"وِلْدي" لمحمد بن عطية: اضطرابات الصورة

11 يونيو 2018
من "وٍلْدي" لمحمد بن عطية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يُشكِّل التحاق شبابٍ تونسيين بتنظيم "داعش"، أو بتنظيمات جهادية أخرى، سؤالاً جوهريًا في الوعي الثقافي التونسي. محاولاتٌ تبحث في أسباب الالتحاق، وفي الحالة الناشئة من الالتحاق ونتائجه المنعكسة في جوانب الاجتماع والنفس والعلاقات والتبدّلات؛ وهذه كلّها حاضرةٌ في أعمال صحافية وإعلامية، كما في دراسات وكتابات متنوّعة. 

الفنون المختلفة تؤدّي دورًا في هذا أيضًا، لكن المقاربة الفنية تبقى الأصعب في التوغّل داخل الوجدان الفرديّ للتحقّق من معنى الالتحاق وأهدافه، ومن العوالم التي يصنعها في بيئة المُلتحق ومحيطه. 

السينما تحديدًا غير مُتمكّنة من إنجاز مقاربة مُقنعة ـ جماليًا ودراميًا وفنيًا ـ للمسألة، لغاية الآن، على نقيض أفلامٍ قادرة على معالجة سينمائية أكثر تماسكًا وأمتن صُنعة (غالبًا) لموضوعي الهجرة غير الشرعية و"ثورة الياسمين". وإذْ يبدو التناول السينمائيّ للثورة أصعب، بسبب حيويته المستمرّة وأسئلته المعلّقة وإفرازاته الكثيرة والملتبسة والمعلّقة؛ فإنْ الاشتغال السينمائيّ الخاصّ بسؤال الهجرة غير الشرعية (رغم أن الهجرة هذه قائمة لغاية الآن، وإنْ في فترات متباعدة) يبدو أعمق وأجمل وأصدق، وأقدر على تبيانٍ ـ بصري وجمالي ـ لحقائق ووقائع. الأمثلة عديدة وحديثة الإنتاج، أبرزها "بنزين" (2018) لسارة عبيدي و"على كفّ عفريت" (2017) لكوثر بن هنيّة و"غدوة حي" (2016) للطفي عاشور و"تونس الليل" (2016) لإلياس بكّار (عشية الثورة وملامح بداياتها)، وغيرها.



الالتحاق بـ"داعش" ونتائجه وتأثيراته مسائل مطروحة في "زهرة حلب" (2016) لرضا الباهي، الذي يروي حكاية شابّ منتمٍ إلى طبقة اجتماعية متوسّطة، وابن والدين مُطلّقين، ينغمس والده في عالم الفنون، وتعمل والدته مُسعفةً. التحاقه بالتنظيم الجهاديّ في سورية سببٌ لقيام الأم برحلة محفوفة بالمخاطر والتساؤلات والقلق بحثًا عنه، وأملاً في استعادته من هذا الجحيم الأرضيّ. جديد السينما التونسية المرتكزة على الموضوع نفسه يتمثّل بـ"وِلْدي" (2018) لمحمد بن عطيّة: شابٌ يستعدّ لتقديم امتحانات البكالوريا، ويُقيم مع والدين منتميين إلى طبقة اجتماعية أقرب إلى المتوسّطة. لحظة الحدث الانقلابي مترافقة والأيام الأخيرة من وظيفة الأب المتقاعد، بينما الأم مُدرِّسة في مدينة بعيدة، ما يجعلها تُقيم بعيدًا عن المنزل أيامًا عديدة في الأسبوع.

المُقارنة بين الفيلمين ناتجةٌ من تشابه المادة المختارة، وبعض تفاصيل السياق، علمًا أن الأب في "وِلْدي" هو من يغامر بحثًا عن وحيده، متمنّيًا استعادته والنجاة به ومعه من اختبار دموي وعنيف كهذا. لكن المشترك الأبرز بينهما كامنٌ في عجزٍ سينمائي واضح عن مقاربة المسألة، وفقًا لما يتطلّبه إنجاز فيلمٍ سينمائيّ متكامل، يتناول موضوعًا حسّاسًا كهذا، وهو موضوع مفتوح على أسئلة أخرى أساسية: العلاقة العائلية والأبوية؛ ومفهوم العائلة ومصيرها في لحظة تحوّلات اجتماعية وسياسية واقتصادية جوهرية في البنيان الحياتي التونسي؛ وتنامي الإمكانيات المختلفة للجهاديين، التي تتيح لهم تواصلاً أسرع وأكثر أمنًا مع شبابٍ تائه بين ثورة فاشلة واضطراب اجتماعي وتمزّقات عائلية وأحلام مجهضة أو موؤودة، وانفصام قاسٍ بين رغبة في التحرّر الاجتماعي وقواعد محافظة وتقليدية.

بعض الأسئلة هذه حاضرٌ بمواربة في بنية النص السردي لـ"زهرة حلب". لكن الأسئلة نفسها تكاد تتوه في البنية الدرامية لـ"وِلْدي"، المُشارك في برنامج "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي. وإنْ لم يتمكّن الأول من ضبط إيقاعها الحكائيّ وترجمتها البصرية، فإن "وِلْدي" ينشغل أكثر في تقديمٍ طويل المدّة للشخصيات الـ3، ولركائز العلاقات بينها، ولمواقعها في البيئة المحيطة بها، قبل أن يطول زمن الرحلة والبحث والعودة الخائبة، من دون استناد إلى مقوّمات درامية وجمالية تحصّن الإطالة من فخّ الملل والتشرذم. وفي مقابل أداء محترف لهند صبري في دور الأم الباحثة عن ولدها في حربٍ لا علاقة لهما بها (زهرة حلب)، يمتلك محمد ظريف أدواته التعبيرية كممثل يُدرك تمامًا كيفية تقديم الشخصية، وكيفية التحوّل إلى مرايا متنوّعة لأحوال الشخصية وانفعالاتها وهواجسها وقلقها وانكساراتها وخيباتها (وِلْدي).



لن يكون "وِلْدي" أفضل، سينمائيًا وإنسانيًا وشفافية، من "نحبّك هادي"، أول روائي طويل للتونسي الشاب محمد بن عطيّة (1976). جديده يُشبه واقعًا يحاول سبر أغوار شيء منه: الارتباك والمتاهة والعجز عن فهم الراهن والتواصل معه. هذا ليس تبريرًا للتبسيط الحاصل في المعالجة الدرامية والتصوير السينمائي للمضمون وتفاعلاته وتناقضاته ومسارات حكاياته وأحداثه. المُقدَّم في "وِلْدي" غير مختلف أبدًا عما تُقدّمه ريبورتاجات وتحقيقات مُصوّرة تتناول الموضوع نفسه. الرحلة معروفة، وتكاد تُعرف نتائجها سلفًا. المتابعة السينمائية للمسار عادية جدًا، وغير ممتلكةٍ ما يُثير الرغبة في المتابعة أو التنبّه إلى جديدٍ يُمكن قوله في موضوع حيوي وفاعل ومؤثّر وآنيّ.

"التفاؤل" المطروح كـ"نهاية سعيدة" (!) انعكاسٌ لرغبة في التنفّس، بدلاً من الإمعان في التقاط النبض الواقعي لليوميّ، وهو مغاير للتفاؤل والنهاية، وإنْ يكمن الهدف في قولٍ واضح: هؤلاء الشباب العمّال أمل غدٍ منتظَر (رياض، الوالد المفجوع، يلتقي شبابًا للعمل معهم في مصنع، فيتناولون طعام الغداء معًا، ثم ينظر إليهم بابتسامة وهم يأكلون ويضحكون).

الانفصال بين الوالدين متوقّع وطبيعي كأحد نتائج السياق الحكائيّ وتفاعلاته. رياض (محمد ظريف) عاجزٌ عن استعادة "الابن الضال"، والأم نزلي (منى الماجري) واقعةٌ في بؤس نظام معيشيّ، وهذا كلّه بعد أن يُعلَّق مصير الابن سامي (زكريا بن عايد) بين موتٍ متوهّم وانغماسٍ ملتبس في خيارٍ يبقى نتاج اضطرابات عديدة يُعانيها (وإنْ يظنّ البعض أنه مقتول في عملية انتحارية).

لكن "ولْدي" أضعف من مقاربة اضطراب حالة عامة تُصيب الأفراد بتمزّقات خطرة، وتُعطّل الجماعة عن فعل الخروج من خرابها.
المساهمون