علاقة المتفرّج بالشاشة الكبيرة: استهدافُ مشاعر أو سدُّ نقصٍ؟

02 سبتمبر 2019
الممثلة مارغو روبي: تماهي المتفرّجة مع البطلة (فيسبوك)
+ الخط -
لماذا يذهب الناس إلى صالات السينما، ومشاهدة ظلال تتلاعب على القماش؟ لماذا تتوهّج علاقة العشّاق في السينما والمسرح؟

في "النقطة المتحوّلة"، يُجيب بيتر بروك: "من دون المسرح، لن تمضي اللقاءات الكثيرة للغرباء إلى هذا المدى البعيد خلال فترة قصيرة، لأنّ الطاقات الزائدة، التي يُحرّرها الغناء والرقص، وإخراج الصراعات التي تحرّرها الإثارة والضحك، هي من القوّة بحيث يُمكنها أن تؤدّي، في ساعة واحدة، إلى أشياء مُدهشة".

السرد، والفن عامة، يُحرّر الفرد من الطاقة السلبية، ويُقرّب الغرباء، ويُطوّر الروح الإنسانية. يقول أندره تاركوفسكي، في "النحت في الزمن"، إنّ "مُتفرّج السينما، عندما يشتري تذكرته، يبدو كما لو كان يلتمس سدّ النقص، أو إكمال الثغرات في تجربته الخاصة، راميًا نفسه في بحثٍ عن "زمن مفقود"، بتعبير آخر". يُضيف: "هو يسعى إلى ملء ذلك الخواء الروحي، الذي تشكّل نتيجة الشروط الخاصة لهذه الكينونة الحديثة: نشاط متواصل، تقليص الاتصال الإنساني، والنزعة المادية للتربية المعاصرة".

يندرج جوابا بروك وتاركوفسكي في دراسة أنماط تجاوب المتفرّج مع العمل الفني. دراسة تمكِّن الفنان من ممارسة لعبة شطرنج الفرجة مع المتلقّي.

بحسب ملف الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند" (21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، المعنيّ بأدب الشباب والمراهقين والأطفال، يُفضِّل نصف هؤلاء القرّاء المغامرات والعجائبيّ، بينما يُفضِّل ثلثهم البوليسي والسخرية. وبحسب نوعية الأفلام التي حطّمت أرقام المداخيل في النصف الأول من عام 2019، يتّضح أنّ زيادة المبالغات تكافح الملل. في هذا الباب، تجذب الكوميديا والخرافات والحكايات العجيبة جمهورًا أكبر. سبب ذلك؟ هناك إحصاءٌ قديم أجراه سيرفانتِس، كشف أنّ عدد "القرّاء الحمقى" أكبر من عدد "القرّاء العقلاء" (دون كيخوته).
للتلقّي قواعد، كالشطرنج، من لا يعرفها لن يلعب جيّدًا. تنجح الأفلام بفضل إدراك المبدعين سيكولوجية المتفرّجين، في لحظة زمنية محددة. سيرفانتِس مدركٌ لمن يحكي حماقات الفارس دون كيخوته. الحماقات تخفّف على المتفرّجين، وتعزّيهم، لذا، تنجح الأفلام حين يكون عذاب الشخصية الرئيسية أمَرّ من حياة المتفرّجين. قرّر شهريار وشقيقه، بعد معرفة خيانات زوجة الجني، أنّه "إذا كان هذا عفريتًا، وجرى له أعظم مما جرى لنا، فهذا شيء يسلّينا".

تصير محنة الآخرين تسلية. فلماذا يقلّ التعقّل في فعل التلقّي؟ ما أثر لقاء وجدان المتفرّج وذهنه مع الصُوَر على الشاشة؟
التلقّي حسّي لا تجريدي عقلاني. وسيلة التلقّي هي الحواس. يقول شارل بودلير: "إنّ وظيفة الحواس هي نقل الانطباعات المتولِّدة عن العالم الخارجي" ("بودلير ناقدًا فنيًا" لزينات بيطار). النتيجة، بحسب أمبرتو إيكو، هي أنّ "علم الجمال المعاصر يرى أنّ لحظة تلقّي ما هو جميل هي، بصفة عامة، لحظة حدس" (كيف تُعدّ رسالة دكتوراه).

آخر مثل لهذا التلقّي، قدّمه كوانتن تارانتينو في "حدث ذات مرة... في هوليوود"، من خلال ممثلة مشهورة، هي شارون تايت (مارغو روبّي)، تُشاهد فيلمها مع الجمهور، وتُمتِّعها ردود الفعل الفورية، كما يُبهجها تفاعل المتفرّجين مع أدائها، فتنتقل إليها عدوى الدهشة، كأنّها لم تكن حاضرة أثناء التصوير. تندهش وتضحك وتستغرب. المتفرّجة تتماهى مع البطلة، مع نفسها. ما يعيشه الممثّل، ينتقل إلى الجمهور. يتوحّدان.

لمعاينة أنتربولوجيا قاعة السينما، تجرى مراقبة المتفرّجين في بهو رخامي، تحيط به 10 قاعات في مجمّع سينمائيّ بَهيّ في كازابلانكا. يخرج المتفرّجون بالتتابع، بحسب طول مدّة كلّ فيلم (بين 90 دقيقة و150 دقيقة). من طريقة مشيتهم الجديدة، يبدو أنهم بصدد العودة من عوالم بعيدة إلى أرض الواقع، لأنّ السرد الفيلميّ أخذهم بعيدًا. يقول جان ـ جاك آنو: "تأخذنا السينما إلى حيث لا تصل الطائرات".

رحلة تلقّي الحكي، بصريًا أو سمعيًا، متأصّلة في السلوك الإنساني منذ عشرات آلاف السنين، قبل بدء العمر القصير للكتابة. نتيجة لهذا، تأسّس لاشعورٌ حكائيّ يوحّد البشر. يقول سيغموند فرويد إنّ "ما يوحّد البشر يكمن في التصوّر اللاواعي للرموز، وهو تصوّر الشعب الذي نجده في الفولكلور والأساطير والحكايات والحكم الشفهية والنكات الدارجة لشعبٍ ما" ("البطل بألف وجه" لجوزيف غامبل).

يتوحّد الممثّل والجمهور في 6 مشاعر رئيسية، هي: السعادة والحزن والغضب والاشمئزاز والخوف والدهشة ("علم الاجتماع" لأنتوني غيدنز). استعارت مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأحاسيس الـ6، وقدّمتها في أيقونات صفراء، يفهمها الجميع.

يستهدف مبدعو الأفلام الاشتغال على وجدان المتفرّج وأحاسيسه، وعلى التسلّل إلى لاوعيه، واستدراجه إلى العيش مع الشخصية، وتصديقها، فتتسرّب إلى لاوعيه.

هذا اللاوعي هو الذي يحدّد شروط تلقّي الحكي في أبعاده الكونية. لذا، تجد أفلام هوليوود متلقّين في القارات كلّها، ومن الثقافات كلّها. أفلام تحاول إرضاء غريزة التلصّص والنزاع والقتال لدى المتفرّج. يتعزّز هذا الرضا بفضل المُشاهدة الجماعية. للإشارة: لا تحقِّق الأفلام المغرِقة في المحلية فرصة مشاهدة كونية. تفشل في الاختبار.

بحسب رولان بارت، يدخل المتفرّج قاعة السينما كفرد، ويخرج كعضو في جماعة، لأن الفيلم يوحّده مع غيره من المتفرّجين، على صعيد المشاعر والمواقف. يصبح المتفرّج عضوًا في جماعة، وفي قطيع. يشعر بالامتلاء والرضا. فهو المتلقّي الذي، كجزء من مجموعة، يعالج المعلومات عاطفيًا، ومن دون نقد.

لمقاومة هذا الشكل السلبي من المُشاهدة، يعمل الناقد السينمائي على تمكين كلّ مُشاهد من إضاءة أفكاره الخاصة عن الفيلم، ومن كشف ميكانيزمات السرد وحيله. الغاية هي أن يعالج المتفرّج، فرديًا، المعلومات والمشاعر التي يتلقّاها من الفيلم، بعقله النقدي.
دلالات
المساهمون