ماء الورد في إيران: فلسفة العصور القديمة

12 مايو 2018
قطف "الورد المحمدي" (العربي الجديد)
+ الخط -
ينتظر الإيرانيون كل عام موسم قطف ما يسمى بـ "الورد المحمدي"، وعصره وتقطيره للحصول على ماء الورد الذي يستخدمونه بشكل شبه يومي. وهو الموسم الذي يبدأ مع مطلع الربيع في مارس/آذار من كل سنة ويستمر حتى يونيو/حزيران، وتبدأ معه رحلاتهم وزياراتهم لقريتي قمصر ونياسر الواقعتين في كاشان في محافظة أصفهان وسط إيران، وهي القرى المعروفة بوجود هذا النوع من الورود فيها، والتي ما يزال سكانها يحافظون على تكرار ذات الطريقة التقليدية للحصول على ماء الورد. قد يتخيل المرء وهو في طريقه إلى قمصر في كاشان، أنه سيمر بمزارع خضراء كبيرة، مليئة بالورود، ولا سيما أنها المنطقة الأولى في إنتاج ماء الورد الذي يستخدمه الإيرانيون، بل ويصدّر منها إلى الخارج، ويستخدم كذلك في غسل الكعبة المشرفة. لكن طبيعة الإقليم قد تبعث على المفاجأة، فكاشان منطقة جافة، لا تكثر فيها الأشجار، لكن مزارع الورد المحمدي فيها تتوزع على شكل واحات متفرقة صغيرة ومتوسطة المساحة.


يقولون في إيران إن ورود قمصر مختلفة عن غيرها، والورد المحمدي هو نوع من الورود الجورية، التي تتمتع بشذى وعبير استثنائيين، زهرية اللون وصغيرة في حجمها نسبياً، وأوراق الزهرة رقيقة كذلك، ورغم أن عمرها قصير لكن الوردة المحمدية تعد مقاومة مقارنة بغيرها من الأنواع، فتنبت في الأقاليم الجافة وشبه الجافة وعلى سفوح الجبال، ولا يقتصر تواجدها على كاشان وحسب، بل يتعداه لمناطق إيرانية ثانية، لكن ما يميز قرى كاشان هو تعرف مزارعيها على الخصائص الغذائية والدوائية للورد المحمدي، فيستخلصون منه ماء وردهم المشهور، وبنسب كثافة متفاوتة.

(العربي الجديد)

انتقل الورد الجوري من دمشق إلى أوروبا، وتقول روايات تاريخية إن الورد المحمدي موجود في إيران منذ ألفي عام تقريباً، كما صناعة ماء الورد. والبعض يروي أن هذه الوردة انتقلت من إيران إلى تركيا وبلغاريا وحتى مناطق في أفريقيا.
الحضارات القديمة التي مرت على بلاد فارس كانت تولي أهمية خاصة للأغراض العلاجية والتجميلية، والورد المحمدي يقدم فوائد في كلا الاتجاهين، وتنبعث رائحة مائه المستخلص منه في كافة الأماكن المقدسة والدينية في إيران. يخرج المزارعون من ساعات الفجر الأولى خلال أيام الأشهر القليلة التي تنمو فيها الوردة المحمدية، يعبئون أكياساً من الورد من المزارع الخاصة به، وهم يرددون أهازيج اعتادوا عليها، وينقلونها إلى معامل صغيرة للغاية، معظمها أشبه بمحال لبيع ماء الورد، حيث يقطرون الورود باتباع الطرق التقليدية القديمة، ويعبئونه على الملأ، ليمتلئ المكان برائحة عبقة لا يمكن تشبيهها بأي رائحة ثانية.
بحلول الظهر يكون الورد في قدور كبيرة خاصة تشتعل نار قوية تحتها، وتغلق بإحكام ليصفّى ماء الورد في أواني التقطير النحاسية التي تصب فيها المياه المتبخرة من وعاء الورد، ويترك بعد ذلك لتترسب الشوائب، ولا يلقى الورد بعيداً عقب الحصول على مائه، بل يستخدم لإطعام الماشية.
تقول فاطمة سادات قناعت التي كانت تبيع ماء الورد في محل صغير، إضافة لأكياس معبئة بالورد المحمدي المجفف، ومربى الورد، وغيرها من المنتجات، إنها ورثت هذه الحرفة عن والديها، وهي تعمل في هذا المكان منذ خمسة وعشرين عاماً تقريباً.
كانت ابنة فاطمة تقف إلى جانبها، وتساعدها في البيع، إذ أن المحل الذي تمتلكانه كان مزدحماً بالزبائن الذين يأتون في هذا الموسم الربيعي من مدن إيرانية أخرى لمشاهدة صناعة ماء الورد التقليدية، ولشراء منتجات الورد المحمدي، وأضافت أن هذه الصنعة تنتقل في قمصر من جيل إلى جيل.


(العربي الجديد)


بدت فاطمة راضية كثيراً عما تفعله، وتقول إن الأمر لا يقتصر على منتجات الورد المحمدي، وما يستخلص منه، فلهذا النوع من الورود موسم خاص، وهو قصير نسبياً، لذا تعتمد كما بقية مزارعي القرية على تجفيف وتقطير أنواع أخرى من النباتات، وهو ما يجعل قمصر معروفة بالماء المستخلص من أغلب المزروعات والنباتات، ويستخدم كل واحد منه لغرض علاجي خاص، كما أن الورد المحمدي الذي يقدم طعماً مختلفاً للحلويات والمشروبات، يستخدمه الإيرانيون كسائل معقم كذلك، إذ أنه يساعد في معالجة حب الشباب والالتهابات، وحين يغلى الورد المحمدي المجفف يشرب ساخناً لتهدئة الأعصاب ولمعالجة حالات المغص.
يوضّح علي رضا علي حاجي لزوار قادمين إلى محله من طهران، طريقة صناعة ماء الورد، فكل صانع لهذا الماء يعمل كمرشد سياحي كذلك، ويقول إن فلسفة عصر الورد المحمدي تعود لقرون طويلة، وترتبط أساسا بأن عمر الوردة بعد قطفها قصير للغاية، لذا كان القدماء يفكرون بطرق للاستفادة منها بأقصى شكل، فخطرت ببالهم فكرة التقطير والعصر والتجفيف.




ذكر حاجي في زيارة للعربي الجديد إلى قمصر أن طريقة استخراج ماء الورد تختلف أحيانا، وكلما كانت كمية الورود أكبر وكمية المياه أقل، كلما كانت جودة ماء الورد أفضل، وأشار إلى أن وجود مرارة في الطعم أحيانا يعود لتركيز الورد وطريقة تقطيره، فماء الورد المكثف يكون مرا ويستخدم لأغراض علاجية أكثر من أن يكون محليا طبيعيا.
تعود هذه الحرفة لسنوات طوال، وبحسب المسؤولين في إيران يعمل أكثر من 3 آلاف شخص في صناعة ماء الورد المحمدي، ويوجد في قرى كاشان ما يقارب 200 معمل تقليدي أو محل صغير للحصول عليه بالطرق التقليدية القديمة، إضافة لمعامل ومصانع كبيرة حديثة تعتمد تقنيات جديدة.
دلالات
المساهمون