الأخوان كوين: مرثية لحكاياتٍ لم تُروَ

28 نوفمبر 2018
لجأ الأخوان كوين لاستخدام الكاميرا الرقمية لأول مرّة (IMDP)
+ الخط -
كان لإعلان الأخوين كوين عن تعاقدهما مع شبكة نتفليكس العام الماضي لصناعة أول أعمالهم التلفزيونية وقعٌ كبير لدى النقاد والجمهور، ولا سيّما مع تنامي خبرتهما في المجال التلفزيوني جرّاء تعاونهما الإنتاجي مع شبكة FX في مسلسل "فارغو" المُستقى من فيلمهما الذي يحمل ذات العنوان. 

ساد الترقّب بين متفائلٍ ومتخوّفٍ من التجربة المقبلة؛ ففي العمل المزمع مع نتفليكس سيتولى الثنائي الكتابة والإخراج بشكلٍ كامل، وليس تنفيذ الإنتاج فحسب كما هو الحال مع FX.
حمل المشروع على الورق في طيّاته أرضاً خصبةً للتكهّن بعمل لافت لنوعٍ نادرٍ تلفزيّاً ألا وهو "الويسترن"؛ فالمشروع الأنثولوجي المعنون "ذا باليد أوف باستر سكراغز" (The ballad of buster scruggs) ينطوي على ستّ حلقات لقصص في الغرب المتوحّش، صاغها الأخوان على مدى ربع قرن، تتباين في شخوصها وموضوعاتها. لكنّ بداية العام الحاليّ شهدت قراراً بتحويل المشروع إلى فيلمٍ عوضاً عن النيّة الابتدائيّة، لتكون النتيجة النهائية فيلماً شارك في مهرجان فينيسيا ونال جائزة أفضل نص، وتم طرحه في صالات العرض قبل إتاحته على منصّة البث الشهيرة منتصف الشهر الحالي.

مسلسل أم فيلم؟
باتت المعايير -حتّى التقنيّة منها- مربكةً اليوم؛ بين تيّارٍ يرى الفيصل في العرض السينمائي ولا يبيح إتاحة الشريط السينمائي سواء عبر الإنترنت أو الأقراص الرقميّة، وآخر أكثر انفتاحاً، أكثر مواءمة للعصر الذي نعيشه؛ وربما تلوح له مقصلةٌ تتمثّل بعمالقة البث عبر الإنترنت، ويؤرقه قلقٌ مشابه من اقتراب الأفلام الرائجة والمتصدّرة للإيرادات من إحالة "السينما" إلى تجربةٍ بصريّةٍ سمعيّةٍ حسيّةٍ ترفيهيّة، أقصى ما أمكن لدرجة الطغيان.

بدورها، تُبارز نتفليكس للحفاظ على هويّتها المؤكّدة على المشاهدة أينما تريد ووقتما تريد، وبالتالي حرمها عدم الانصياع لقوانين العرض من منافسة بعض أفلامها في أكثر من مهرجان، ذلك هو السياق الذي أدّى لصافرات الاستجهان واستخدام الأضواء العاكسة من بعض الجماهير خلال عرض فيلمين لنتفليكس ضمن مهرجان "كان" العام الماضي.

لا تخفى ميّزات البث عبر الإنترنت على أحد، ولاقت تجربة توفير جميع حلقات الأعمال الأصلية دفعة واحدةً "Binge-Watch" كثيراً من الترحيب. إذن النتيجة المباشرة لتحويل المشروع إلى فيلم تبقى عند حدود إرغام الجمهور على المشاهدة المتتالية. لكن تخوّف الأخوان كوين من حقيقة أن المسلسل أنطولوجي، ذا حلقات منفصلة؛ تضم كلّ منها كادراً تمثيليّاً مختلفاً، ربما تفضي لمشاهدة حلقاته من دون اعتماد الترتيب الذي يريدونه، ما يؤثر على طريقة تلقّي الحكايا المطروحة.



غرب الموت
يعتمد صاحبا "فارغو"، منذ بدايتهما الإخراجية، على تحريك عناصر القالب الذي يصوغ أفلامهما وفقه، فلا ثوابت في حضرتهما، رغم تناسق المشهدية مع ما تألفه عين المشاهد عن نوع الجريمة أو الكوميديا أو الويسترن؛ لكنّه لا يشابه شيئاً آخر، وهنا مكمن النجاح أو السقوط المدوّي؛ كما في حالتي "بلاد سيمبل"، أول أعمالهما، و"هايل سيزار!" منذ عامين.

يستهلّ العمل بدايته عبر تجسيدٍ غرافيكي لكتاب حكاياتٍ تتقلّب صفحاته بين كل قصّة وأخرى، ويلازم البداية اقتباسٌ مما سيحصل وصورة تعبيرية عن القصّة، تجمعها ثيمة الموت وتتنوع بين أمكنة معتادة في نمط الويسترن؛ بين حانة للخارجين على القانون، وصالون للقمار، أو برفقة قافلة مرتحلة.

تتوالى الأغنيات ومشاهد رمي الرصاص في صدىً لأعمالٍ كلاسيكية تغرس كناياتٍ متابينة الوضوح برفقة جرعة مرهِقة من السخرية والاستهزاء؛ على صعيد المفهوم والرؤية البصرية.
يصوّر الفيلم مشقّة الحياة في أواخر القرن التاسع عشر ضمن الحدود الأميركية؛ حيث تنتشر الأمراض وتقلّ الأغذية، وبالطبع يحضر الهنود الحمر كتمثيلٍ للكارثة. يحافظ الفيلم على مسافة بينه وبين التوثيق لصالح فكرة الحكاية، التي يُمكن إحالتها رمزيّاً حول الفن والقدر والمعنى؛ كما تقف بهيكلها كحدوتّةٍ بشكل مستقلّ. المأساة هي العامل المشترك، ويبني النص المتماسك مصير الشخصيات بعبثية ساخرة قبل أن تبدأ هذه المأساة حتّى، فيبدو الفيلم مرثيةً لحكاياتٍ لم ترو؛ انتهت فور وصول حبكاتها لمرحلة الذروة بكلّ قسوة.

يتحكّم ترتيب القصص ضمن الفيلم بمزاجه وإيقاعه؛ وتختلف كلّ قصة بسويّتها الحركية، البداية الخاطفة يتبعها انتقال إلى مناخ أهدأ، تأمّليّ إلى حدّ ما، مع تبدّل الصيغة اللونية نحو شحوبٍ شتائي، بينما نتابع فرقة فنيّة جوّالة يكررّ ممثلها الوحيد نصوصاً أدبية راسخة من الكتاب المقدّس، وشكسبير، وخطاباً للرئيس الأميركي لينكولن؛ قبل أن تزاحم دجاجةٌ تجيد الحساب الممثلَ مبتور الأطراف على تصدّر الخشبة.



لأجل الحكايا 
يوحي الفيلم بتجديدٍ داخلي لصنّاعه، فعلاوةً على اختيار البث عبر الإنترنت؛ لجأ الأخوان كوين لاستخدام الكاميرا الرقمية لأول مرّة عبر مسيرتهما، وحققّا، فعلاً، مسرّةً بصريّة، لتكون السينماتوغرافي ركيزةً رافعةً للعمل، بمنأىً عن بلاغة حواراته وأحداثه المثيرة للاهتمام وكادره التمثيلي المهيب. وعلى صعيد نتفليكس أيضاً، التي عرضت الفيلم في الصالات، ليحقق شرط الترشّح للأوسكار. 

تختلف أطوال قصص الفيلم على الشاشة، لكن شرط تساوي مدّة الحلقات لم يعد ملزماً في العمل التلفزي، بذاك إنّ التحويل جاء كخيارٍ فنّيٍّ بحت؛ ضابطاً للإيقاع الذي ينبغي لنا أن نتّبعه، وتخدم الحكاية الأخيرة هذه الفرضية، وهي القصة الوحيدة التي تخلو من القتل، على الأقل ضمن أحداثها، وهي بمثابة الخاتمة لكلّ القصص السابقة، فتشهد حوار غرباء في عربة نقل عن أنواع البشر؛ الفردانية أم التماثل، بالإضافة للنوعين؛ جيد وسيئ، حيّ أو ميّت. ينتصر الفيلم للحكايا ويحدّق مليّاً بمشاهديه في نقاشٍ عن متعة مشاهدة القتل، طالما أنّ الضحيّة غيرنا، مع تكرار لسؤال: "أتريد أن تسمع قصة منادي الليل" التي ذُكرت في فيلم "ترو غريت" من دون أن نسمعها حتى الآن؟
المساهمون