رشيد مشهراوي لـ"العربي الجديد": "كتابة على الثلج" يطرح موضوع الانقسام الفلسطيني

28 أكتوبر 2018
رشيد مشهراوي (العربي الجديد)
+ الخط -
أثناء مشاركته في الدورة الـ 8 من مهرجان مالمو للسينما العربيَّة، التقت "العربي الجديد" مع المخرج الفلسطيني، رشيد مشهراوي (1962)، وأجرت معه الحوار التالي:

(*) في "كتابة على الثلج" (2017)، تسرد الحكاية في مكان واحد (منزل) وزمان واحد (ليلة كاملة). هذه ليست المرة الأولى. هناك "حتى إشعار آخر" (1994) مثلاً، رغم أنّ فيه خروجًا، ولو قليلاً، من المكان الواحد؟
ـ لا تنس "الملجأ" (1989) أيضًا: غرفة واحدة في زمن واحد مع ممثلين اثنين هما محمد بكري وسليم ضو.
هذا عائدٌ إلى رغبتي في الاعتماد على الرمزية، وهي الآن تريد التعبير عن كلّ مكان، وعن شرائح كثيرة من الناس تختزل الدولة/ المجتمع. لذا، كان المكان واحدًا والزمان واحدًا كي أروي حكاية. التجربة خطرة. لا حلّ وسط فيها. إما النجاح أو الفشل. هذا توجّه سينمائي، له من يحبه ومن لا يحبه. عمليًا، أنا أصنع فيلمًا واحدًا. لديّ 7 أفلام روائية و15 فيلمًا وثائقيًا. مع هذا، هناك فيلم واحد أصنعه، لكنّي أنظر إلى الحكاية من زاوية مختلفة كلّ مرة. أحاول العثور على معالجة سينمائية مختلفة. مرّة أذهب إلى رام الله، ومرة أخرى أكون في القدس، ثم في مخيمات اللاجئين، وغزّة إلخ. هذا التجريب أشتغله لنفسي. لكن، كي أصل إلى توجّه سينمائي عليّ مواجهة تحدّيات سينمائية تدفعني إلى تلمّس الأشياء والحالات والانفعالات. أروي الحكاية نفسها تقريبّا، فالتنويع كامنٌ في زوايا النظر.

(*) إلى أي حدّ تعتبر أنّ "كتابة على الثلج" موغل في رمزيّته؟
ـ هي هنا أكبر وأكثر حضورًا. "كتابة على الثلج" متأتٍ من أشياء شخصية بحتة، لكن ليس انطلاقًا من كوني سينمائيًّا فلسطينيًّا، بل مواطنًا فلسطينيًا. الفيلم يتعامل مع موضوع الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني، ويلمس الانقسام العربي. المكان: غزة. الزمان: الآن. أفلامٌ كثيرة تناولت الاحتلال الإسرائيلي، غير أن هذا الانقسام الفلسطيني الداخلي لا يقلّ قسوة وثقلاً وخرابًا عن نكبة الـ48. الاحتلال الإسرائيلي واضحٌ في مشروعه، فهو يريد فلسطين كلّها. أما نحن، ماذا نفعل؟
أفلامٌ سابقة لي اقتربت من مسألة الانقسام الداخلي أيضًا، كـ"عيد ميلاد ليلى" (2008) و"فلسطين ستيريو" (2013). هذا قرار داخلي. علينا تسمية الأشياء بأسمائها. مشكلتنا أننا نعلّق مشاكلنا على شمّاعة الاحتلال، بينما الوضع السياسي والاجتماعي الفلسطيني مُدمَّر، والحالة الفلسطينية ـ التي نستلّ منها مواضيع أفلامنا ـ هي في أسوأ أوضاعها، إلى درجة تُثير الإحباط.
أنا من الذين يتعاملون مع الموضوع الفلسطيني منذ بداية عملي المهني. أترجم الحالة إلى أفلامٍ أعرضها في العالم لتوضيح الأشياء. السينما الفلسطينية تتطوّر وتصل إلى أهمّ مدن العالم. السينمائيون الفلسطينيون يتطوّرون ويُدركون شُهرة دولية، بينما الموضوع الفلسطيني يتراجع. ماذا نفعل نحن؟ منذ 30 عامًا وأنا أروي الحكاية الفلسطينية، وإذا بمسؤول فلسطيني يُلغي عملي وعمري السينمائي بتصريحٍ واحد منه. هذا مُحبط.
لذا، أردتُ تسمية الأشياء بأسمائها في "كتابة على الثلج". لتكن الرمزية عالية، وليكن الكلام مباشرًا. المسألة شخصية جدًا في هذا الفيلم. أريد تسمية الأشياء وتحديدها. الأصولية في العقل أخطر من كلّ شيء. تلتقي أناسًا لا تعرف شيئًا عمّا في دواخلهم. هذا مخيف.



(*) أين صوّرت "كتابة على الثلج"، الذي جمعت فيه 5 ممثلين من 4 دول عربية؟
ـ صوّرته في "قليبية" في تونس، على الحدود مع الجزائر. هناك، شيّدتُ حيًّا كاملاً يُفترض به أن يكون غزّاويًا. حتى لو أردتُ التصوير في فلسطين، مع مشاهد الدخان وأصوات الصواريخ والأبنية المدمّرة، لأُجبرتُ على بناء استديو خارجي لتنفيذ السيناريو. لكن وضع غزة حاليًا غير ملائم البتّة لتحقيق فيلمٍ روائي فيه مثل هذا، مع إدخال أجهزة وتقنيين وممثلين من دول عربية مختلفة. التعاون مع ممثلين عرب هو أول تجربة لي أيضًا. أولاً: ممثلون عرب يؤدّون شخصيات فلسطينية أثناء الحرب في غزة؛ وثانيًا: لا أزال أعتبر أنّ الانقسام، وأسمّيه دائمًا "عدم قبول الآخر رغم الاختلاف"، دمَّرنا نحن العرب. في دول عربية مختلفة، لا يُستَعْمل الدين كمشروع وطني أو تحرّريّ من الاحتلال، بل كأداة وصول إلى السلطة والنفوذ.
لذا، تعاونت مع ممثلين عرب يؤدّون حكاية فلسطينية لها انعكاسات على العالم العربي. غسان مسعود من سورية وعمرو واكد من مصر ويمنى مروان من لبنان وعرين عمري ورمزي مقدسي من فلسطين. فأنا أريد مواجهة الانقسامات المختلفة بالتأكيد على إمكانية العمل العربي المشترك الذي يتجاوز الحدود والانقسامات.

(*) كيف تعاملت معهم؟ فلكلّ واحد منهم أسلوب وثقافة ومزاج وهواجس مختلفة بعضها عن البعض الآخر.
ـ ما أنقذني في التعامل مع هذه التركيبة من الممثلين هو السيناريو، والالتزام به قدر الإمكان. لم يكن اختياري عمرو واكد وغسان مسعود مثلاً لكونهما يمثّلان في أفلام عالمية وهوليوودية. أردتُ مسعود في دور الزوج وواكد في دور الأصولي، كما هو مكتوبٌ في السيناريو، فالسيناريو مرجعيتي الأساسية. اختيار الأسماء لم يكن لهدفٍ تجاري، أو للعمل مع نجوم. لم أفكّر بهذا. الاختيار نابعٌ من تلاؤم الممثل مع الدور المكتوب في السيناريو. أمرٌ آخر: في فلسطين، هناك لهجات مختلفة. شخصية الأصولي التي يؤدّيها عمرو واكد غزّاوية. وغزّة قريبة من مصر، ولهجة أبنائها مائلة إلى اللكنة المصرية. الزوج منتمٍ إلى فئة العائدين إلى فلسطين، من الأردن وتونس ولبنان وسورية. غسان أقرب إليّ من ناحية الثقافة واللهجة والتصرّفات داخل المنزل. بالنسبة إلى يمنى مروان، أردتُ ممثلة (دور المتطوّعة في الهلال الأحمر الفلسطيني) من لبنان. بدأ البحث، وتواصلت مع أصدقاء قرأوا السيناريو واقترحوا أسماء متلائمة للشخصية. عندها، تعرّفت على يمنى. بعد قراءتها السيناريو، تناقشنا فيه وفي أمور سينمائية مختلفة. عندها، شعرتُ أنها الأقرب إلى الدور. مبسوطٌ بها وبالدور الذي أدّته: صبيّة متطوّعة وأم وناشطة ومتعلّمة ومنفتحة، وهذا كلّه حاضرٌ تمامًا في السيناريو. وفي مقابل نجومٍ، لم تكن أقلّ أهمية منهم.

(*) كيف كان التعاون بينكم قبل التصوير؟
قبل التصوير، اتفقنا على مسألة مهمّة بالنسبة إليّ: نحن نروي حكاية من غزة. لكن، لينتبه كلّ واحد منهم إلى ما يحدث في العالم العربي. بهذا المعنى، إذا شعر عمرو واكد أن الحكاية مصرية، فلتكن الحكاية مصرية. وغسان مسعود رآها سورية، فلتكن. والباقون أيضًا، وبينهم عرين عمري ورمزي مقدسي من فلسطين. أردتُ مشاعر قادرة على تفعيل شحنة أداء رفيعة المستوى. وهذا ما حصل.

كانت هناك مراجعات مختلفة في الـ"بلاتوه". قبل التصوير، قدّمنا الفيلم برمّته: تمثيلاً ولهجةً وأداءً وحركة كاميرا. لاحقًا، نفّذنا السيناريو وصوّرناه.
باختصار، أقول لك إنّي لم أشعر ولو للحظة واحدة أني أعمل مع نجومٍ، بل مع أصدقاء أعرفهم من قبل.



(*) هل تُعيد خوض التجربة نفسها مرة جديدة: مكان واحد وزمان واحد وممثلون عرب؟
ـ نعم، إنْ كان هناك موضوع يحتاج إلى هذه الطريقة في العمل. ليس كلّ سيناريو قادرًا على تحريضي على صنع فيلم كهذا. أنا لا أختار الأفلام التي أعملها، بل تلك التي أشعر بها بناءً على معايشتي الواقع والحراك اليومي وتفاصيل الناس والمجتمع والأحداث. "حتى إشعار آخر" مثلاً نشأ في أجواء الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993). "حيفا" (1996) مع "اتفاقية أوسلو" (1991). "تذكرة إلى القدس" (2002) عندما خرب كلّ شيء، وجاء من يقول إن انتفاضة ثانية ستندلع لأن اتفاقيات السلام لم تنجح، وهذا أمر مزيّف. هناك أيضًا "توتر" (1988): تأمّلٌ صامت يُظهِر أفكار الناس وعيونهم وأحاسيسهم في غزّة والضفّة الغربية والقدس ومخيمات اللاجئين.

(*) وماذا عن جديدك؟
ـ لديّ مشروع جديد يُفترض بي تصويره عام 2019، بعنوان "غزّة واشنطن". قصّة حب في غزّة بين لاجئ فلسطيني ومتضامنة أميركية من واشنطن. حبّ في غزّة المحاصرة، وغزّة "حماس"، وغزّة الانقسام. أتفحّص الحبّ في الداخل، وأسأل: ماذا يحدث فيه؟ هناك سخرية سوداء. سيكون برائحة "عيد ميلاد ليلى".
المساهمون