وقال المولوي فضل الرحمن في تصريحات له أخيراً، إنّ القرار النهائي هو عدم التفاوض مع الحكومة والمضي قدماً في تنظيم المسيرة، "إذ إنّ الطريق الوحيد لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية، هو التخلّص من الحكومة الحالية التي أتت نتيجة التزوير في الانتخابات"، وفق تعبيره. وجاء موقف فضل الرحمن هذا بعد أن أعلنت الحكومة عن تشكيل لجنة برئاسة وزير الدفاع برويز ختك، من أجل التفاوض مع الأحزاب المصممة على تنظيم المسيرة. وكان ختك الذي أكد في بداية الأمر أنّ الحكومة لا محالة ستجد حلاً للمعضلة سياسياً عبر الحوار، قال في مؤتمر صحافي له يوم الأحد، إنّ "المعارضة إذا ما حاولت السطوة على العاصمة، وقامت بأي عمل خارج القانون، فإنّ الحكومة ستتعامل معها بيد من حديد، وستتخذ الخطوات اللازمة كافة من أجل التصدي لها".
من جهته، قال وزير الشؤون الدينية، نور الحق قادري، وهو أيضاً رجل دين ومن كبار المتصوفة في باكستان وتم تعيينه عضواً في اللجنة المخولة بالحوار مع المعارضة: "إننا كحكومة لن نمنع أحداً من الاحتجاج، وسنكون في دائرة القانون ما دام المتظاهرون لم يخرجوا عنه، وسنلجأ إلى طرق أخرى إذا ما خرجوا عن الدستور والقانون".
وتلك التصريحات المتباينة من الطرفين تشير إلى أنّ عملية الحوار لا طائل منها، وأنّ المعارضة الباكستانية ستحتكم إلى الشارع وتنظم المسيرة الكبرى، التي يأمل من خلالها المولوي فضل الرحمن إسقاط الحكومة، وإجراء انتخابات مبكرة.
من جهتها، بدأت الحكومة تلجأ إلى ممارسة الضغوط بعد فشل محاولات الحوار، وقد شرعت باتخاذ خطوات جادة على الأصعدة كافة من أجل التصدي للمعارضين لها مع إبقاء باب الحوار مفتوحاً. ومن ضمن خطواتها الهامة في هذا الاتجاه، تصنيفها "أنصار الإسلام"، أحد أفرع "جمعية علماء الإسلام"، ضمن قائمة الجماعات المحظورة بحجة أنّ هذا الفرع، والذي يعدّ معظم عناصره من طلاب المدارس الدينية ومن الشباب من أعضاء الجمعية، نظّم الأسبوع الماضي مسيرة في مدينة بيشاور شمال غربي باكستان، وكان المشاركون يحملون العصي المزودة بالأسلاك الحديدية. ووصفت الحكومة هؤلاء بـ"مليشيات خارجة عن القانون"، مطالبةً وزارة القانون ولجنة الانتخابات بأن تعلن "أنصار الإسلام" ضمن الجماعات المحظورة. تجدر الإشارة إلى أن الفرع كان يتولى تنظيم أمور المسيرة، كما ويشكل أعضاؤه جزءاً كبيراً منها.
وتعليقاً على هذا القرار، قال القيادي البارز في "جمعية علماء الإسلام"، حافظ حسين أحمد، إنّ الأخيرة "قرّرت تحدي القرار الحكومي في المحكمة"، مشيراً إلى أنّ فرع "أنصار الإسلام لم يشكّل اليوم أو أمس، بل هو جماعة مسجلة لدى الحكومة ولجنة الانتخابات منذ أمد طويل، ولم تثبت أي خطوة غير دستورية ضده". وشدد على أنّ "الهدف الأساسي من وراء تشكيل هذا الفرع، كان وما زال تنظيم الاحتجاجات والاجتماعات وتوفير الأمن لها".
كذلك، قرّرت الحكومة إغلاق الطرق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة، تحديداً بين شمال غرب باكستان وإسلام آباد، إذ إنّ معظم أنصار "الجمعية" من شمال غرب البلاد وتلك المنطقة أبناؤها من القبائل، وقد يغيرون موازين القوة إذا ما شاركوا في المسيرة.
تحريك العلماء ضد التيار الديني
وبعد أن فشلت الحكومة في إقناع المعارضة عبر علماء الدين ومساعيهم، بالتراجع عن قرار الاحتجاجات، لجأت إلى تحريك هؤلاء ضدّ المسيرة وما تعتزم المعارضة وتحديداً التيار الديني المتمثل في "جمعية علماء الإسلام" فعله من أجل إسقاط الحكومة، وقد نجحت فعلاً في ذلك إلى حدّ ما، إذ أعلنت بعض المدارس الكبيرة والمشهورة في البلاد، أن لا علاقة لها بالمسيرة. كما أعلن "مجلس علماء باكستان" الذي يتزعمه المولى طاهر أشرفي، عدم المشاركة في المسيرة الكبرى والاحتجاجات.
وعقد المجلس أخيراً مؤتمراً بعنوان "وحدة الأمة" في مدينة كوجرانوالا بإقليم البنجاب، شرقي البلاد، حيث تحدّث عدد من العلماء خلاله حول "ضرورة الوئام ونبذ العنف". وضمن المؤتمر ذاته، أعلن المجلس وعلماء دين منتمون إلى توجهات فكرية مختلفة، في بيان، رفضهم للمسيرة الكبرى وعدم المشاركة فيها، متذرّعين بأنّ "وضع البلاد لا يسمح بأي توتر أو تحرك داخلي، بل هناك حاجة ملحّة للوئام وحلّ المشاكل عبر الحوار". وذكر البيان أنّ "مثل هذه الأمور سعي لإرباك الوضع الداخلي ومن مسؤولية العلماء الوقوف في وجهها".
كما أعلنت الجامعة النعيمية، إحدى أكبر الجامعات في باكستان، أنّ طلابها لن يشاركوا في المسيرة الكبرى، وذلك على الرغم من أنها تابعة للتيار "الديوبندي" الذي تمثله "جمعية علماء باكستان". وقال مدير الجامعة، المفتي محمد نعيم، في مؤتمر صحافي عقده في مدينة لاهور بعد اجتماعه بوزير الشؤون الدينية نور الحق قادري أخيراً: "لا نريد أن نستخدم أبناء الشعب لأغراض سياسية ومصالح حزبية"، مضيفاً: "إذا أخرجنا الشباب في المسيرة صوب العاصمة، الآباء سوف يسألون حول هذا الأمر، إذ إنهم أرسلوا أبناءهم من أجل العلم، وليس من أجل الدفاع عن مصالح وسياسات حزب ما".
بهذا، استطاعت الحكومة أن تحدث خرقاً بين مكونات التيار الديني، في حين أنّ الأخير، وتحديداً الفكر "الديوبندي" كان يتوقّع منه المولوي فضل الرحمن التماسك في هذا الوقت، والمشاركة القوية في المسيرة، لأنّ فشلها وفشل الحراك المنتظر بشكل عام، سيقوّي حكومة عمران خان المعروف بمعارضته القوية لسياسات الأحزاب الدينية خلال الفترات السابقة. كما أنّ هذه التطورات قد تؤدي إلى انشقاق بين علماء الدين أنفسهم على المدى البعيد.
منع الشركات اللوجستية
كذلك، عمدت الحكومة إلى منع الشركات اللوجستية، وتحديداً تلك التي توفر أدوات الصوت للاجتماعات والتجمعات، من التعامل مع الأحزاب المعارضة وتوفير الدعم اللوجستي لها في تحركاتها المقبلة، وهو ما أثار قلقاً بين تلك الشركات لأنّ الأهم لديها هو الربح، وأيام المسيرة والاحتجاجات تكون موسمها من أجل ذلك، وبالتالي قد لا ترضخ لقرارات الحكومة. وفي السياق، ذكرت صحيفة "إيكبسريس" الصادرة باللغة الأردية، أنّ مصدراً في الشرطة، لم تسمه، قال لها إنهم تلقّوا أوامر من الداخلية لمنع الشركات من التعامل مع المحتجين.
ضغط لفصل الأحزاب عن المسيرة
وفي حين رفضت "الجمعية" الحوار مع الحكومة، تسعى الأخيرة من خلال لجنة من السياسيين بزعامة وزير الدفاع برويز ختك، لمحاورة الأحزاب السياسية الداعمة للجمعية كي تثنيها عن قرارها بالمشاركة في المسيرة. وقد نسّقت مع "حزب الشعب الباكستاني" بزعامة الرئيس الأسبق آصف علي زرداري، وحزب "الرابطة الإسلامية-جناح نواز شريف"، وأحزاب قومية أخرى لهذا الغرض. لكن لا يبدو أنّ تلك المحاولات ستأتي بأي نتيجة، لأنّ الحزب الحاكم "حركة الإنصاف"، كان قد تعامل بقسوة شديدة مع قيادات تلك الأحزاب، لا سيما من خلال الملاحقات القضائية، وبالتالي هذه فرصة لها للوقوف في وجهه أو القضاء عليه كما يتوقّع الزعيم الديني المولوي فضل الرحمن.
المؤسسة العسكرية في موقف حرج
معلوم أنّ التيار الديني على مرّ التاريخ، كان قد ساعد باكستان كثيراً، خصوصاً في ما واجهته من تحديات، إذ برز دوره إبان الغزو السوفييتي لأفغانستان الذي هدد المنطقة بأسرها، فضلاً عن موقفه حيال نزاع كشمير. والمؤسسة العسكرية على مر الزمن لم تضع نفسها في صدام معه، بل سعت أن يكون إلى جانبها. الآن، وفيما وقف الجزء الكبير من التيار الديني في وجه الحكومة المدعومة من قبل المؤسسة العسكرية، كما يرى بعض السياسيين في باكستان، تجد المؤسسة العسكرية نفسها في موقف حرج، لأنها لن ترضى بأي حال بالوقوف في وجه التيار الديني، إذ إنها تعي جيداً مدى خطورة ذلك. وبالتالي، السؤال هنا حول مستقبل العلاقات بينها وبين الحكومة، لا سيما أنّ الأخيرة قررت نشر قوات للجيش، للتصدي للمتظاهرين. كما أنّ هناك سؤالا مطروحا حول مدى قدرة المؤسسة العسكرية على الخروج من هذا الظرف مع الإبقاء على الحكومة وإرضاء التيار الديني، وذلك سيكون الخيار المفضل لدى صناع القرار في باكستان، تحديداً مؤسسة الجيش، لكن في الوقت الراهن لا توجد أي مؤشرات على حصول ذلك.