أحدث الأفلام المعنيّة بسطوة التقنيات على الفرد، جديد الفرنسيين غوستاف كِرفِرن وبونوا دولِبين، "امّحاء السجل التاريخي" Effacer L’historique، الفائز بـ"الدب الفضّي" الخاص بالدورة الـ70 (20 فبراير/شباط ــ 1 مارس/آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". فيلمٌ يروي حكايات 3 أشخاص يُقيمون في شارعٍ واحد خارج باريس، ويعانون مآزق جمّة في يومياتهم، لأسبابٍ مختلفة، لكنهم يلتقون في بؤرة السطوة الخانقة لتقنياتٍ، ما إنْ تُصبح حاجة يومية ملحّة لهم، حتى تُصبح في الوقت نفسه أداة خانقة توقعهم في أهوالٍ مصيرية، فتدفعهم إلى اتّخاذ خياراتٍ لخلاصٍ منتظر منها.
فمن تصوير النساء في "أوضاعٍ مُثيرة" لابتزازهنّ لاحقاً، أو تصوير فتياتٍ في سنّ المراهقة للتنمّر عليهنّ في المدرسة، إلى إقامة علاقة جنسية افتراضية مع امرأة "هي"، عملياً، مجرّد صوتٍ مُثير يُلبّي غريزة الرجل الذي "يُغرَم" بها فيُعاني الأمرّين للقائها، قبل انكشاف الأمر برمّته له، فيُصاب بمزيدٍ من الإحباط؛ ومن سطوة الخدمات التلفزيونية التي يكاد يفقد المرء عقله بسببها، إلى إلهاء شبه دائم للفرد عن كلّ شيء آخر؛ تُسرَد حكايات "امّحاء السجل التاريخي" بلغة سينمائية مبسّطة، من دون تسطيح أو إطلاق ساذج لأحكام ونظريات، بل بمزيجٍ بارع من السخرية والنقد المبطّن والكوميديا، أثناء سرد مسارات "الفعل المأساوي" الذي يُحطّم الكيان البشري للفرد أحياناً.
أول تلك الشخصيات تُدعى ماري (بلانش غاردان): أم مطلّقة، توهم جيرانها أنّ ابنها الوحيد لا يزال يُقيم معها في المنزل، وتواجه مصاعب شتّى بسبب قلّة المال، والتورّط في علاقات عابرة، يَعمَد أحدهم فيها، بعد سهرةٍ في ملهى وانتقال إلى منزله، إلى تصويرها في أوضاع "مؤذية" لها، طالباً منها 10 آلاف يورو للتخلّص من الشريط.
الشخصية الثانية، برتران (دوني بوداليدس): جار ماري الأقرب إليها كصديق، يُقيم مع ابنته المراهقة، ويرتبط بعلاقة تبدأ صدفة عبر اتصال هاتفي من "امرأة"، تتحوّل (العلاقة) إلى هاجسٍ له، تماماً كهاجس الإيقاع بابنته في فخّ التنمّر، بعد تصويرها وتوزيع الشريط في المدرسة للسخرية منها. من ناحية، يريد برتران لقاء تلك المرأة ذات الصوت الذي يُثيره، جسدياً وعاطفياً. ومن ناحية أخرى، يريد إنقاذ ابنته من تلك الورطة، بأي شكلٍ من الأشكال.
ثالث الشخصيات، كريستين (كورينّ مازيارو): ضحية التلفزيون وبرامج التسلية والألعاب والمسلسلات التي تبدو كأنّها "غير متناهية". تتشارك مع برتران ذكرى "السترات الصفراء"، وإنْ بشكلٍ موارب، من دون أن تتخلّى عن ماري أيضاً، إذْ يبدو لها، وإنْ ضمنياً، أنّهما خلاصها اليومي من قسوة ما تعانيه.
المرأتان عاطلتان عن العمل، وبرتران يعمل في محلّ لبيع أغراض مختلفة (في لقطة عابرة، يدخل إليه زبون لشراء غرضٍ ما، فإذا بالزبون هو نفسه الروائي الفرنسي ميشال هولّيبيك، الساعي إلى الانتحار، في الفيلم طبعاً). جميعهم يجهدون في البحث عن منافذ تُحرّرهم من مصائب وانكسارات وخيبات، فيلجأون إلى خبيرٍ في التقنيات "يختبئ" في مكانٍ سرّي (!)، فيتمكّن من مساعدة مجتزأة، إذْ على الثلاثة أن يلجأوا إلى المركز الأساسي للداتا في العالم (في إحدى الولايات الأميركية)، والتسلل إلى داخلها بحثاً عن "هارد ديسك" يجب الحصول عليه وإتلافه. تختار ماري هذه المهمة، بينما يخالف برتران الاتفاق، لرغبة في لقاء المرأة ذات الصوت المثير. في أميركا، تقع ماري في الفخّ نفسه، بعد اقتحامها المبنى: أثناء احتسائها كأساً في مقصفٍ، تلتقي رجلاً وسيماً. صباح اليوم التالي، تستيقظ في منزله، وتكتشف أنّه صوّرها، كذاك الذي صوّرها سابقاً. أما برتران، فيكتشف أنّ المرأة آلة، وأنّ عليه قبول خيبته هذه.
الانتصارات القليلة تُفيدهم جميعاً، فهم توّاقون إلى خلاصٍ يقيهم مزيداً من الفشل والانكسارات والخيبات. يُدركون أنّ التقنيات الحديثة، بأشكالها كافة، حاجة ضرورية، لكنّهم يتمكّنون من استعادة حيواتهم كي يُكملوا مساراتهم بهدوء أكبر، وسكينة أعمق، وشفافية أجمل مع الذات والآخر. هم لا يُعلنون "ثورةً"، بل يعيشون أوهامهم وخضوعهم ونزواتهم بتفاصيلها كلّها، وعندما يستيقظون ويُدركون أفعالهم، يسعون إلى تصحيحها بشتّى الوسائل. هم، بهذا، يريدون حياة هادئة وهانئة بالمتوفّر لديهم.
اقــرأ أيضاً
هذا كلّه بأسلوب كوميدي ساخر، يجعل مواقف جدّية كثيرة أسهل في الانتقاد والكشف والتعرية، ويضع الشخصيات في مواقعها الحقيقية، كبشرٍ يخطئون وينتبهون إلى أخطائهم، ويعيشون مصائبهم والخروج منها كأي بشريّ آخر، من دون تنظير أو ادّعاء أو فذلكة في التحليل. سلاسة محبَّبة، تُغلّفها كوميديا تحمل ألم عيش وقسوة تحدّيات من دون مباشرة أو خطابية، وأداء تمثيلي يُضيف على المناخ الكوميدي الانتقادي الساخر ما يحتاج إليه من مفردات الكوميديا والسخرية الانتقادية اللاذعة.
"امّحاء السجل التاريخي" مُنجَزٌ قبل تفشّي فيروس كورونا في العالم، منذ أسابيع عدة. المرحلة الراهنة، المتمثّلة بالعزلة المنزلية لكثيرين، تتطلّب تقنيات حديثة كتلك التي يُمكنها الاستمرار في إخضاع الفرد لسطوتها، فالفرد محتاج إلى وسائل تواصل تُخفِّف من حدّة "الابتعاد الاجتماعي". لذا، يبدو فيلم غوستاف كِرفِرن وبونوا دولِبين مناسباً تماماً لهذه المرحلة: فبقدر ما يؤكّد قسوة التسلّط التقني المتطوّر على الفرد وحياته اليومية ونفسيته وجسده وروحه، يكشف في الوقت نفسه، بشكلٍ موارب وجميل (سينمائياً وتأمّلياً وثقافياً) أهمية التعامل السوي والصحّي للفرد مع تلك التقنيات.
فمن تصوير النساء في "أوضاعٍ مُثيرة" لابتزازهنّ لاحقاً، أو تصوير فتياتٍ في سنّ المراهقة للتنمّر عليهنّ في المدرسة، إلى إقامة علاقة جنسية افتراضية مع امرأة "هي"، عملياً، مجرّد صوتٍ مُثير يُلبّي غريزة الرجل الذي "يُغرَم" بها فيُعاني الأمرّين للقائها، قبل انكشاف الأمر برمّته له، فيُصاب بمزيدٍ من الإحباط؛ ومن سطوة الخدمات التلفزيونية التي يكاد يفقد المرء عقله بسببها، إلى إلهاء شبه دائم للفرد عن كلّ شيء آخر؛ تُسرَد حكايات "امّحاء السجل التاريخي" بلغة سينمائية مبسّطة، من دون تسطيح أو إطلاق ساذج لأحكام ونظريات، بل بمزيجٍ بارع من السخرية والنقد المبطّن والكوميديا، أثناء سرد مسارات "الفعل المأساوي" الذي يُحطّم الكيان البشري للفرد أحياناً.
أول تلك الشخصيات تُدعى ماري (بلانش غاردان): أم مطلّقة، توهم جيرانها أنّ ابنها الوحيد لا يزال يُقيم معها في المنزل، وتواجه مصاعب شتّى بسبب قلّة المال، والتورّط في علاقات عابرة، يَعمَد أحدهم فيها، بعد سهرةٍ في ملهى وانتقال إلى منزله، إلى تصويرها في أوضاع "مؤذية" لها، طالباً منها 10 آلاف يورو للتخلّص من الشريط.
ثالث الشخصيات، كريستين (كورينّ مازيارو): ضحية التلفزيون وبرامج التسلية والألعاب والمسلسلات التي تبدو كأنّها "غير متناهية". تتشارك مع برتران ذكرى "السترات الصفراء"، وإنْ بشكلٍ موارب، من دون أن تتخلّى عن ماري أيضاً، إذْ يبدو لها، وإنْ ضمنياً، أنّهما خلاصها اليومي من قسوة ما تعانيه.
الانتصارات القليلة تُفيدهم جميعاً، فهم توّاقون إلى خلاصٍ يقيهم مزيداً من الفشل والانكسارات والخيبات. يُدركون أنّ التقنيات الحديثة، بأشكالها كافة، حاجة ضرورية، لكنّهم يتمكّنون من استعادة حيواتهم كي يُكملوا مساراتهم بهدوء أكبر، وسكينة أعمق، وشفافية أجمل مع الذات والآخر. هم لا يُعلنون "ثورةً"، بل يعيشون أوهامهم وخضوعهم ونزواتهم بتفاصيلها كلّها، وعندما يستيقظون ويُدركون أفعالهم، يسعون إلى تصحيحها بشتّى الوسائل. هم، بهذا، يريدون حياة هادئة وهانئة بالمتوفّر لديهم.
برتران يُنقذ ابنته من التنمّر، وماري تنتبه إلى لعنة الـ"موبايل" والعلاقات العابرة، وكريستين تستفيق على جحيم الشاشة الصغيرة وارتكاباتها بحقّها. يُحقّقون مُصالحة مع الذات، بعد مرورهم في مطبّات تُعينهم، بشكلٍ أو بآخر، على بلوغ المُرتجى.
"امّحاء السجل التاريخي" مُنجَزٌ قبل تفشّي فيروس كورونا في العالم، منذ أسابيع عدة. المرحلة الراهنة، المتمثّلة بالعزلة المنزلية لكثيرين، تتطلّب تقنيات حديثة كتلك التي يُمكنها الاستمرار في إخضاع الفرد لسطوتها، فالفرد محتاج إلى وسائل تواصل تُخفِّف من حدّة "الابتعاد الاجتماعي". لذا، يبدو فيلم غوستاف كِرفِرن وبونوا دولِبين مناسباً تماماً لهذه المرحلة: فبقدر ما يؤكّد قسوة التسلّط التقني المتطوّر على الفرد وحياته اليومية ونفسيته وجسده وروحه، يكشف في الوقت نفسه، بشكلٍ موارب وجميل (سينمائياً وتأمّلياً وثقافياً) أهمية التعامل السوي والصحّي للفرد مع تلك التقنيات.