الجزائر: شهوة السلطة تعصف بوحدة رفاق ثورة التحرير

02 نوفمبر 2014
قضى الصراع على السلطة على الرفاق (فاروق باطيش/فرانس برس)
+ الخط -
لم تكد ثورة التحرير تنتهي في الجزائر، ولم يكد دم الشهداء يبرد على التراب حتى غيرت فوهات البنادق الاتجاه من صدر المستعمر، إلى صدور رفاق الكفاح والنضال، لتبرز شهوة السلطة والطموح الفردي، الذي لم يكن أصيلاً في الثورة، وليس من خصائصها، عشية نهاية مرحلة الكفاح المسلّح والثورة التحريرية.

تلك الثورة التي كانت تحمل بين ضلوعها تيارات سياسية، انصهرت جميعها في الإجماع الوطني من أجل الاستقلال، وجدت في نهايتها مشهداً من الصراعات الدامية التي هددت الدولة الفتية. صراعات دفعت بالجزائريين للخروج إلى الشارع وهم يرددون "سبع سنين بركات" في صيف 1962.

ومن الصفوف الخلفية للثورة، قفز هواري بومدين إلى قيادة أركان جيش الثورة، ونجح في أن يصبح الرجل القوي في الجزائر ورئيسها، بين عامي 1965 حتى وفاته في ديسمبر/كانون الأول 1978. تمكن بومدين في 1965، على الرغم من صغر سنه (31 سنة)، من بناء جيش تحرير، يدين له بالطاعة. كان طموحه للسلطة طافحاً، لكن الشرعية الثوروية كانت تحبطه.

اضطر بومدين للتحالف مع بعض قادة الثورة، ولم يكن وهيئة أركان جيش التحرير التابعة له، قادرين عام 1962 على تسلّم السلطة مباشرة، بسبب عدم انتمائهم إلى مجموعة القادة الأوائل الذين أسسوا "جبهة التحرير".
لم تكن لهم الشرعية التاريخية اللازمة، التي تخوّلهم استلام مقاليد الحكم، وكانت الحكومة المؤقتة المُنتخبة ديمقراطياً من قبل "المجلس الوطني للثورة الجزائرية" في مواجهتهم. لذلك قرر بومدين وهيئة الأركان البحث عن حلفاء سياسيين، تتوفّر فيهم شروط الشرعية التاريخية لمواجهة خصومهم في الحكومة المؤقتة، وحلفائها من بعض قادة الولايات المنتمين إلى "جيش التحرير" في الداخل، كالرئيس أحمد بن بلة ومحمد خيضر ورابح بيطاط.

كان الجيش يُخطّط للاستيلاء على السلطة، وخطفها من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة فرحات عباس، التي تشكّلت في 18 يوليو/تموز 1960، وقاد مفاوضات الاستقلال مع الحكومة الفرنسية. وعندما كانت الحكومة الثالثة للثورة بقيادة بن يوسف بن خدة، المدعومة من قبل قيادات ثورة التحرير، كحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف، تستعدّ لتسلم السلطة، كان الصراع مع الجيش قد بدأ يلقي بظلاله على البلاد.

قررت الحكومة المؤقتة حسم الصراع وأعلنت بعد ثلاثة أسابيع من الاستقلال، حلّ هيئة الأركان وعزل قائدها بومدين ومساعديه. فشل امتحان القوة بعد اصطفاف جيش الحدود وراء قائده. بات الانقسام واقعاً، لكن الجيش أخذ زمام المبادرة فقاد بومدين انقلاباً دفع بموجبه بن بلة إلى السلطة، بعدما دخل إلى العاصمة بالقوة في 4 أغسطس/آب 1962، متجاوزاً قوة عسكرية ثوروية كانت ترابط على تخوم العاصمة، بقيادة قائد الولاية التاريخية الرابعة لخضر بورقعة، الذي يؤكد في كتابه ''اغتيال الثورة''، أن "بومدين المتحالف مع بن بلة، استمال إلى صفه بطرق مختلفة، عدداً من المناضلين، ولا سيما أصحاب الرتب العليا".

لم تعصف شهوة السلطة بالثورة والاستقلال الفتي، لكنها أكلت قادة الثورة أنفسهم، الذين قارعوا المستعمر الفرنسي، سياسياً وعسكرياً، ثم وجدوا أنفسهم على قارعة الثورة. وإذا كان الرصاص الفرنسي قد أخطأهم خلال فترة الكفاح المسلح، فإن النيران الصديقة ورصاص الرفاق لم يخطئهم. فقد حُكم على قائد منطقة الصحراء خلال الثورة، العقيد محمد شعباني، بالإعدام لمعارضته بومدين وبن بلة.

كما قُتل القائد البارز في "مجموعة 22" التي فجّرت الثورة، والقائد التاريخي لجيش التحرير كريم بلقاسم، قُتل في فندق في مدينة فرانكفورت الألمانية. كما لوحق حسين آيت أحمد، ليهرب إلى خارج البلاد عام 1963، وظلّ يعيش في منفاه بسويسرا حتى بداية التسعينيات، قبل أن يعود مؤقتاً إلى الجزائر.

وعانى مؤسس جهاز استخبارات الثورة عبد الحفيظ بوصوف، من التهميش، وكذلك كان مصير القائد البارز في الثورة لخضر بن طوبال. واختار محمد بوضياف المغرب كمنفى اختياري، حتى عودته إلى البلاد عام 1992 ومقتله على يد الحرس الرئاسي.

لم يدم حكم بن بلة سوى ثلاث سنوات، ففي 19 يونيو/حزيران 1965، دفعت شهوة السلطة بومدين إلى الإطاحة ببن بلة، واقتياده إلى السجن الذي ظلّ فيه حتى عام 1980. استولى بومدين على الرئاسة، واحتفظ لنفسه بمنصب رئيس مجلس قيادة الثورة والحكومة ووزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة والاستخبارات.

وأسس بومدين بذلك لسيطرة الجيش والمؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم والسلطة في الجزائر، حتى المرحلة الحالية التي يحكم فيها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والذي نجح، بحسب المراقبين، في إبعاد الجيش شيئاً فشيئاً، تحديداً جهاز الاستخبارات عن صناعة القرار السياسي.

وتُشير كل القراءات الهادئة للواقع الحالي، إلى أن أحداث صيف 1962، والانقلاب الذي قاده الجيش ضد الحكومة المؤقتة، شكّل البداية المؤسسة للحالة الراهنة، ولكل الأحداث التي كان فيها الجيش الحاسم في مفاصلها، كانقلاب 1965 واختيار خليفة بومدين عام 1979، ووقف المسار الانتخابي عام 1992، واختيار مرشح الرئاسة عام 1999.

لكن معركة كسر العظم بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية، تحوّلت إلى صراع لافت بين الرئيس وجهاز الاستخبارات، وانحازت هيئة أركان الجيش بقيادة نائب وزير الدفاع الفريق قايد صالح، إلى صف بوتفليقة.
ويسعى بوتفليقة في الفترة الأخيرة إلى تقليم أظافر جهاز الاستخبارات وتحجيم دوره في القرار السياسي، وأحال عدداً من قيادات الجهاز على التقاعد كالجنرال حسان، وألغى "مكتب الاتصال والتوثيق"، الذي كان مكلّفاً مراقبة الصحافة في الجهاز، ثم ألغى مكاتب الاستخبارات المتواجدة في كل الوزارات والهيئات الرسمية، وحصر دور الجهاز في إدارة ملف الأمن القومي، بالتزامن مع تصعيد الرئيس لجهاز الشرطة وزيادة دوره على الصعيد الأمني على حساب جهاز المخابرات التابع للجيش.

وعلى الرغم من محاولة بوتفليقة وضع هذه القرارات في سياق إعادة تنظيم المنظومة الأمنية، إلا أن المراقبين يعتقدون أن هذه القرارات هي نتاج واضح لصراع عنيف بين الرئاسة واستخبارات الجيش على السلطة والقرار، وهي استمرار لشهوة السلطة التي تحكم قيادات الجيش.

ويكمن طموح بوتفليقة في التأسيس لحكم مدني فعلي، يُعيد الجيش إلى الثكنات ويُبعد جهاز الاستخبارات عن التحكّم في صناعة القرار السياسي، خصوصاً أنه كان بنفسه ضحية ذلك، عندما أبعده الجهاز عن سباق خلافة بومدين، وكان بوتفليقة من أبرز الشخصيات المرشحة للحكم، لكن جهاز الاستخبارات أبعده واختار العقيد الشاذلي بن جديد رئيساً للجمهورية.
المساهمون