مهرّج الملك: التنمّر الذي صنع نجوماً

19 يوليو 2019
السخرية من مظهر عمر سليمان زادت من جماهيريته (Getty)
+ الخط -
لا نشارك، كجمهور، على صفحاتنا الخاصة الأعمال الفنية الجيدة التي تعجبنا وحسب، بل نشارك أيضاً الأعمال الفنية الرديئة التي تُثير لدينا حس السخرية، والتي تجعلنا ننظر إلى مؤدي هذه الأعمال نظرةً دونية، فنساهم من خلال التنمر والسخرية بنشر الفن الرديء وتكريسه كفن شعبي.
قد يكون فيلم "ذا روم" الأميركي أبرز مثال على التنمر الذي ساهم في تكريس الفن الرديء؛ فالفيلم الرومانسي الذي أنتجه وكتبه وأخرجه وأدى دور البطولة فيه تومي ويزو، أثار سخرية الجمهور منذ عرضه الأول سنة 2003، وحصل على تقييمات نقدية متدنية جداً (26% على موقع روتين توميتو، و9% على موقع ميتاكريتيك). لكن رداءته التي حركت حس السخرية لدى المشاهدين، أدت إلى نجاحه جماهيرياً، ليستمر عرضه لأكثر من 16 سنة، فلا يزال الجمهور الأميركي حتى اليوم يرتاد صالات العرض ليسخر بشكل جماعي من ويزو، ويردد حواره كجوقة؛ كما أن شعبية الفيلم دفعت المنتجين لاستثمارها بإنتاج منتجات ثقافية ترتكز على الفيلم، منها: كتاب لويزو يسرد فيه تفاصيل صناعة الفيلم ولعبة فيديو وعروض حية وسلسلة ويب.
إن أهمية فيلم "ذا روم"، وما يشابهه من أعمال فنية، تنبع من كونه نمطاً فنياً يملأ الفراغ الكبير القائم في العلاقة ما بين الفنانين والجمهور؛ ذلك الفراغ الناجم عن رغبة الجمهور في التفاعل والمشاركة بالسخرية من الأنماط الكوميدية، وعن كون معظم الفنانين يميلون إلى الظهور بصورة المثقف المتزن في حياتهم اليومية وإطلالاتهم الإعلامية، وفقاً للتعاليم التي يتلقونها في معاهد تعليم الفنون، والتي تطابق ما بين شخصية المثقف والفنان، وتكرسها الدراما والبرامج الحوارية؛ فهذه الصورة لا تلائم رغبات الجمهور في بعض الأحيان بمتابعة نماذج وشخصيات بسيطة، والاستمتاع بكونهم المتفوقين ثقافياً.


فعلياً، هناك العديد من الأعمال الفنية التي كشفت الرغبة الكامنة لدى الجمهور بالتفوق الثقافي على المؤدي، أبرزها العرض الأدائي الأميركي، "عام الدب الأبيض واثنان من الهنود الحمر"، الذي قدمه غوميز بينيا وكوكو فوسكو، اللذان وضعا نفسيهما في قفص، وادعيا أنهما من الهنود الحمر، وقد عُثر عليهما في جزيرة اكتشفت حديثاً، فوقفا أمام الجمهور المتفوق حضارياً، ليتيحا لهم النظر إلى جسديهما بحرية والاستمتاع بالتفوق.
في الواقع، إن هذا الشكل الخاص من العلاقة ما بين المؤدي والجمهور المتنمر يعود تاريخياً إلى شخصية مهرج الملك، وهو المؤدي الذي كان يتقمص دور الرجل البسيط الساذج لإرضاء الجمهور المتنمر في البلاط الملكي؛ فهذه الشخصية كانت تخلق حيزاً خاصاً من الكوميديا التفاعلية القائمة على تعليقات المتنمرين وتبني المؤدي لشخصية أدنى من الحضور، تتلقى الإهانات بصدر رحب.
وقد حظيت هذه الشخصية باهتمام أفضل كاتب عرفه تاريخ الفن، وليام شكسبير، فأقحمها بعروضه التراجيدية ليخلق مساحة من المرح في تلك العروض التي تعود إلى عصر الباروك، وليعطي الجمهور حيزاً للتفاعل والتنمر على الشخصية الفاقعة التي تمر بعروضه وتلقي حكماً لا تناسب مظهرها.
ورغم أن هذه الشخصية غيبت عن الدراما ما بعد شكسبير، حتى في المسرحيات الشكسبيرية نفسها، حيث حاول المخرجون المعاصرون إظهارها بمظهر أكثر حكمة وذكاءً في الإخراجات المعاصرة لمسرحيات شكسبير، إلا أن الجمهور لا يزال يبحث عنها في هوامش الأعمال الدرامية، فتجد الجمهور بين الحين والآخر يتنمر على بعض الممثلين الثانويين في الأفلام والمسلسلات ويسخر من شكل رجل يمر في هامش الشاشة أو طريقة حديث طبيب يعلن موت البطل في مسلسل درامي، ليجد الجمهور معادلاً درامياً للشخصية الشكسبيرية الضائعة في المسلسلات العربية، حتى وإن كان ظهور هذا النمط من الشخصيات ناجماً عن رداءة الإخراج والأداء، وليس بسبب وعي القائمين على هذه الأعمال بالأثر الذي تتركه هذه الشخصيات.
في الواقع، إن رغبة الجمهور في التنمر على المؤدي، وممارسة دور الملك في العلاقة مع مهرجه، صنعت نجوماً وكرست العديد من الأسماء اللامعة في الفن الشعبي، وقد يبدو مغني الراب الهندي، D4nny، نموذجاً على ذلك، فبعد أن غنى "Good bye"، حصد شهرة عالمية من خلال السخرية والتنمر، حفزت العديد من الفنانين للعمل معه، ونتج عن هذه اللقاءات أعمال فنية حازت إعجاب الجمهور، ولا سيما الريميكس الذي أنتجه جو رين Jus Reign الذي تنمر به بشكل فاقع على شخصية D4nny.


في العالم العربي أيضاً يوجد نماذج مشابهة، أبرزها المغني المصري شعبان عبد الرحيم، الذي اكتسب شعبية كبيرة من خلال تنمر الجمهور على أزيائه الفاقعة وأسلوبه الخاص بالحركة والرقص، وكذلك المغني السوري عمر سليمان، الذي ازدادت شعبيته بعد أن أُنشئت صفحة على "فيسبوك" باسم "ولدي ماهر"، ونشرت مئات المنشورات المتنمرة على شخصية سليمان ولغته. بل إن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت الأفق أمام رغبات الجمهور المتنمر، فكرست شخصيات لا علاقة لها بالفن كنماذج للفن الشعبي من خلال التنمر، كما حدث مؤخراً مع الشاب اليمني، الذي لُقب بـ"أسير الأحزان"، الذي عرفه الجمهور من خلال أغنية "ريميكس" جمعت فيديوهاته باسم "آه يا حنان"، ليصنع التنمر نجماً لم يفكر مسبقاً بإنتاج عمل فني.

دلالات
المساهمون