نجيب بنكيران: يحتاج الموزّع لمهارة التسويق والعلاقات الإنسانية

04 مايو 2018
نجيب بنكيران (فيسبوك)
+ الخط -

يصعب أن تجد في المغرب اسمًا ارتبط ذكره بمهنة سينمائية بقدر ما امتزجت سيرة نجيب بنكيران بتوزيع الأفلام. الأمر ليس وليد صدفة أو بداعي الأقدمية، ولا حتى بسبب استعصاء ممارسة هذه المهنة. بل لأن الرجل كان، بكلّ بساطة، أول من مارسها من منظور مغربي صرف. له السبق في توزيع الأفلام المغربية في زمن كان يُنظر إلى من يفكّر في صرف درهم واحد على ترويجها كـ"مجنون".

خاض نجيب بنكيران المغامرة، فحقَّق نجاحًا تلو آخر. اليوم، بات الفيلم المغربي متقدّمًا، في شبّاك التذاكر، على الأفلام الأميركية والفرنسية والمصرية، وهذا يحمل في طياته بشرى بنهضة سينمائية مرتقبة، في حال أنشئت، في يوم ما، صالات سينما بعدد يصنع حالة صناعية "فاضلة".

ينسى كثيرون أنّ لنجيب بنكيران دورًا أساسيًا في هذا المكسب، خصوصًا أنّ الرجل، بطبعه، كتوم، ولا يحبّذ الحديث عن نفسه.
رغم هذا، نزيح ـ في هذا الحوار ـ بعض غبارٍ عن قصّته المتعلّقة بتوزيع الأفلام، ونتمعّن في رؤيته لحاضر المهنة وآفاقها.

كيف كانت بداية علاقتك بالسينما؟

ولدت في حي "درب التازي"، في المدينة القديمة للدار البيضاء. كانت توجد سينما "الموغريب"، التي اختفت للأسف، وحلّت مكانها عمارة سكنية. عائلتي كانت تشتغل في المجال السينمائي. عمّي كان مدير سينما "أمبريال"، وأبي كان محاسبًا في شركة توزيع أفلام، كان يديرها بنجلون (والد رجل الأعمال المخضرم)، وعمّي الآخر كان مديرًا لسينما "الموغريب".
يمكن أن نخمّن بالتالي أني لم أكن لأضع قدمي في عالم آخر غير السينما. لكن، لم تكن هذه نيتي في الحقيقة. بعد أن نلت شهادة البكالوريا، ثم إجازة في الحقوق، كنت أتوجه إلى عمل قانوني. أُصيب أبي بوعكة صحية، وكان ينوي أن يبيع شركة توزيع الأفلام التي أنشأها، فقرّرت أن أحلّ مكانه. قلتُ له: "لقد شيّدت الشركة بعرق جبينك، وينبغي أن نحافظ عليها". اقترح عليّ أن أضطلع بتسييرها إن كنتُ أحسّ أني قادر على تحمل المسؤولية. هكذا بدأت المغامرة، مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

هل تحدّثني عن خطواتك الأولى في مهنة توزيع الأفلام؟

أتذكّر أول مرة توجّهت فيها إلى باريس بحثًا عن أفلام لتوزيعها. كان الأمر صعبًا جدًا، لأن ميدان التوزيع متصلّب ويفتقد المرونة. كانت هناك 3 أو 4 شركات كبرى تمثّل مصالح كبار الموزعين الأميركيين والفرنسيين، وتمتلك ضمنيًا حقوق توزيع الأفلام في أفريقيا والمغرب الكبير بصفة خاصة. كان صعبًا اختراق أنشطتها ومنافستها في الحصول على حقوق توزيع الأفلام الكبيرة، الأميركية أو الفرنسية، كما الهندية والمصرية. وجدت نفسي في غابة مليئة بالضّواري. فهمت حينها لماذا عانى والدي في مزاولته المهنة. رغم ذلك، قمت بأولى خطواتي في التوزيع.

ألا تزال تذكر تفاصيلها؟


طبعًا. المرة الأولى التي اقتنيت فيها حقوق توزيع أفلام كانت مع شركة في باريس. أتذكر أن مديرها اقترح علي صيغة اقتناء أفلام ـ مرّ على خروجها الأول في المغرب أعوام عديدة ـ بسعرٍ مغر. وافقت، لأن لا خيار آخر لي. عدت إلى الفندق ورويت لوالدي ما حدث. بدا قلقًا لأن الأفلام "قديمة" بعض الشيء، لكّنه قال لي: "الأمر بين يديك الآن. افعلْ ما تشاء".

أية أفلام اخترتها بالضبط؟

"شرطي خارج القانون" (1973) مع باد سبانسر، و"اصرخ في وجه الشيطان" (1976) لبيتر هنت مع لي مارفن، وفيلمان لداميانو دامياني "كلنا في سراح مؤقّت" (1970) و "اعترافات قائد شرطة" (1971). تمّت عملية الشراء في أبريل/ نيسان. بعدها بشهر تقريبًا حلّ شهر رمضان. أول الأفلام التي وزّعتها: "كلنا في سراح مؤقت". حصلتُ على نسختين فقط عُرضتا في "الكوليزيه" (الرباط) و"لوتريومف" (الدار البيضاء). الفيلم مناسبٌ لرمضان. طبيعة المشاهدة البعيدة عن الصخب تميّزه. بدأ العرض يوم أربعاء. في مساء اليوم نفسه، رنّ هاتف المكتب. هناك من يريد التحدّث معي من "الكوليزيه". قلت لنفسي: "انتهى الأمر. يبدو أنهم يطلبونني لإخباري بأن العرض لم يُثر اهتمام أحد، وأنهم مضطرّون لسحب الفيلم". لكن صوت المتصل يصدح: "هذا الفيلم لن يُسحب من العرض. سأتركه مبرمجًا طيلة شهر رمضان". عُرض الفيلم 8 أسابيع. كل شيء بدأ من هنا. الأفلام الـ3 الأخرى حقّقت أرقامًا جيدة في مدن صغيرة، كتطوان وسلا والعرائش.

كيف كانت علاقة شركة التوزيع الصغيرة مع مشغلي الصالات في ضوء استحواذ الشركات الكبرى على السوق؟


سؤال مهم. كان مستغلّو الصالات الكبرى يعطون الأولوية للشركات الكبرى، ثم يتصلون بنا إذا بقيت بعض الفجوات في البرنامج تسمح بعرض أفلام نقترحها. كنت أركّز بالأخص على القاعات الصغرى وتلك المتواجدة في الضواحي. مثلاً: في الدار البيضاء، كنت أبرمج أفلامًا في "الملكي" (الحفّارين) و"شهرزاد" و"المامونية". صالات صغيرة موجودة في أحياء شعبية.
من جهة أخرى، كلّ شركات التّوزيع الكبرى تمتلك صالات: "غومون" مثلاً تمتلك صالات "آ. بي. سي." و"الريف" و"الكوليزيه". هذه شركات تمنح لنفسها أسبقية توزيع الأفلام في صالاتها. لكن، مع مرور الزمن، وبحكم الاتصالات وعلاقات العمل التي ننسجها مع المسؤولين، فإنهم يمنحونك فرص عرض في صالاتهم، بين الفينة والأخرى. خصوصًا عندما يلمسون فيك صدقًا وجدّيةً في العمل.

كيف جاء قرارك توزيع فيلم مغربي للمرّة الأولى؟

الدورة الـ3 لـ"المهرجان الوطني للفيلم بمكناس" (1991). يومها، ومن موقعي كعضو لجنة تحكيم برئاسة المهدي المنجرة، اكتشفتُ جديد السينما المغربية. كان لديّ حكم مسبق سيئ جدًا عن الأفلام المغربية: لا أحد يقبل برمجتها، والفيلم المغربي الوحيد الذي حقّق نجاحًا هو "دموع الندم" (1982) لحسن المفتي. كانت الأمور ضبابية جدًا بخصوص ردّ فعل شبّاك التذاكر على الفيلم المغربي. شاهدتُ الأفلام كلّها المُشاركة حينها في مسابقة تلك الدورة، وهي لمخرجين من طينة حكيم النّوري والجيلالي فرحاتي ولطيف لحلو وعبد القادر لقطع. دافعت عن معظمها. أعجبت كثيرًا بـ"حبّ في الدار البيضاء" (1991) للقطع. التقيته وتناقشنا في الأمور كلّها المتعلّقة بإطلاق عروض الفيلم. وكان نجاح كبير له. اليوم، يُقال إن هناك سينما مغربية قبل "حب في الدار البيضاء" وأخرى بعده.

أريد التوقّف معك قليلاً عند هذه المحطة لمزيد من التفاصيل حول عملية إطلاق العروض وكلّ ما أحاط بها.

أُعجبت بهذا الفيلم، لأنّه بنظري يتناول قصّة مثيرة للاهتمام، تخرج عن السّبل المطروقة في السينما المغربية حينها. للفيلم جاذبية، بحكم مشاركة ممثّلين شباب، أبرزهم منى فتّو في بدايتها على الشاشة. حصل اتفاق على توزيع 12 نسخة منه. هذا رقم مهمّ، بحكم كلفة كلّ نسخة، والمغامرة التي تكتنفها العملية. قبل ذلك، تمّ الترويج للفيلم وإنجاز ملصق بمواصفات احترافية. عندما علم زملائي ومنافسيّ بالموضوع، لم يصدّقوا. حدّثوني أنّ الأموال التي أصرفها عليه تسمح لي بالحصول على 7 أو 8 أفلام أجنبية مضمونة النجاح، من دون "وجع الرأس".
الجميل هو كيف ساعد تناقل الأخبار بين المشاهدين منذ العرض ما قبل الأول على ترويج الفيلم. ازداد مرتادو العروض تدريجيًا. أتذكر أن الفيلم اشتغل بوتيرة لا بأس بها في الأيام الأولى، ثم حلّ يوم الاثنين. عادة، يتراجع عدد المُشاهدين كلّ يوم اثنين. بحكم أن مكتبي قريبٌ من سينما "الريف" (وسط الدار البيضاء)، توجّهت إليها حوالي الساعة 4 عصرًا لتفقد الأمور. في القاعة، رغم أنها ممتلئة كلّها، كانت أصوات بعض المشاهدين "تُسمع" بفعل الصمت السائد ولفرط الانتباه. لم تكن هناك هواتف نقّالة. عرف الفيلم إقبالاً مهمًّا في القاعات كلّها التي عُرض فيها.

ثم كانت تجربة "البحث عن زوج امرأتي" (1993) لعبد الرحمن التازي.

نجاح "حب في الدار البيضاء" عائدٌ إلى توافد الشباب أساسًا. أما "البحث عن زوج امرأتي"، فغالبية جمهوره مُكوَّنة من العائلات.

كيف تم الاتفاق على توزيع هذا الفيلم؟

آنذاك، كنتُ عضوًا في "لجنة دعم الإنتاج السينمائي" برئاسة الرّاحل محمد لطفي. شاهدنا الفيلم في قاعة "الفن السابع" (الرباط). سألني لطفي عن رأيي. عبّرت له عن اهتمامي، وإذْ به يخبرني أن المنتج ينوي إطلاق عرضه في صالة واحدة فقط. دُهشت. أخبرته أن الفيلم يستحقّ أكثر من ذلك. هكذا تمّ اللقاء مع التازي، واتفقنا على توزيع الفيلم بـ10 نسخ. للقاء الفيلم بالجمهور قصّة نجاح رائعة وغير مسبوقة. لا يزال الجمهور لغاية اليوم يطالب ببرمجته بين الفينة والأخرى. ثم كان "طفولة مُغتصبة" (1993) و"سارق الأحلام" (1995) للمخرج نفسه حكيم النوري، علمًا أن كليهما من إنتاج صارم الفاسي الفهري (المدير الحالي لـ"المركز السينمائي المغربي")، و"كيد النسا" (1999) لفريدة بليزيد، وأفلام ناجحة أخرى تولّيت توزيعها.



مع بداية الألفية الحالية، بدأت مشكلة إغلاق الصالات، وتغيّرت طبائع المشاهدة لدى الجمهور. كيف أثّر ذلك على طبيعة ممارسة التوزيع في المغرب؟

في البداية، كانت هناك صالات كثيرة وأفلام مغربية قليلة. بدأت تنعكس المسألة شيئًا فشيئًا، حتى أصبحنا نُنتج أفلامًا أكثر، تتوفّر لها قاعات قليلة لعرضها. القرصنة ظاهرة أثّرت بشكل كبير في المهنة. اليوم، لم نعد نشعر بتأثيرها بالحدّة نفسها، لأنّها أصبحت جزءًا من العادات، نوعًا ما. شعبية كرة القدم المعروضة مبارياتها على شاشة التلفزيون لعبت بدورها دورًا سلبيًا في تلك الفترة: تبدأ المباريات، فينقطع المشاهدون عن ارتياد القاعات. هناك أيضًا التكنولوجيا الجديدة وانتشار الصحون اللاقطة، التي زادت الطين بلّة، وأدّت إلى فقدان القاعات زبائنها، فألفينا أنفسنا من دون جمهور تقريبًا.
أمرٌ آخر يتمثَّل بانشغال الشباب بأمور أخرى غير السينما: الهواتف واللوحات الإلكترونية التي يتوفر فيها كلّ شيء. أضحى الفيلم ـ الحدث أمرًا وحيدًا قادرًا على جذب الجمهور إلى الصالات. لكن، أين هو هذا النوع من الأفلام اليوم؟
من جهة أخرى، يصعب أن تستنتج أحكامًا انطلاقًا من عادات الجمهور القليل الذي يرتاد القاعات اليوم في المغرب (نحو مليون و500 ألف تذكرة تُباع في العام). ما يحزّ في النفس هو العدد القليل من المشاهدين الـ"سّينفيليين". لم يعد الناس يعرفون شيئًا يُذكر عن السينما اليوم.
بمناسبة استقصاءات الرأي المنجزة حول الأنشطة المفضلة لدى المغاربة، تحلّ السينما في المرتبة الـ10 بين 20 نشاطاً. قبلها، هناك كرة القدم والمقهى والتلفزة مثلاً. هناك مشكلة حقيقية، ينبغي الاشتغال على حلّها من قِبَل المحترفين، وبصفة خاصة السّلطات المسؤولة، بالانكباب على التثقيف السينمائي، والعمل على تحبيب الناشئة في المدرسة بها، وعن طريق الإعلام أيضًا. كذلك، يجب أن تكون هناك صالات كثيرة جذّابة، وصناعة أفلام مغربية جيّدة.

هذا يطرح، مرّة أخرى، إشكالية نوعية الأفلام المنتجة. لكن، هذه المرة، من وجهة نظرك كموزّع.

ثلاثة أرباع الأفلام المنتجة في المغرب لا تصلح لأيّ شيء. لست أنا من يقول هذا، بل إحصائيات تقول إن غالبيتها لا تُعرض في الصالات أبدًا. يتمّ تمويل إنتاجها، ولا تصلح لأيّ شيء. الأفضل بنظري استهداف إنتاجات قادرة على تحقيق مردود ما. لا أتحدث عن الأفلام المُربحة في شبّاك التذاكر، بل تلك القادرة على خدمة صورة البلاد بمشاركتها في المهرجانات الكبرى أيضًا.

أخيرًا، ما تحليلك لمستقبل مهنة الموزّع في المغرب: هل لا تزال مهنة جذّابة للشباب اليوم؟


مهنة الموزّع معقّدة للغاية. تتطلّب مؤهّلات، منها تقني وإبداعي. ينبغي للموزّع مهارة التسويق والعلاقات الإنسانية. شهادة التكوين في توزيع الأفلام شيء لا معنى له، وهي غير متوفرة أصلاً حتى في أكبر المعاهد العالمية. ليست هناك قواعد محدّدة للمهنة. كل ما يمكن فعله هو تعلّمها ميدانيًا. ينبغي أن تحبّ السينما، وأن تكون ملمًّا بكل جديد، وعلى اتّصال دائم بمتطلّبات الجمهور، والشباب خاصة. يتطلّب الأمر أيضًا شركة بهياكل تنظيمية وموظّفين. الأهمّ: الحدس تجاه الأفلام. كموزّع، لديّ نظرة خاصة بالسينما تختلف عن تلك التي للناقد. عندما يقول لي ناقد إنّ هذا الفيلم جيّدٌ، آخذ حذري منه.

(ضحك) جيّد جدًا. ربّما أختار هذه الجملة عنوانًا للحوار.

لِمَ لا. مع احترامي للنّقاد، وأغلبهم أصدقائي، أقول هذا بشكل مبالغ فيه قليلاً. لكنه ينطوي على جانب من الحقيقة.
دلالات
المساهمون