الرقة بعد عام من رحيل "داعش": مدينة فوق المقابر وفئران ومخدرات

02 نوفمبر 2018
لا مياه نظيفة ولا كهرباء بالرقة (دليل سليمان/فرانس برس)
+ الخط -
في 20 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أي قبل أيام، مرَّت سنة كاملة على هزيمة تنظيم "داعش"، وسيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) على الرقة، بعد أشهر من حصار المدينة وقصفها بطائرات التحالف الدولي، ومدفعية المليشيا، التي تمثل "وحدات حماية الشعب" الكردية عمودها الفقري. وكان الاعتقاد أن المرحلة الأكثر مأساوية في حياة المدينة هي سيطرة "داعش" عليها بين يناير/ كانون الثاني 2014 وأكتوبر 2017، ليس فقط بسبب ممارسات التنظيم التي فاقت في وحشيتها كل تصور خلال تلك الفترة، بل لأن ذلك أعطى الذريعة لعشرات الدول "المعادية للإرهاب" كي تصوب أسلحتها نحو المدينة الصغيرة ومحافظتها التي لم يسمع العالم بوجودها منذ فيلم "طوفان في بلاد البعث" للراجل عمر أميرالاي، لولا احتلال "داعش". وقبل خروجه من المدينة، زرع عناصر "داعش" آلاف الألغام والشراك فيها، بهدف إعاقة تقدم "قسد"، المحمية من الجو بطائرات التحالف الدولي، لكن "قوات سورية الديمقراطية" لم تتقدم في المدينة وقتها، بل اكتفت بالسيطرة على مساحات لم تدمرها طائرات التحالف، ما ترك الألغام من نصيب المدنيين العائدين.

وتبلغ مساحة مدينة الرقة 31 كيلومتراً مربعاً، وتضم 26 حياً، وفق المخطط التنظيمي لبلديتها. وتتفاوت تقديرات نسبة الدمار بما بين 30 و90 في المائة. لكن كل هذا الأمر عبارة عن تقديرات لمصادر صحافية غالباً، إذ لم يزر المدينة فريق من المهندسين ليحصي المباني المدمرة كلياً أو جزئياً. كما لم يقدر مختصون نسب الدمار في البنية التحتية للمياه والكهرباء والاتصالات، والمستشفيات، والمدارس، أو الشوارع. المؤكد فقط هو تدمير الجسرين، ورفض الأميركيين إعادة بنائهما، أو ترميمهما، لأن ذلك ينتمي إلى فكرة "إعادة الإعمار" المرفوضة أميركياً وأوروبياً قبل إنجاز "الحل السياسي" في سورية.

ولو تم اعتماد رقم وسطي بين الحد الأدنى والأعلى للدمار هو 60 في المائة، فإن الدمار سيكون قد طاول أكثر من 18.6 كيلومتراً مربعاً من مساحة المدينة، وهي النسبة الأعلى من الدمار بين كل المدن السورية. وللتدليل على ذلك، فإن مساحة مدينة حلب 190 كيلومتراً مربعاً، ولو كانت النسبة المدمرة منها 60 في المائة، مثل الرقة، فإن ذلك يعادل 114 كيلومتراً مربعاً، أي ما يقترب من أربعة أضعاف المساحة الكلية للرقة. لكن إحصاءات غير رسمية تقول إن نسبة الدمار في أحياء حلب الشرقية تراوح بين 30 و65 في المائة، إذ إن النظام السوري هو الذي كان يمتلك القوة التدميرية المرعبة للمنطقة التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة. أي أن نسبة الدمار وسطياً تزيد قليلاً عن 45 في المائة، في نصف حلب فقط، إذا استثنينا أحياء حلب الغربية التي بقيت تحت سيطرة قوات النظام وحلفائه.


من حيث الألوان، كان "داعش" يطلي جدران المدينة باللون الأسود ليكتب شعاراته بالأبيض، فعوضتها المليشيات الكردية، خلال السنة الماضية، باللون الأصفر لكتابة شعاراتها بالأحمر. ومن حيث العقيدة، تحاول "قسد" نشر مفاهيم "الأمة الديمقراطية" لحزب العمال الكردستاني، بدلاً من النسخة المتشددة لإسلام "داعش". وكلتا الإيديولوجيتين شمولية تتساوى، أو تزيد، في تضييقها على حياة الناس مع ما كان يمارسه نظام الأسدين خلال أربعة عقود قبل العام 2011. وحتى بعد مرور عام على سيطرة "قسد" على الرقة، لا تتجاوز معظم التقديرات عن عودة النازحين 20 في المئة من السكان الذين كان عددهم يبلغ نحو 450 ألف نسمة، أو 600 ألف نسمة، في تقديرين مختلفين غير متفق عليهما. وبداية العودة كانت إلى المشلب والرميلة الأقل دماراً بين أحياء الرقة، بنسبة تقارب 30 في المائة، بالمقارنة مع نسب دمار تصل إلى 90 في المائة في أحياء وسط المدينة.

التدخل المبكر

وقبل أكثر من ثلاثة أشهر من زوال احتلال "داعش"، أسس "مجلس سورية الديمقراطية" ما يُسمى بـ"مجلس الرقة المدني"، الذي أسس بدوره "فريق التدخل المبكر"، مطلع يونيو/ حزيران 2017. الفريق وصف نفسه بأنه "نتاج مبادرة مجتمعية، ويعمل على إيجاد الحلول لمشاكل الأهالي، من خلال رصد معاناتهم عبر جلسات معهم في إطار إعادة الاستقرار إلى الرقة". لكن المجلس عمل على طريقة النظام، عبر توظيف المعارف والمقربين وفق الانتماءات العشائرية، فتسلل الفساد إليه باكراً، انسجاماً مع اسمه الذي اختارته واشنطن من ضمن وصفة "إعادة الاستقرار إلى الرقة". ولا يزال حال احتياجات أهل الرقة المنكوبين على ما هو عليه تقريباً، فلا مياه نظيفة، ولا كهرباء، ولا اتصالات، ولا مدارس، ولا عمل منتج للدخل، بل أعمال مياومة لا تسد حتى حاجة الناس اليومية. وفي الشهور الماضية، عادت ثلاثة مستشفيات، هي الطب الحديث والمشهداني والتوليد والأطفال، إلى العمل، بالإضافة إلى مراكز طبية تابعة للهلال الأحمر، وعيادات ممولة ومدارة من قبل منظمة "أطباء بلا حدود". ويحاول عشرات الأطباء المتطوعين، أو العائدين إلى الرقة، والعاملين في هذه المستشفيات والعيادات، حماية أنفسهم من المضايقات والسطو المسلح على بيوتهم وعياداتهم، في ظل انفلات الحالة الأمنية تحت سلطة "قسد".

جثث مجهولة

ومنذ خروج "داعش" وحلول "قسد"، هناك أخبار يومية عن انتشال جثث من تحت أنقاض البيوت، واكتشاف مقابر جماعية لمدنيين، وأخرى لعناصر من "داعش"، أو لعناصر من قوات النظام السوري، بالإضافة إلى جثث تحت عنوان "مجهولي الهوية". هذا عدا عن المقابر الفردية في الحدائق العامة، وفي حدائق المنازل، وساحات الجوامع المدمرة. والإحصائية تتغير يومياً في هذا الملف الذي لن يُغلق قريباً. والمحزن أن تكون جثة ساكن البيت "مجهولة الهوية"، حتى لو كانت تعود لنازح إلى الرقة، في الحالات التي يكون فيها مالك المنزل قد فر، وعدم وجود شهود للتعرف على البيت، والجثة. وفي حالات محتملة، قد يكون صاحب الجثة لجأ إلى بيت لا سكان فيه هرباً من القصف. والنتيجة أنه عاش محروماً من الحقوق، ومات ليصبح جثة محرومة من الهوية.

المدارس والمعاهد

توجد في الرقة منظمتان أوروبيتان تدعمان التعليم الأساسي للأطفال، من خلال مدرستين تستوعبان نحو 300 طفل مجاناً، بينما افتتح معلمون معاهد لاستيعاب ما يُقدر بـ50 ألف طالب في المرحلة الابتدائية. والتقدير يخص المحافظة، وليس المدينة فقط، كون التقديرات عن العائدين إلى المدينة تزيد على 60 ألف ساكن في الرقة، وقد تصل إلى 90 ألف ساكن. وقال معلم، شارك في افتتاح أحد المعاهد الخاصة، لـ"العربي الجديد"، إن عدد المعاهد في المحافظة قد يصل إلى 110، منها ما يُدرس طلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية. وأضاف "أعداد التلاميذ متفاوتة بين المعاهد، لكن عددهم في معهدنا 400 طالب وطالبة، وهو عدد كبير جداً، كون العملية التعليمية تتم في شقتين سكنيتين مؤلفتين من ست غرف فقط". أما عن المنهاج التعليمي، فقال "لا توجد كتب في المدارس والمعاهد، لكننا ندرس منهاج وزارة التربية السورية ذاته. التغيير الوحيد في المنهاج هو لون الغلاف الأزرق الذي يحمل شعار اليونيسيف".

مستقبل أسود

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد أدت سيطرة "قسد" على الرقة إلى انتشار المخدرات الرخيصة، من "الكبتاغون" إلى حبوب تدعى "لكزس". ووفق تقرير نشره موقع "المدن" في 13 أكتوبر الحالي، قالت عاملة في مجال الإغاثة إنه "على الباب الخارجي لمدرسة المأمون داخل المدينة القديمة، يمكن للطلاب والمارة رؤية بسطة تبيع بعض مأكولات الأطفال، والحشيش، وحبوب لكزس". وأضافت "من السهولة تمييز الشباب المحبحبين (أي متعاطي الحبوب)، من سلوكهم في شوارع الرقة. أحد عناصر قسد المتعاطين تحرّش بنساء من المشلب، قبل نحو شهر، فردّ السكان بالتظاهر غضباً، لتطلق قسد النار عليهم، ما أوقع عدداً من الجرحى". وملف الحبوب المخدرة والحشيش شائك، ويحتاج إلى تحقيق استقصائي لمعرفة المصدر الرئيسي للمخدرات. لكن لا يمكن لأحد إنكار دور "قسد" في تمدد الظاهرة، إذ إنها كسلطة أمر واقع تتراخى في مكافحتها، لانشغالها بالدفاع عن نفسها ضد شبح "داعش" وفلول النظام. الملف الآخر الشائك هو انتشار الجرذان والفئران في الرقة، نتيجة غياب الخدمات البلدية لأعوام، وانعدام النظافة في الشوارع، حتى قبل تدميرها. الخبر المفرح أخيراً هو لجوء "قسد"، ومجلسها المدني، إلى منح عمال النظافة في الرقة أعلى راتب بين العاملين في الإدارات التابعة لها، في محاولة منها لتشجيع الشباب على العمل في هذا المجال، والمساهمة في تنظيف المدينة.

المساهمون