يُنسى؛ رجل عبقري ومنعزل وناقم ويعرف كيف يترجم هذا الشعور إلى فعلٍ مادي. شغلت قضية اليونابامبر الساحة الأميركية قرابة العقدين من الزمن، منذ 1978 حين قام بأول عمليةٍ وحتى الحكم عليه عام 1998، إذ أودت طروده المفخخة بحياة ثلاثة أشخاص وجرحت 23 آخرين.

كما أن بيانه "المجتمع الصناعي ومستقبله"، الذي نجح في جعل الصحف تنشره آنذاك، لا يزال يُناقش حتى اليوم، سواء كمفرزٍ آخر لليبرتارية والرهاب الأميركيين، أو عملٍ عبقري تنبأ بهذا الحاضر وركّز على البعد الاجتماعي للتكنولوجيا الجديدة، فضلاً عن "الوسيط" و"الرسائل" الدموية اللذين اختارهما لنشر أفكاره وجعل التعاطف معه أمراً عسيراً. كما أن نشره لعملٍ أنطولوجي عام 2010 تحت عنوان "العبودية التقنية" وكتاب عام 2016 بعنوان "الثورة المعادية للتكنولوجيا: كيف ولماذا"، وتحضيره لطبعة جديدة من "العبودية التقنية" أبقاه حاضراً كما أراد.

عودةً إلى المسلسل، استطاع "مانهانت: يونابامبر"، في نواحٍ عدة، نفخ الروح في القضية، بينما فشل في التعمق بالسؤال الأهم وفرد خريطة الأحداث من منظور كازينسكي قدر الإمكان. 
لا يتبع "مانهانت: يونابامبر" ترتيباً زمنياً خطياً، إذ يبتدئ بعرض رجلٍ ملتحٍ يعيش اكتفاءً ذاتياً في الطبيعة، ليتضح أنه الرجل الذي ألقى القبض على كازينسكي، الذي كان يعيش حياة مشابهة. تمضي أحداث المسلسل بعدها في خطين، الأول يبدأ عند استلام جيمس فيتزجيرالد القضية وصولاً إلى كشف هوية كازينسكي، والثاني يتعلق بمحاولة إقناعه بالإقرار بالذنب تفادياً لجلسة المحكمة. ولننظر إلى كلٍ منهما.

يأخذ الأول، في أجزاءٍ منه، منحىً اعتيادياً إذا ما عاملناه كقصة؛ محقق صغير يحظى بفرصة كبيرة ويدخل العالم الواسع لمكتب التحقيقات الفيدرالي. يُفاجأ هناك بالبيروقراطية والجمود الذي يعرقل عمله، ثم يثبت أن الجميع على خطأ. يمتزج هذا بالنواحي التقليدية لقصة المحقق، كفقدان التوازن بين الحياة العملية والأسرية ومشاهد إيجاد رؤوس الخيوط في أماكن عشوائية، كالحانات، أو مزروعةً في الحديث اليومي لأحدهم وأخطاء اللغة الشائعة.

يحضر كازينسكي، أو طيف أفكاره أحياناً، لكي يقتل هذه الرتابة. ولعل نوع وكم هذا الظهور هو ما يجعل الخط الأول أشبه بأعمال التحقيقات الأخرى. قد نجادل بأن المسلسل هو عن مطاردة كازينسكي، لا عنه نفسه، لكن اللقطات التأسيسية في الحلقة الأولى، تلك التي تحكي عن طاعتنا نحن الخراف واستلامنا وتمريرنا للرسائل مأمورين هي ما يضبط هذا الرتم ويحدد توقعاتنا.

تصطدم هذه التوقعات بالحضور إذن. يحاول المسلسل، سواء عبر عرض فيتزجيرالد "البدائي" في الحلقة الأولى، أو لقطات بعينها كسلاسل الإشارات الحمراء (البديعة بصرياً)، إيصال لمحة عن موضوعة السيطرة، لكنها لا تحقق التوازن المطلوب لإعطاء الصراع وزنه. بتنا نعرف عبقرية فيتزجيرالد الشديدة، لكن ماذا عن الطرف الآخر إذا ما سلمنا بأنها معركة رجلين؟

تُكرَّس الحلقة السادسة بأكملها لإلقاء الضوء على تيد كازينسكي وتستعرض طفولته ومرحلته الجامعية اللتين يقضيهما وحيداً ويتعرض خلالهما إلى عدة صدمات، أبرزها تجربة خُدِع للقيام بها تحت إشراف وكالة الاستخبارات المركزية أثناء دراسته في هارفرد (وهي حادثة نفى كازينسكي نفسه وقوعها بعد صدور المسلسل). وبينما تودي به الصدمات الأولى إلى تكوين موقفٍ معاد للمجتمع، تبلور سنين جامعته نظرة المعاداة للتكنولوجيا التي كانت الدافع الرئيس وراء سلسلة التفجيرات التي قام بها.

إن غالب هذه الأحداث وقعت فعلاً، ويحددها تقييم نفسي خضع له كازينكسي كدوافع محتملة. مع ذلك، لا يُبذَل أي جهدٍ إضافي لفهم نظرة كازينسكي إلى القوة والسيطرة والحرية وتُعامَل على أنها محض ردود فعل على التجارب الشخصية التي تعرض لها - وكأنه لم يدفع بالصحف إلى نشر عمل طويل يبرر ما فعله - ونرى ذلك واضحاً حين يوقف كازينسكي، ومن ثم يعاود صنع قنبلةٍ بسبب حفلة عيد ميلاد غيّر رأيه بخصوص ارتيادها في اليوم ذاته.

على الجهة الأخرى، يبدو فيتزجيرالد النقيض المنطقي، المدفوع بالاستنتاج والبحث. وعلاوةً على أن هذا التقسيم يغفل، كما ذكرنا، جانب كازينسكي، إلا أنه يفتقر إلى الدقة التاريخية، فبينما قال أعضاء المكتب الحقيقيون إن المطاردة الناجحة لم تكن عمل رجلٍ واحد على الإطلاق، رفض كازينسكي من سجنه هذه الرواية أيضاً بعدما سمع عن أحداث المسلسل، وخرج فيتزجيرالد نهاية الأمر ليقولها بطريقة ملطفة: "الشخصية في المسلسل مزيج عدة أشخاص"، فضلاً عن تفاصيل غير دقيقة أخرى.



وبينما يحق للعمل الدرامي التصرف بالمادة التاريخية كيفما تقتضي عملية تحويلها إلى "دراما"، فإن المشكلة إذن ليست في الدقة لأجل ذاتها، بل بسبب تصوير الصراع على أنه مبارزة ثنائية بين فردين ووعيين شديدي التمايز، ولو أن نهايتها لا تتبع المنحى الكلاسيكي الذي يُخرِج بطلاً منتصراً. ورغم هذا فإن أداء سام وورثينغتون والترتيب غير الخطي للزمن والسينماتوغرافيا المتقنة تسهم في صناعة حكاية شيقة لا تسبب الضجر وتنجح، في عصرٍ كهذا، بإقناع المشاهد بتغيير جدول أعماله اليومي ليناسب وصلة مطولة من المتابعة.

تأخذ الأمور منحى أفضل في الخط الثاني، المتعلق بالمحاكمة. إذ يصبح الرهان على جعل كازينسكي يقر بالذنب تفادياً لمحاكمة طويلة وتوفير منبرٍ له. وفي هذا الخط، فإن الحبكة تتلوى، تارة لصالح كازينسكي وتارة أخرى لصالح فيتزجيرالد. ورغم أنه يبدو أقل إثارة إذا ما قورن بخط المطاردة، إلا أنه الأفضل في إظهار صراعٍ أكثر عمقاً وأقل قابلية للتوقع.

تتشكل أولى الذرى في الخط عند تقديم كازينسكي حجة دفاع تعتمد على التشكيك بفيتزجيرالد وما استند إليه في "علم اللغويات الجنائي". تنتهي هذه المواجهة بفشل الحجة، لا لتفوق فيتزجيرالد، إنما لخيانة محامية كازينسكي له ولرغبتها بتبرئته على خلفية عدم صحته العقلية، وهو ما سيرفضه المتهم بعد أن يتواجه مع فيتزجيرالد الذي يريه اتساع الشك الجديد حول جنونه (رغم أن الاثنين في الحقيقة لم يتواجها مطلقاً).

تتخلخل الوضعيات الثابتة هنا؛ يتعرض كازينسكي للخيانة، كما يراها، ويرفض ادعاء الجنون مفضلاً المكانة التي ستسمح له بالإنتاج مستقبلاً على الحرية، بينما يتحرّك فيتزجيرالد بين دائرتي "المتعاطف بصدق" و"المخادع"، لينتهي الأمر بعد سجالٍ قانوني بإقرار كازينسكي بذنبه بعد محاولة انتحارٍ فاشلة.

الزنزانة الانفرادية أرحب من حكم "الجنون" والمصح، بما يميز أحدهما عن الآخر، كما يعتقد كازينسكي وكما تُشير إلى ذلك لقطة دخوله إلى الزنزانة والانتقال البصري إلى البريّة. وربما تكون هذه إحدى النقاط التي نجح المسلسل في عرضها كما يجب، ليُختَتم العمل بنهايةٍ عن وهم الحرية، يقف فيها فيتزجيرالد عند إشارةٍ حمراء في طريقٍ خال، فور إجابته بـ"أي شيء نريده" عن سؤال "ماذا سنفعل؟"، وتصطدم سذاجة هذه الكلمات بقسوة المعدن والضوء الأحمر.


يقف "مانهانت يونابامبر" في منتصف الطريق بين كونه عملاً آخر عن المحقق الخارق للعادة وبين تقديمه معالجة درامية لقضيةٍ تستحق النبش وإعادة العرض والتجسيد، ما دامت قادرة على طرح الأسئلة وقول شيءٍ ما عن هذا العصر الذي تبدو فيه الخطى السريعة، على طريق الكوكب المتصل دوماً، ماضيةً في طريقٍ أحادي الجهة.
دلالات
المساهمون